عرف العمل الإسلامي في القرن العشرين تطورات مهمة، وتحولات كبيرة مست في بعض الأحيان الأصول والمنطلقات والنظريات...، وقد ارتبطت هذه التطورات في غالبها بالخصوصيات المحلية والمرجعيات الثقافية المهيمنة على قادة العمل في هذا البلد أو ذاك. فاليوم وبعد أزيد من قرن من الزمان يصح الحديث عن تراث إسلامي يعبر في جانب منه على جانب من فعالية العقل المسلم في العصر الحديث، ويدل كذلك على نجاحه أو فشله في الدفع بحركة الإسلام إلى الأمام، وهل استطاع استغلال كل الإمكانيات التاريخية التي أتيحت له؟. ومن المظاهر الأساسية لهذا التراث ما يسمى بالأدبيات؛ فالعمل الإسلامي في أي تجربة من التجارب، هو خلاصة الأدبيات التي استطاع أن يبلورها في تفاعله مع الواقع، وإكراهاته، وإمكاناته. ففي المغرب انفرد العمل الإسلامي بمجموعة من الأدبيات، التي لم يتح للعقل الإسلامي الشرقي إدراكها وإبداعها، يمكن اعتبارها العناوين الصحيحة للخصوصية المغربية، وتعكس مفردات الإصلاح في المجال السياسي والاجتماعي العديد من هذه الأدبيات، فحيوية أي عمل إسلامي وعنفوانه مرتبطة بشكل رئيسي وأساسي بقدرته على إنتاج المزيد من هذه الأدبيات في سياق تفاعله مع واقع الإصلاح. لقد دخلت الحركة الإسلامية المغربية منذ قرابة عشر سنوات تجربة متميزة على صعيد العالم العربي، أعادت من خلالها تعريف المشروع الإسلامي، وإبداع نماذج جديدة لتنفيذه وتنزيله تختلف كثيرا عما هو موجود في الشرق، وإذا كانت هذه الدينامية شاملة مست بدرجات مختلفة -تقريبا- كافة مكونات الحركة الإسلامية المغربية، فإن حركة التوحيد والإصلاح كان نصيبها كبيرا، وإبداعها مثيرا؛ لقد جددت على مستوى الصيغة الشمولية للعمل الإسلامي، وخرجت تقريبا عن كل التجارب المعروفة في العالم العربي والإسلامي، ففي هذا السياق أكدت على وحدة المشروع وشموليته من الناحية العقدية والحضارية، غير أنها اختارت تنزيله بطريقة جزئية تناسب الثقافة العصرية وبنية الدولة الحديثة، ففي المجال السياسي أسست حزبا سياسيا، وفي المجال الاجتماعي أسست العديد من الهيئات المدنية، وهكذا في سائر المجالات، واحتفظت الحركة الأم لنفسها بوظائف الدعوة والتربية والتكوين. ومن المرادفات الأساسية لهذا الانتقال الكبير على صعيد الحركة الإسلامية تبني حركة التوحيد والإصلاح سياسة التخطيط الاستراتيجي الطويل الأمد نسبيا، الذي يتميز بالاحترافية والخبرة العالية على مستوى الإعداد، وبالصرامة والوضوح أثناء الإنجاز. وإذا كانت بداية هذا التحول ترجع إلى عشر سنوات إلى الوراء، فإن بعض عيوبه ومضاعفاته السلبية أخذت في الظهور وبشكل واضح في السنوات الأخيرة، وإن كانت لا ترقى إلى درجة التشكيك في صواب المشروع، فإنها تدعو وبشكل ملح إلى التدخل لتعديل النموذج ومعالجة السلبيات الناجمة عنه. إن الانطلاق من وحدة المشروع، واعتماد سياسة التخصص، والتمرن على التفكير والتخطيط الاستراتيجي في للعمل الإسلامي في المغرب، وبالنظر إلى طبيعة السلبيات التي أفرزها، يحتاج إلى مفهوم جديد ما زال غائبا عن الثقافة الإسلامية، وعلى مستوى الأدبيات التنظيمية، وهو مفهوم الإيقاع الاستراتيجي. وسنحاول فيما يلي بيانه بما يكفي: إن سياسة التخصص التي اعتمدتها الحركة الإسلامية، وتحديدا حركة التوحيد والإصلاح، جعلت بعض التخصصات تستقل بوتيرتها العملية، وتسرع الخطى في تنفيذ وظائفها، بغض النظر عن وتيرة الوظائف الأخرى، والتقدير الاستراتيجي لطبيعة المرحلة والإمكانات التي تتيحها للإصلاح. وفي المقابل ضعفت بعض التخصصات وأبطأت العمل والحركة في اتجاه أهدافها ووظائفها، رغم الإمكانات المتاحة أمامها. وقد أدت هذه الفوضى الاستراتيجية إلى ضعف بعض وظائف العمل الإسلامي رغم أهميتها وفائضها الإيجابي على المشروع، وبالمقابل تقدم بعض الوظائف رغم ضعف مردودها الإصلاحي، ونتيجة لهذا طفت على السطح بعض المواقف المتشنجة مدافعة عن هذا التخصص أو ذاك، وهذا إن استمر يهدد استقرار المشروع ووحدته، الشيء الذي يحتم التدخل لإصلاح هذا العطب. ومن الوسائل الضرورية التي نراها نافعة للخروج من حالة الفوضى الاستراتيجية التي بدأت مقدماتها في الظهور في صفوف الحركة الإسلامية المغربية هو تحديد ما يسمى بالإيقاع الاستراتيجي للتخصصات، الذي يسمح بالتحكم في وتيرته العملية ونشاطه الحيوي، في ارتباط بمصالح المشروع العليا، ذلك أنه في حالة الاستسلام لحيوية كل قطاع أو تخصص ونشاطه الداخلي، سواء كان إيجابيا أو سلبيا فإن النتيجة في النهاية خسارة المشروع أو انهيار وحدته. فمن خلال مفهوم الإيقاع الاستراتيجي يمكن التوافق حول السرعة المشروعة لأي تخصص في ارتباط بالظرفية العامة والخاصة وغايات المشروع، ونتفادى العديد من المشاكل الداخلية والتهديدات الخارجية. إن التحديد الموضوعي للإيقاع الاستراتيجي لتخصصات العمل الإسلامي يقتضي وجود طائفة من المفكرين الاستراتيجيين، الذين يستطيعون تحقيق الانفصال عن مواقع عملهم الضيقة، والتفكير في كلية المشروع ومصالحه العليا، بعيدا عن نزعات التجزيء والتفتيت. ويبدو من الناحية العملية أن الحركة الإسلامية المغربية غير بعيدة عن هذا الهدف، نظرا لاكتمال الأساس الموضوعي لمفهوم الإيقاع الاستراتيجي من جهة، وبحكم خبرتها في تحقيق الانتقالات الكبرى، ومرونة ورياضة جسمها من جهة ثانية.