في محور: مكانة النبي صلى الله عليه وسلم بين الماضي والحاضر من الجلسة الأولى للندوة الدراسية الدولية التي نظمتها جريدة التجديد ومجلة البيان يوم الجمعة 27 يونيو 2008 بالرباط حول موضوع: محمد صلى الله عليه وسلم: المكانة والاستهدافات الجديدة تناول الأستاذ الطيب بوعزة موضوع الظاهر والخفي في حملة الإساءة إلى الإسلام، موضحا ترابط الأحداث التي سبقت حملة الإساءة التي تولت كبرها الصحيفة الدنماركية بالرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، داعيا إلى الانتباه إلى ما وراء الرسوم. و د.الطيب بوعزة، كاتب وباحث متخصص في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام ومختلف قضايا الفكر العربي المعاصر...التجديد تنقل للقراء نص المداخلة تعميما للفائدة د.الطيب بوعزة من الملاحظ في السنوات الثلاث الأخيرة كثرة الاستفزازات والحملات التي تتقصد إثارة الشعور الإسلامي باستهداف رموزه المقدسة، وعلى رأسها المصحف الشريف وشخصية نبينا الكريم. وإذا استرجعنا صيرورة هذه الأحداث سيتبين أنه كلما خفتت حملة إلا انطلقت أخرى. الأمر الذي يؤكد أن استهداف الإسلام ليس مجرد فعل اعتباطي إنما هو عمل يندرج ضمن مخطط لإقامة علاقة صراعية بين الغرب والعالم الإسلامي. وتلتقي هذه الخطة مع رؤى إستراتيجية تكاثر تداولها منذ تسعينيات القرن الماضي، أي مباشرة بعد انهيار المعسكر الشيوعي، حيث بدأ التمكين الفعلي للاسلاموفوبيا بالتنظير لما سمي بالخطر الأخضر، الذي يجب على الغرب أن يعمل على مواجهته، بعد زوال الخطر الأحمر. وعندما عدت إلى دراسة متمعنة لحملة الإساءة إلى الإسلام اتضح لي أنها تتحرك بدوافع سياسية لا علاقة لها بالنقد المعرفي، ولا بحرية التعبير. إنما هي مجرد أعمال سوقية استفزازية تتوسل كل الأدوات الممكنة، وأولها تزييف الحقائق واختلاق الأكاذيب. وأريد هنا الوقوف لدراسة مثالين اثنين للتدليل على ما سبق: أقباط ضد الإسلام: بتجوال غير مقصود عبر بعض صفحات الانترنت، وبانتقال من رابط إلى غيره صادفت موقعا قبطيا، متخصصا ليس في التبشير بدينه كما هو ديدن كل صاحب عقيدة، بل يتخصص فقط في التهجم على الإسلام. ومن أسخف ما قرأته في هذا الموقع المتهافت مقالة ترتكز على مسرحية فولتير محمد لتتهجم بها على شخصية نبي الإسلام الخاتم. وتتبعت بعض الروابط فانتهيت إلى موقع إلحادي وجدته هو كذلك يستثمر نفس المسرحية بذات الفهم المغلوط لنقد الإسلام؛ الأمر الذي يطرح أكثر من علامة استفهام حول سر هذا الاتفاق في الموضوع والطرح والرؤية بين مواقع مسيحية وأخرى تزعم أنها بلا دين. ثم إنه تجاوز، بل تجوز كبير أن أسمي ما قرأت في هذه المواقع نقدا، إذ يكفي الباحث أن يطلع على هذه المقالات الرديئة في أسلوبها ، والفارغة في مضمونها، والهابطة في قيمها، ليدرك أن القائمين على هذه المواقع، والكاتبين فيها مجموعة من الجماجم لا تفرق بين النقد والنباح، فتحسب الثاني عديل الأول وشبيهه! وهكذا تجدها تسطر عشرات الصفحات كلها سب مقذع للإسلام ورموزه. والذي يكتب مستثمرا مسرحية فولتير على هذا النحو الخاطئ هو واحد من اثنين : إما جاهل لا يدرك دلالة المسرحية، والأساس القصدي المحرك لها؛ أو أنه يدرك ذلك جيدا، لكن أعماه التعصب، وافتقار الأمانة العلمية، فاستثمر فقرات ونصوص المسرحية في عكس مقصود مؤلفها. مع الحرص على عدم الإشارة ولو بكلمة إلى اعتذار فولتير لاحقا عما قاله في حق ديانة محمد عليه الصلاة والسلام. ولو كان للقائمين على هذا الموقع قليل من الإدراك لا أقول للإسلام، فهذا يبدو أنه لا سبيل لهم إلى تحصيله ؛لأنهم معاقون ذهنيا بفعل التعصب، إنما أقصد لو أنهم كان لديهم قليل من الإدراك لحقل بحثي استشراقي يسمى الاسلامولوجيا، لتنبهوا إلى أمر صادم لشعورهم، وهو أن علماء الإسلامولوجيا الغربيين، لم يعيروا، عند دراستهم لموقف فولتير من الإسلام، كثير اهتمام ولا قليله لمسرحيته؛ لأنهم أدركوا أنها مجرد نص هجائي مفرغ من القيمة المعرفية. ويمكن أن نستدل على قولنا هذا بأكثر من شاهد، إنما لضيق المقام نشير إلى موقف جورج هنري بوسكي الذي يقول في مقاله فولتير والإسلام المنشور بمجلة ستاديا إسلاميكا:إن مسرحية محمد... لا مكان لها إلا في التاريخ الأدبي لأوربا... وإذا أردنا، لها مكانا أيضا فينبغي أن تُدرج في تاريخ بروباغاندا الفلاسفة. وكل هذا لا يهم الاسلامولوجي . مضيفا : لقد استغل فولتيرالإسلام. .. مبررا للتهجم على الأديان، و المسيحية بشكل عام، والكاثوليكية بشكل خاص.. كما يقول خوان غويتيسلو في مقالته الموسومة بنفس العنوان(فولتير والإسلام)، المنشورة بيومية البايس الاسبانية في 4 أيار / مايو 2006 معلقا على المسرحية :إذا نحن قرأنا النص بعناية، سنكتشف بأن الهجوم علي محمد يغطي هجوما آخر موجه إلي مسيح النصارى وإلي الأنبياء التوراتيين. بل إن معاصري فولتير أنفسهم أدركوا أن القصد الكامن في المسرحية لم يكن نقد رسول الإسلام، بل نقد الدين المسيحي؛ ودليلنا على ذلك أن الحركة المسيحية الجانسينية هاجمت بشدة المسرحية بعد عرضها في لاكوميدي فرنسيز سنة 1742م؛ لأنها أدركت الغرض الحقيقي لفولتير. ويكفي هذا فضحا لحقيقة هذه المواقع القبطية التي لا تعرف لأمانة الكلمة معنى، ولا لمنهجية البحث العلمي مدلولا، فتأخذ نصا أجمع المتخصصون على اعتباره هجوما على المسيحية، لتقلبه على رأسه قصد بيعه للسذج بوصفه هجوما على الإسلام!!! أما المثال الثاني، فنستحضره للكشف عن زيف شعار حرية الفكر والتعبير الفني. وهو الشعار الذي تم رفعه عند الدفاع عن الرسوم الدانماركية. حيث كشف لي بحثي في هذه الحملة معطيات تؤكد أن استهداف الإسلام واستفزاز مشاعر المسلمين صادر عن إرادة سياسية وأجندة تشتغل حتى ضد مصلحة الغرب ذاته! ما وراء الرسوم الدنماركية بدأت الحكاية في سبتمبر 2005 عندما نشرت الصحافة الدانماركية خبرا يبدو عاديا في الظاهر، وهو أن مؤلفا لقصص الأطفال ذكر انه عجز عن إيجاد رسام يمده ببعض الرسومات لشخصية النبي محمد ليدرجها ضمن كتاب خطه عن الإسلام ؛ والسبب حسب زعمه هو أن الرسامين يخافون من رسم هذه الشخصية المقدسة لدى المسلمين؟ مباشرة بعد هذا الخبر قام رئيس تحرير جيلاند بوست التي هي إحدى أكبر الجرائد الدانماركية بالإعلان عن مسابقة في رسم شخصية النبي محمد عليه الصلاة والسلام. ثم بعد أيام تم نشر اثنى عشر رسما كاريكاتوريا لمجموعة من الرسامين. مما أثار ردود فعل على مستوى العالم الإسلامي، فكانت الأحداث المعلومة التي لا تزال بواعثها وتمظهراتها تتفاعل بين حين وآخر. وإذا نظرنا إلى الرؤية الغربية ورد فعلها تجاه هذا الاحتجاج الإسلامي سنلاحظ أن المتداول في كثير من المقالات والتصريحات الصحفية هو أن صياغة هذه الرسوم و نشرها ليس فعلا يستوجب الاعتذار عنه، أو منع وقوعه و تكراره؛ لأن ذلك جزء من حرية التعبير. بل إن من مظاهر هذه الحرية في الغرب هو أن المقدس الديني المسيحي نفسه ليس له أي حصانة ضد النقد أو حتى الترسيم الكاريكاتوري. فكيف يطالب المسلمون بأن يغير الغرب قيمه وقوانينه؟ هذا هو ذلك السطح الظاهر من القضية. ونريد هنا أن نلفت الانتباه إلى باطنها. ذلك الباطن المخفي الذي لا يراد له أن يكشف أو يبرز. وسأعتمد على بعض المعطيات التي استحضرها الباحث الفرنسي تيري ميسان، للتوكيد على حقيقة هذه الحملات المسيئة. أولا : إن الصحيفة الدانماركية التي قادت هذه العملية منذ ابتدائها معروف عنها أنها جريدة يمينية متعصبة. بل لوحظ عليها أنها قبل افتعالها لأزمة الرسوم هذه بثلاث سنوات قادت حملة شرسة ضد المهاجرين. وقد دامت هذه الحملة المكثفة والمركزة ثلاث سنوات كاملة، وأسهمت الجريدة إعلاميا في دعم أندري فوغ غاسموسان الذي صار لاحقا رئيسا للوزراء. وهو الشخص الذي يقول عنه تيري ميسان بأنه بطل حركة الإسلاموفوبيا في الدانمارك. ثانيا: إن صحيفة جيلاند بوست مشكوك في مصداقيتها التحريرية فيما يخص نظرتها إلى الإسلام والمهاجرين المسلمين. ودليلي على هذا ليس فقط طبيعة الحملة التي قادتها ضد نبينا عليه الصلاة والسلام، بل لو رجعنا قبل ذلك بسنوات، سنجد أنه في عام 2002 أصدر المجلس الاستشاري الدانماركي للصحافة تقريرا يشير إلى أن هذه الجريدة خرقت ميثاق شرف المهنة، عندما ذكرت في مقال لها، دون أي داع، الأصول الاثنية الاسلامية لبعض المتهمين في إحدى الجرائم. وفي سنة 2004 نشرت الإنار أي فدرالية الجمعيات الأوربية المناهضة للعنصرية تقريرا عن واقع الإعلام في الدانمارك ، خصت فيه هذه الصحيفة بالذات بذكرها بوصفها تسوق خطابا يمينيا متشددا. ويشير تيري ميسان إلى أن هذه الملاحظة التي سجلتها إنار دفعت إلى توسيع البحث في نوعية الخطاب الإعلامي لهذه الجريدة. وكانت نتيجة تحليل خطاب هذه الصحيفة خلال مدة ثلاثة أشهر فقط دالة على خطر هذا النوع من الخطاب الذي يفتعل تفجير الصراع بين الاثنيات والثقافات. لقد كانت النتيجة أن 53 في المائة من المقالات العامة لجريدة جيلاند بوست، و71 في المائة من المختصرات، و73 في المائة من الزوايا، و79 في المائة من كلمات العدد، و81 في المائة من مراسلات القراء المنشورة فيها كلها تتناول موضوع المهاجرين بالحرص على تقديمهم بصورة سلبية! لسنا إذن أمام جريدة عادية، بل أمام صحيفة متخصصة في إشاعة خطاب كراهية الآخر. مع الحرص على تخصيص الآخر الإسلامي بالنقد والتشويه. وهذا كله قبل أحداث الرسوم بسنوات، الأمر الذي يؤكد أن نشر هذه الخربشات المسماة فنا لم يكن بهدف الدفاع عن حرية التعبير الفني ، بل جزءا من سياسة تشويه مقصود لقيم الثقافة الإسلامية، يندرج ضمن مخطط يحكم التوجه الإعلامي لهذه الصحيفة الدانماركية. ثالثا: لابد من الوقوف أيضا عند شخصية مسؤول الملحق الثقافي لصحيفة جيلاند بوست، الذي حرر إعلان مسابقة الرسوم الهابطة، أقصد الصحفي فليمنغ روس. حيث إذا بحثنا قليلا سنجد أن الوسم الذي يوصف به هذا الشخص في الوسط الصحفي الدانماركي ذاته هو أنه صهيوني. بل يحرص تيري ميسان على وصفه بكونه يهودي صهيوني. كما أن فليمنغ روس يشتهر في الدانمارك بكونه المسوق الإعلامي لأطروحات منظر الإسلاموفوبيا دانيال ببيس، بل يقدم نفسه كصديق شخصي له! رابعا: في مقال نشره بتاريخ 25 أكتوبر 2004 يستحضر روس حواراته مع بيبس. وما يهم في هذا المقال هو هذه الفقرة الدالة على أن فكرة افتعال جريمة الرسوم ربما كانت تختمر في ذهنه.إذ يقول: إن بيبس مندهش من عدم الدق بقوة على ناقوس الخطر في أوربا ضد التحدي الذي يمثله الإسلام.!! ولدينا هنا سؤال: هل يكون هذا القول تعبيرا عن اعتمال الفكرة بداخل روس، أي افتعال شيء ما لدق ناقوس الخطر؟! إن صيرورة الأحداث اللاحقة تؤكد ذلك. خامسا: ثمة معطى آخر ينبغي استحضاره لفهم الدافع المحرك لهذه الحملة المسيئة للإسلام، وهي أن مديرة تحرير صحيفة جيلاند بوست هي ميرت إلدروب التي هي زوج أندري إلدروب مدير شركة الهيدرو كاربور الدانماركية. الذي يشارك بمنصبه هذا مع رئيس الوزراء في الاجتماعات السنوية لمجموعة بلدربرغ. تلك المجموعة التي تعد ناديا مغلقا، وأحد المؤسسات التابعة سياسيا واستراتيجيا لحلف شمال الأطلسي. ماذا يعني هذا؟ وما علاقته بموضوعنا؟ لفهم العلاقة ينبغي أن نضيف إلى ما سبق المعلومة التالية: بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان من بين الخطوات التي اعتمدها الحلف هو تمويل الدراسات حول ما أسماه بالعدو الداخلي أي كيان المهاجرين ذوي الأصول الإسلامية! سادسا : إذا تتبعنا صيرورة الأحداث سنجد أن فرانس سوار كانت أول جريدة فرنسية تعلن عن إعادة نشر الرسوم الدانماركية. وهنا ينبغي أن نطرح السؤال التالي: لماذا تكون هذه الجريدة الفرنسية أول صحيفة تعيد نشر هذه الرسوم؟هل الأمر مجرد صدفة؟ هل هو نابع من اقتناع الصحيفة أكثر من غيرها بقيمة حرية الفعل الفني؟! حرصت فرانس سوار على تغليف فعلها هذا بخطاب يستثمر بعناية مجموعة مفاهيم وشعارات جذابة مثل الدفاع عن حق التعبير، وحق الفنان في إطلاق قدراته الإبداعية، ورفض كل أشكال السلط على حرية التفكير النقدي في المقدس. ولن نناقش هنا مدى مصداقية هذه الشعارات، وليس المقام يسمح بأن أحلل مفهوم الإبداع الفني، وتمييز دلالة النقد المعرفي للمقدس الديني عن سب المقدس الذي لا يفعل سوى الاعتداء على مشاعر معتنقيه. كما لن نخاطب الجريدة باستفهام يلفت انتباهها إلى ما يلي : هل لديها الجرأة لكي تناقش مثلا عدد اليهود الذي ماتوا في المحرقة اليهودية؟ وهل بإمكانها أن تنشر مقالا لا يشكك في اضطهاد اليهود ، بل فقط يقلل من الرقم المتداول عن عدد المضطهدين؟ لن نقول هذا ولا ذاك، إنما التزاما بمنهج بحثنا عن الخفي خلف هذه الحملة المسيئة للإسلام أريد أن أبرز معطى آخر وهو : لقد كانت جريدة فرانس سوار قُبَيْلَ إعادة نشرها للرسوم الدانماركية تعيش أزمة مادية خانقة. وكانت في معرض البيع قبل ذلك. وآلت الأمور من بعد إلى شرائها من قبل مستثمر تم الحرص وقتئذ على عدم الإعلان عن اسمه! ولم يعرف إلا بعد شهور من إعادة نشر فرانس سوار للرسوم. وكما يقال : إذا عرف السبب بطل العجب! فالمستثمر الذي اشترى الصحيفة لم يكن سوى تاجر السلاح أركادي غايداماك رئيس نادي بيتار الصهيوني، وهو الذي تقدم لانتخابات بلدية القدس تحت يافطة حزب الليكود!! إذن ليست القضية حرية إبداع، ولا حفزا للتفكير، بل هي حملة منظمة تستهدف الإساءة للإسلام ومصالح الغرب ذاته، بإدخاله في صراع وصدام مع العالم الإسلامي خدمة لأجندة يمين متطرف متصهين.