انتقل الى رحمة الله وعفوه الاستاذ الكبير عبد الوهاب المسيري صاحب الموسوعة المشهورة عن اليهود والصهيونية والمناضل الكبير علي جبهات متعددة فكرية وسياسية وحقوقية .ووافت المنية المسيري عن سبعين عاما بمستشفي فلسطين بالقاهرة بعد صراع طويل مع المرض الخبيث، ظل يقاومه إلي آخر رمق، بحضوره في الساحة السياسية والفكرية، كان آخرها إشرافه على منظمة كفاية التي مثلت تطورا نوعيا على صعيد النضال المدني في مصر، كما لم يتوقف الراحل عن الكتابة حتى لاقى ربه وكانت آخر مساهماته مقالا كتبه لموقع الجزيرة يوما قبل وفاته. وبعد أن قضى نحو ربع قرن في إعداد موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، وهي أحد أهم الأعمال الموسوعية العربية في القرن الماضي، كان رحمه الله يعد موسوعة أخرى عنوانها الصهيونية وإسرائيل، تتناول إسرائيل من الداخل. كما صدرت للمسيري، الذي بدأ مشواره الأكاديمي دارسا للأدب الإنجليزي والأميركي، عشرات الدراسات والمقالات عن إسرائيل والحركة الصهيونية إضافة إلى دراسات في الأدب المقارن. كتب لي معاصرة الدكتور المسيري لأيام متتالية في عمان عاصمة الأدرن سنة 1999 وكنا ضيوفا على شركة سجى لتسجيل برامج فكرية إسلامية كبرنامج نبوءات وبرنامج المنبر الحر وبرنامج منبر الشباب، وكنا نشتغل 16 ساعة في اليوم في التسجيل، ونقضي منها ساعتين حول مائدة الطعام وفي الأحاديث الجانبية، واكتشفت في الرجل بعدا إنسانيا قد لا يعرفه من يتعامل مع كتبه فقط ، كما أنه مناضل بالحس والفطرة، فكل أعماله الأكاديمية وخطابه الفكري يصب في خدمة قضايا الأمة وقضايا الإنسان، وللرجل قدرة هائلة على الإقناع والاستدلال والمزج بين الفكر والعاطفة في سلوكه ومواقفه وتحليلاته دون أن يضر ذلك بشموخه الأكاديمي. وفي شهادته في الراحل قال الأستاذ المقرئ الإدريسي أبو زيد عزاؤنا في المسيري أنه مات، ولكنه ترك تراثا فكريا هائلا يتوزع على أربعة محاور: الصهيوينة، والعلمانية، والتحيز، والدراسات النقدية الأدبية. ورغم أنها تبدو مجالات متباعدة، إلا أنها عنده مربوطة بخيط واحد، فهي تخضع للتحليل والتفسير بالنموذج الحلولي الذي هو جوهر المشروع الغربي المعاصر، حلول المصلحة محل القيم، وحلول الدولة محل الدين، وحلول إسرائيل محل فلسطين، وأخيرا حلول النسبي محل المطلق. وأضاف أبوزيد بالقول: ليس غريبا أن منطلقه في البحث كان أطروحته عن الشاعر الأمريكي الحلولي والط وايتمان الذي يعتبر ضمن مقدسات الشعب الأمريكي، وقد كان أكبر منظر لما يسميه المسوغات الأخلاقية لحلول الشعب الأوربي محل الشعب الهندي الأحمر في القارة الأمريكية، ومن هنا ، يقول أبو زيد، كان مدخل المسيري لاكتشاف الصهيونية كعقيدة حلولية، ودفعه إلى إنجاز موسوعته المتميزة عن اليهود واليهودية والصهيونية، ومن هناك كان طريقه إلى البحث حول العلمانية، باعتبارها الأساس الفلسفي لإقصاء القيم وحلول المتعة والمنفعة محلها مرورا بإداركه لقضية التحيز الحضاري عموما والمعرفي خصوصا في التجربة الغربية وإنجازه للندوة الضخمة التي صدرت تحت عنوان إشكالية التحيز، وأريد في الأخير أن أشيد إشادة خاصة بمذكراته التي سجل فيها مسيرته الفكرية تحت عنوان رحلتي من الجذور والبذور إلى السمر، ولا أعلم مفكرا عربيا منذ عصر النهضة كتب مذكراته بهذا التميز والإبداع. ختاما رحم الله المسيري وأجزل له المثوبة على ما خدم به أمته. وإذا كان غالبية المثقفين الأكاديميين العرب يبدؤون مناضلين سياسيين وينتهون إما خدما للأنظمة وإما مستقيلين من عالم السياسة، فإن المسيري رحمه الله ختم حياته منخرطا بفاعلية في حركة كفاية ونازلا إلى الشارع مع الشباب في سن أحفاده ورافعا دعوى قضائية ضد الرئيس حسني مبارك في موضوع محاربته للغة العربية.