رحل عن دنيانا د. عبد الوهاب المسيري (3/7/2008)، دون فرصة لوداعه، رغم اشتداد المرض عليه في السنة الأخيرة، والتي شاء القدر أن تتزامن مع بداية سنتي الأولى في المنفى. قابلت عبد الوهاب المسيري لأول مرة في صيف 1965. كان يدرس هو لدرجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي بجامعة روتجرز، بولاية نيوجرسي، وكنت وقتها رئيساً للطلبة العرب في الولاياتالمتحدة وكندا. وبهذه الصفة كنت أزور فروع المنظمة المنتشرة في كل الولاياتالأمريكية الخمسين، ومنها ولاية نيوجرسي. وفاجأني عبد الوهاب المسيري وزميل آخر، اسمه محمد شقير ويدرس الطب، بأنهما يريدان حواراً خاصاً بعد لقائي مع أعضاء فرع المنظمة في جامعتهم. ولم يكن لديّ مانع. ودخل عبد الوهاب في الموضوع مباشرة، باتهامي بأنني «ناصري إصلاحي» بينما هو، كما يصف نفسه وقتها «ثوري ماركسي ماوي»، ومع ذلك فهو يريد الحوار معي، لأن معظم الناصريين الذين قابلهم إلى تاريخه يتسمون «بضحالة فكرية مُخزية». ولأنه قرأ بعض كتاباتي، فإنه يعتقد أنه عثر أخيراً على «ناصري» جدير بالحوار معه! فبقدر ما كان عبد الوهاب المسيري متواضعاً على المستوى الشخصي الإنساني، إلا أنه في تلك المرحلة من حياته كان «متعالياً فكرياً»، ولا صبر لديه لذوي «الثقافة» المحدودة، أو التفكير الشعبوي، أو الخطاب السوقي. وحينما لفتّ انتباهه إلى هذه النزعة الفكرية المتعالية، ذكّرني بقول مأثور للسياسي البريطاني ونستون تشرشل، والذي كان واسع الثقافة، ويتعالى على خصومه السياسيين فكرياً، حيث سأله أحد الصحفيين: لماذا لا تكون متواضعاً مثل منافسك زعيم حزب العمال، كليمنت أتلي، رد تشرشل بأن غريمه أتلي لديه كل الأسباب التي تجبره على هذا التواضع! في هذا الحوار الأول مع عبد الوهاب، كان واضحاً ولعه الشديد بالمنهج الجدلي للفيلسوف الألماني «هيغل»، والذي بناه على صدام الأفكار، ثم جاء أحد تلاميذه، وهو كارل ماركس، وبنى نظرية جديدة على صدام القوى المادية في التاريخ الإنساني، وهو ما أطلق عليه «صراع الطبقات». وكان انتقاد المسيري لثورة يوليوز في مصر وللناصرية عموماً، أنهما بلا نظرية فلسفية. وكانت ردودي المتواضعة عليه هي أن معظم البشر، منذ بداية الخليقة إلى الوقت الحاضر، يولدون، ويشبون، ويعملون، ويموتون، دون نظرية فلسفية! وأن عبد الناصر اجتهد في صياغة رؤية عامة تربط نضال المصريين من أجل حياة كريمة مستقلة بجذورهم الحضارية كعرب ومسلمين، وبواقعهم الجغرافي كأفارقة يعيشون مع شعوب أخرى تناضل من أجل الكرامة والاستقلال في نفس القارة، وأن هذه الرؤية صيغت بلغة بسيطة يفهمها «العامة» ويستجيبون لها. كان المسيري متوقد الذكاء، وسريع الطلقات في حواراته، فكان يلاحقني أو يقاطعني بأسئلة من قبيل: ماذا تعني ب»الكرامة»، و»الاستقلال»، و»العامة»... وقد عُرف عنه في تلك الأيام أنه يمكن أن يترك محاوره في ربع الطريق، أو منتصفه، إذا لم يجده على نفس المستوى السجالي. وحين لفت انتباهه بعض الأصدقاء إلى «عدم اللياقة» في ترك متحدثه هكذا، كانت إجابته سريعة وحاضرة، إن السجال الفكري مثل رياضة التنس... حيث المتعة هي في وجود لاعب آخر، يرد الكرة بندّية... استمرت وقويت علاقتنا طوال سنوات الدراسة في الولاياتالمتحدة... وكثيراً ما كان يأتي خصيصاً لزيارتي في جرين كاسل بولاية أنديانا، حيث كنت أقوم بالتدريس بعد حصولي على الدكتوراه في علم الاجتماع... وكانت المسافة بالسيارة بين الولايتين تستغرق عشر ساعات على الأقل. وحينما وقعت الواقعة في يونيو 1967، التقى الطلبة العرب في مؤتمرهم السنوي، بعد شهرين من الهزيمة... وكان اليوم الأول للمؤتمر عبارة عن «مندبة» أو بكائية جماعية... واليوم الثاني كان اجتهادات جماعية للإجابة عن السؤالين: «كيف» و»لماذا» وقعت الواقعة؟ وكان اليوم الأخير للمؤتمر هو للإجابة عن السؤال: ما العمل؟ قبل هزيمة 1967، كانت أحلام بعض أبناء جيلنا، نحن الدارسون العرب في الخارج في عقد الستينات، تدور حول تحقيق مجتمع اشتراكي عادل وعصري... وكانت أحلام بعضنا الآخر هي كيفية تحقيق الوحدة العربية من الخليج إلى المحيط، وأحلام البعض الثالث هي تحقيق مجتمعات حرة ديمقراطية مفتوحة... وأحلام البعض الرابع هي بعث أمة الخلافة الإسلامية الراشدة... وكان أصحاب هذه الأحلام يتنافسون على قيادة منظمة الطلبة العرب في الولاياتالمتحدة وكندا... ولكن واقع الهزيمة المرة دفع بهذه الأحلام جميعاً إلى خلفية وهوامش الوعي، أما مركز الوعي وبؤرته فقد أصبح منذ صيف 1967 هو كيفية الخروج من فاجعة الهزيمة. وضمن مناقشاتنا، كان هناك سؤلان محوريان طرحناهما في مؤتمرنا بمدينة إيست لانسينج بولاية ميتشجان في ذلك الصيف الحزين، هما: ماذا نعرف عن «العدو» الذي هزمنا وبدد أحلامنا؟ بل ماذا نعرف، نحن كعرب، عن أنفسنا؟ وكان السياسي العراقي د. سعدون حمّادي، أحد رؤساء منظمة الطلبة العرب السابقين، والذي كان لاجئاً في دمشق، قد أرسل إلينا رسالة مطولة، بث فيها همومه من إحدى العواصم العربية المهزومة، وقال لنا بصراحة إن دمشقوالقاهرة وعمان، مازالت في حالة صدمة وشلل، يقعدها عن التفكير الجدي والجريء، والشجاع لمواجهة الكارثة، وأن الطلبة العرب في الولاياتالمتحدة وكندا، بحكم هامش الحرية الكبير الذين يتمتعون به، هم في موقف أفضل لبدء هذا التفكير الجريء والشجاع. استرعت العبارة الأخيرة في رسالة د.سعدون حمّادي اهتماماً غير عادي من زميلنا عبد الوهاب المسيري. وضمن ما علّق به وكان جديداً علينا هو مفهوم «القطيعة المعرفية» مع الماضي. وقال إن هذا ما يقصده سعدون حمّادي، حيث إن فكرنا وخطابنا وممارساتنا الحالية هي التي أدت بنا إلى الهزيمة، وإن من هُزموا قبلنا في القرن العشرين مثل ألمانيا واليابان، مارسوا هذه القطيعة المعرفية، وبدؤوا من جديد، ونهضوا نهضة جبّارة. واقترح عبد الوهاب أن نواصل حوارنا، بعد مؤتمر الطلبة العرب، لعدة أيام في خلوة، أقوم أنا باستضافتها، في مقر جامعتي في جرين كاسل، التي كان يحبها لهدوئها وجمالها... وهو ما كان... وأذكر أن ممن شاركوا في هذه الخلوة، المرحوم فوزي هيكل والمرحوم كمال الإبراشي، وممن لايزالون أحياء يرزقون، د. محمود وهبة (رجل الأعمال بنيويورك)، ود. أحمد صقر (أستاذ إدارة الأعمال بتجارة الإسكندرية)، ود. محمد الضوي (عميد صيدلة طنطا). وكان من أهم الأفكار التي طُرحت، في هذه الخلوة، وقام عبد الوهاب المسيري بتنفيذها، تأليف عمل موسوعي عن اليهودية والصهيونية، وهو ما استغرق عشرين عاماً للانتهاء منه، بعد أن فرغ من دراسة الدكتوراه. وكانت الموسوعة هي محاولة لملء الفراغ المعرفي العربي عن اليهود، واليهودية، والصهيونية، وإسرائيل. واستغرق البحث عن ناشر لهذه الموسوعة عشر سنوات أخرى من عمر عبد الوهاب المسيري، بعد أن خذلته مؤسسة الأهرام. ويُحمد للفقيد أنه لم ييأس، وصبر وثابر، وظل يُحدّث ويُنقح ويضيف إلى الموسوعة إلى أن خرجت إلى الحياة في السنوات الأخيرة. أما إجابة السؤال الثاني، ماذا نعرف عن أنفسنا نحن العرب؟ فقد تولاه مركز جديد، هو مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، والذي رأس مجلس أمنائه د. سعدون حمادي، رحمه الله، ويديره الدكتور خير الدين حسيب، أطال الله عمره، والذي يستحق الحديث عنه مقالاً خاصاً. مرت تحت جسور حياة عبد الوهاب المسيري مياه كثيرة في الأربعة عقود التي مضت بين لقائي به بنيوجرسي ورحيله في قاهرة المعز. اقتربنا، وابتعدنا، واختلفنا، ودخلت معه في سجالات علنية، كان معظمها في السنوات الأخيرة في رحاب الجامعة الأمريكية. وكثيراً ما كنت أداعبه، وخاصة منذ التقيته في السعودية، حيث كان معاراً للتدريس في جامعة الملك عبد العزيز في السبعينات، حيث رأيته يرتدي جلباباً سعودياً، فقلت له: «سبحان مُغير الأحوال، عبد الوهاب، من ماركسي-ماوي، إلى إسلامي وهابي...!»، فرد عليّ بسرعة بديهته المعتادة، وكنت في مهمة استشارية للبنك الدولي في السعودية: «نعم، سبحان مُغير الأحوال، وأنت من ناصري-اشتراكي، إلى مبعوث للبنك اللي بيسلف ويدي»، (مقطع من أغنية لعبد الحليم حافظ عن معركة مصر مع البنك الدولي لبناء السد العالي). لم يكن عبد الوهاب المسري رجل تنظيمات جماعية. فرغم ماركسيته السابقة وإسلاميته اللاحقة، إلا أنه لم ينضم إلى حزب شيوعي ولا إلى جماعة إسلامية، فقد كان المسيري «عازفاً منفرداً»، لذلك استغرقته الموسوعة عشرين عاماً، وكان يمكن إتمامها في ربع هذه المدة لو كان قد توفر لها فريق من الباحثين تحت قيادته. ولمعرفتي به «كعازف منفرد»، اندهشت لانضمامه إلى «حركة كفاية»، ثم قبوله أن يكون منسقاً عاماً لها، خلفاً للناشط الوطني الكبير جورج إسحق. ورغم تهديدات الأجهزة الأمنية له، ثم تنفيذ هذه التهديدات، باختطافه والتنكيل به وتركه عارياً قرب طريق القاهرة-السويس الصحراوي، فإنه ظل صامداً إلى النهاية... وجاء هذا التحول الحركي وهذا الصمود تتويجاً لحياة حافلة بالعطاء. رحم الله الفقيد، وألهم شريكة حياته د. هدى وكريمته د. نور المسيري، ومحبيه الصبر والسلوان.