في محور: مكانة النبي صلى الله عليه وسلم بين الماضي والحاضر من الجلسة الأولى للندوة الدراسية الدولية التي نظمتها جريدة التجديد ومجلة البيان يوم الجمعة 27 يونيو 2008 بالرباط حول موضوع: محمد صلى الله عليه وسلم: المكانة والاستهدافات الجديدة تناول الأستاذ عبد الله العسكر باحث في العلوم الشرعية من السعودية محمر مكانة النبي صلى الله عليه وسلم بين الأصحاب والخصوم، وقد أبرز المنهج النبوي الذي كان يعتمد النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أصحابه أوخصومه حتى انه استطاع أن يجلب حبهم الأصحاب واحترام الخصوم. التجديد تنقل للقراء نص المداخلة تعميما للفائدة: إن الحديث عن جوانب العظمة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمر يطول وحديث لا يمل لأنه حديث عن أعظم إنسان وخير رسول، جمع الله فيه من صفات الكمال البشري ما لم يجتمع في أحد من البشر كائنا من كان. ولقد حمل هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من كريم الأخلاق ونبيل الصفات ما أبهر قلوب محبيه وأعدائه في آن واحد. ولم تكن تلك الصفات والخلال الحميدة بدعا من تاريخه ما عرفها إلى بعد النبوة، كلا لقد نشأ عليها وتمثلها في حياته طفلا وشابا وكهلا حتى إذا رزقه الله الرسالة وعاش مع القرآن تأدب بآدابه فصار أعجوبة الزمان ومضرب الأمثال. هذا قبل النبوة فكيف سيكون بعدها؟ إن هذا الخلق الجم والنفس الطاهرة الرؤوم والقلب الدفاق بالمحبة والرحمة هي التي علقت قلوب أصحابه به وزادت من محبتهم له، حتى إنهم يحزنون إذا فارقوه ساعة من ليل أو نهار. في سند البيهقي ومعجم الطبراني بسند صحيح كما قال الألباني أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه، يعرف الحزن في وجهه فقال له صلى الله عليه وسلم ما غير لونك قال: يارسول الله مابي من مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشتك وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم إني تذكرت الآخرة وخفت ألا أراك لأنك ترفع إلى عليين مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك وإذا لم أدخل الجنة لم أرك أبدا. فسكت الرسول عليه الصلاة والسلام حتى جاءه جبريل بالوحي في قوله تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. وإن الحديث عن أخلاقه وسجاياه أشبه بالمحال وأبعد عن الواقعية منه إلى الخيال، ولا أخفيكم أني وجدت نفسي أمام كم هائل وبحر زاخر من جوانب الروعة والسمو في تعامله صلوات الله وسلامه عليه فآثرت أن أستل عنصرا واحدا من عناصر هذا الموضوع وهو مكامن العمق التربوي والدعوي في محاورة الأصحاب والخصوم. كيف عامل النبي أصحابه؟ لقد كان صلى الله عليه وسلم فاحص النظرة عميق الفهم لمجريات الأحداث وتغير الأحوال والظروف. لم يكن يعامل أصحابه ويعالج أخطاءهم ويسد مكامن النقص عنهم بنمط واحد من العلاج وبطريقة مكرورة معادة في كل حادث وحديث، بل كان حصيفا حكيما يلبس كل حالة لبوسها ويعامل كل إنسان بحسب ما يناسبه ويصلح من حاله. لقد كان تعامله عليه الصلاة والسلام مع أصحابه ابتداء مبنيا على الرحمة والشفقة منطلقا من حب الخير لهم ومنعهم من الشر وأسبابه، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم وما أحوجنا لأن نكون رحماء بمن ندعوهم مشفقين على ما تحت أيدينا من أبنائنا وطلابنا بل وسائر أفراد مجتمعنا الواسع. كم نحن بحاجة إلى أن نتلمس جوانب الإصلاح في حياة المعصوم صلى الله عليه وسلم لننطلق من خلالها إلى إصلاح المعوج وهداية الضال، ولأجل أن نبني صرح ديننا على أسس قوية متينة نستطيع بها مواجهة هذا الطوفان الجارف من فتن الشبهات والشهوات التي يقذف بها أعداؤنا إلينا لنسقط في مستنقعاتها الآسنة ونغرق في بحارها الملوثة. إن الحديث عن هذا الجانب ضرورة ملحة لا ينبغي لقادة الدعوة ورجالات التربية أن يتجاهلوه أو يقللوا من شأنه لأنه أساس النهضة لهذه الأمة التي ألفت الذلة والمهانة عقودا عديدة وأزمنة مديدة. إن الأمة اليوم تعيش واقعا مؤسفا ومهانة مستحكمة مفاصلها متغلغلة في سويدائها، وليست السخرية من نبيها وإهانة كتابها إلا مظهرا واحدا من مظاهر الذلة وتمريغ الكرامة لأمة يبلغ تعداد شعوبها أكثر من مليار ونصف المليار. كل ذلك يتطلب وقفة جادة لإصلاح الأمر من جذوره والبدء في ترتيب البيت من داخله، لأنها سنة الله في تغيير الحال ورفع المهانة إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . لقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم أخطاء أصحابه بوسائل مختلفة حسب حال المخطئ ونوع المعصية فنراه لا يقف أمام من وقعت منه زلة أو خطيئة موقف الفظ الغليظ المتجهم العابس الذي يتناسى كل إيجابية في هذا المذنب، وينسف تاريخه وما يحمل من إيجابيات لأجل هذا الخطأ الذي وقع له. جاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأوتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال صلى الله عليه وسلم لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله. ولك ان تتأمل قول اللاعن: ما أكثر ما يؤتى به يعني أنه أشبه ما يكون بمدمن خمر ومع هذا يصفه رسول الله صلى الله عليه سلم بأنه يحب الله ورسوله، كم هو وقع هذه الكلمة على اللاعن حين يتذكر أنه لعن رجلا يحب الله ورسوله؟ ثم تأمل أثر هذه الكمة نفسها حين تتسلل إلى سمع ذلك الذي وقع في هذه الزلة فتحدث عنده زلزالا من الندم والتحسر على ما صنع. وما أحوجنا إلى هذا التعامل العادل مع المخطئين من إخواننا، كم هو مؤلم أن نرى ونسمع في أوساطنا الدعوية من يترقب أخطاء إخوانه ويتصيد عثراتهم ثم يشن عليهم حربا ضروسا لا هوادة فيها، ينسف بها تاريخهم وجهادهم وبلاءهم في دين الله، مع هذا التسليم إن كان ما فعلوه خطأ، فما بالك إذا كان اجتهادا يسع فيه الخلاف والخائض فيه بين أجر وأجرين؟ ومن الأساليب التي كان ينهجها الرسول صلى الله عليه سلم في علاج أخطاء أصحابه استغلال الأحداث والمواقف من أجل ترسيخ الدرس وتقوية الأثر في النفوس. كيف تعامل الرسول الكريم مع الخصوم حين ننتقل الى الشق الآخر من تعامله صلى الله عليه وسلم مع خصومه فاننا نرى في اسلوبه ومنهجه عليه الصلاة والسلم ما يدعو إلى الانبهار بهذه المنهجية المتزنة في التعامل مع الخصم، هذه المنهجية التي تعتمد على ثوابت راسخة ورؤية واضحة تقود إلى اتخاذ الموقف الصحيح الذي يكون به نصر الإسلام وإبلاغ رسالته من غير ظلم ولا تجني. لقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خصومه موقفا انبهر به حتى من لم يكن على ملته ممن قرأ سيرته وعرف أخلاقه وسجاياه. وإليكم بعض أقوال هؤلاء والحق ما شهدت به الأعداء. يقول مايكل هارت في كتابه الخالدون مائة وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس هؤلاء يقول: لقد اخترت محمدا في أول هذه القائمة لأن محمدا هو الإنسان الوحيد الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوى الديني والدنيوي، ولما كان قوة جبارة لا يستهان بها يمكن أن يقال أيضا: إنه أعظم سياسي عرفه التاريخ ويقول برناردشو الانجليزي في مؤلف اسمه محمد وقد أحرقته السلطات البريطانية: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، وإن رجال الدين في القرون الوسطى ونتيجة للجهل أوالتعصب قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية، ولكنني اطلعت على أمر هذا الرجل فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يعد عدوا للمسيحية، بل يجب أن يسمى منقذ البشرية، وفي رأيي لو أنه تولى أمر العالم اليوم لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنوا البشر إليها . ويقول الفيلسوف الانجليزي توماس كاريل الحائز على جائزة نوبل في كتابه الأبطال : لقد أصبح من الصعب على أي فرد متحدث عن هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب وأن محمدا خداع ومزور. ولقد رأيناه طول حياته راسخ المبدأ، صادق العزم، كريما برا، رؤوفا، تقيا، مناضلا، حرا، رجلا شديد الجد مخلصا وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة، جم البشر والطلاقة كأنما بين جنبيه مصابيح في ليل بهيم. لقد كان من أبرز سمات منهجه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الخصوم أنه كان شديد الوضوح في طرح رسالته عظيم الثقة بالحق الذي يحمله، لا يجامل ولا يداهن وإنما يعرض ما لديه بلا تردد ولا شك. يقف على الصفا ويعلنها بكل وضوح وجلاء إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فيقول له أبو لهب قبحه الله: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، ولم تنقل لنا الروايات أنه رد عليه بشيء، وهذا فيه ملحظ مهم أن الداعية ليس بالضرورة أن يرد على كل شاردة وواردة تعرض له، خاصة إذا كانت تناله بشخصه، وإنما التجاهل أحيانا هو نوع من العلاج حتى لا تستنزف الجهود ويصرف الداعية عن الهدف الأكبر الذي من أجله طرح مشروعه. لنكن أصحاب مبادرة إننا بأمس الحاجة إلى أن نوصل صوتنا إلى العالم واضحا ونقيا لا التواء فيه ولا غموض لأننا أهل حق وحملة مبادئ لم يعرف التاريخ لها نظيرا، إننا يجب أن لا نكون دائما في موقف المدافع الذي ينفي كل تهمة توجه إليه، وإنما الواجب علينا أن نكون أصحاب المبادرة بما نعرضه على العالم من كنوز ثقافتنا وجواهر حضارتنا. إنني لا أعني بهذا الكلام أن نترك باب مدافعة الشبهات وإسقاط الاتهامات التي يرمى بها الإسلام ومقدساته ونبيه، ولكن الذي أعنيه أن لا يكون هذا الأمر المستغرق لكل مجهوداتنا فيمنع عنا عرض الاسلام على بقية شعوب العالم التي لم تشارك في هذه التهم وتلك الضلالات التي رمي بها الاسلام ورسوله صلوات الله وسلامه عليه. من المهم أن نبني سياسة مختلفة في التعامل مع هذه الأزمة المتكررة، سياسة مبنية على الثقة التامة بموروثنا الإسلامي الأصيل، سياسة عامة نواجه بها أعداءنا فكريا وثقافيا وإعلاميا، وهذه السياسة لا تعني العنف والتهور واستفزاز الخصم وإثارته علينا، فإن هذا لن يوقف حماقاته المسعورة على رسولنا صلى الله عليه وسلم لكنها تعني الوضوح في إيصال هذه الرسالة والعزم على وثبة نهضوية شاملة ننفض بها عنا غبار الذلة والمهانة. ولن يكون ذلك إلا بأن نقتفي منهج الرسول صلى اله عليه وسلم في إدارة الصراع مع المخالفين والذي يتزامن معه تزكية وإصلاح نفوس أصحابه حتى تكون مهيأة للقيادة والريادة وهو ما حدث بالفعل حيث لم يتجاوز عمر هذه الأمة نصف قرن من الزمان حتى وصلت طلائع الفتح إلى أقاصي الأرض مشرقا ومغربا لتحمل للعالمية نور الإسلام وتعاليمه السمحاء. وختاما فإننا نذكر بأهمية إيصال رسالة الإسلام إلى العالم واضحة نقية فلا بد أن نستحضر مع هذا كله أن العداء لن ينقطع بين الإسلام والكفر لأن هناك من أوساط أولئك الكفار من يعلم حقيقة هذا الدين، وصدق نبوءة رسول رب العالمين، لكنه الحسد والبغي وإيثار الدنيا على الآخرة كما فعل أسلافهم من قبلهم وكما سيفعل آباؤهم من بعدهم حتى يرث الله الأرض وما عليها، لأنها سنة الله ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا