يقتصر النظر النقدي للحركة الإسلامية المعاصرة على أدائها الدعوي والسياسي والثقافي...، وعلى حصيلتها الإصلاحية في الواقع. ويكون المنطلق في هذا التقويم والنقد في الغالب مدى نفوذ الإسلام وشريعته الأخلاقية والقانونية في أنحاء المجتمع المختلفة. وهذه الوجهة في النقد مهمة ومفيدة ولكنها في أحيان كثيرة تتجاوز حدود الإنصاف والعدل، وكذا الموضوعية، أي أنها تخفي عن الأنظار بعض النجاحات الكبيرة والاستثنائية التي حققتها الحركة الإسلامية في مختلف البلاد، ويرجع هذا في الواقع إلى عيب منهجي تعاني منه العديد من المقاربات النقدية للعمل الإسلامي المعاصر، وأيضا لطبيعة المشروع الإسلامي المتسم بالشمولية. فما هي خإذا- هذه النجاحات التي لا زالت مجهولة، وغير معترف بها؟ وعلى ماذا تؤشر فيما يخص وظيفة العمل الإسلامي؟ مرت في صفوف الحركة الإسلامية المعاصرة الملايين من الناس، وكل غرف منها في حدود إمكانياته واستطاعته، وكان الأمل الكبير للحركة الاحتفاظ بكل هؤلاء وتجنيدهم لخدمة وظائفها المختلفة في جميع المجالات، لكن قلة من هؤلاء هي التي بقيت في صفوف الحركة واستمرت وفية لها، من الناحية التنظيمية والفكرية، وتكون الحسرة كبيرة في بعض الأحيان على بعض الأسماء، التي تعرف بنباهتها وقدراتها. وقد أشارت أدبيات الحركة الإسلامية إلى هؤلاء بأسماء ونعوت متعددة كانت في بعض الأحيان قاسية، ومن بين هذه النعوت المتساقطون، وهو ما يكشف عن نظرة سلبية لهؤلاء. وبناء على هذا جنحت الكثير من المقاربات إلى الحكم على الحركة الإسلامية من منطلق عدد أعضائها والناشطين في صفوفها، وهو ما أظهر العديد منها بمظهر الماء الراكد، الذي لا يتغير حجمه ومستواه، أو بمظهر المتراجع الذي ينقص عدد أعضائه. لكن هذه النظرة البائسة للعمل الإسلامي، والتي ساهمت طبيعة الحركة الإسلامية في إنتاجها، أهملت هؤلاء الخريجين وليس الخارجين، ولم تعرهم أي اهتمام، فالذين اضطرتهم الظروف أو الوظائف أو الميولات الفردية أوالخلافات الفكرية.. أو أشياء أخرى لمغادرة صفوف الحركة، لم يقطعوا في غالبيتهم صلتهم بالتدين، بل في الكثير من الحالات اصطحبوا معهم الرسالة الدعوية إلى حيث هم، سواء بالحال أو المقال، أو بعبارة أوضح استفادت الحركة الإسلامية من ريعهم الدعوي، ومن ثم النفوذ السياسي والثقافي الذي تتمتع به الحركة الإسلامية رغم حملات التشويه المكثفة التي استهدفتها يرجع في جانب منه إلى هذه الفئة التي مرت بالحركة الإسلامية وتعرفت إليها عن قرب. فالنجاح الحقيقي للحركة الإسلامية لا يتجلى فقط في الذين بقوا في صفوفها، ولكن كذلك في الذين تخرجوا منها، وملئوا زوايا في المجتمع، لم تستطع الحركة بلوغها، ربما لأنها لا تشكل أولوية بالنسبة إليها، أو أنها محرمة عليها لا يدخلها المنتمون...إلخ. ومما لفت انتباهنا لهذا المظهر من النجاح الأسماء الكثيرة التي قضت فترة مهمة من عمرها داخل الحركة الإسلامية، وتتبوأ اليوم مكانة مهمة على صعيد الدولة والمجتمع، وفي المجالات المختلفة الدينية والإعلامية والمدنية. والمهم في هذا الأمر ليس سابقة هذه العناصر في الحركة الإسلامية، فقد يكون هذا أضعف ملمح في الموضوع، ولكن المهم هو أداؤها الإسلامي والإصلاحي في المجالات التي تشتغل بها. إن ظاهرة النجاح هاته، تعود بنا إلى الوظيفة المركزية والأساسية للحركة الإسلامية، وأسلوب تدبيرها للموارد البشرية، فالحركة الإسلامية ومنذ ظهورها في بداية القرن العشرين كانت غايتها إشاعة قيم التدين الصحيح في المجتمع المسلم التي درست واختفت لأسباب كثيرة، وسلكت لتحقيق هذه الغاية سبلا مختلفة ومتعددة، وربما في بعض التجارب -وفي خضم التطور- أصبح حكم الوسائل وقيمتها أقوى وأهم من الأصول والغايات، ونافست بعض الوظائف (السياسية والثقافية..) الوظيفة المركزية وهي الدعوة أو الإحياء، وقد فرضت هذه التطورات والظروف على الحركة الإسلامية الحرص على مواردها البشرية والتمسك بها، وللإشارة فقد تطورت هذه التجربة ونمت في ظل تنظيم شمولي وثقافة تنزع لذلك. ومن ثم ما اعتبرناه نجاحا من نجاحات الحركة الإسلامية في هذه المقالة لم يكن هدفا مباشرا لها، ومقصودا عقليا في برامجها ومخططاتها، وإنما تحقق على هامش تجربتها، وكانت الحصيلة ستكون أعظم لو أن الحركة الإسلامية قصدت هذا الأمر وخططت له، بحيث تجعل من أعمالها المركزية وأنشطتها الحيوية تكوين طائفة من الدعاة وتخريج مجموعة من الكوادر البشرية الحاملة لرسالة الإسلام لا لتعمل في صفوفها وترتبط إلى النهاية بها، ولكن لتنفذ إلى قلب المجتمع وتلقي فيه بحملها الفكري والقيمي في المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية، وأعتقد أن تجربة الحركة الإسلامية كانت ستكون أغنى لو أنها ذهبت في هذا الاتجاه. وحديثنا بهذه الصورة عن ماضي لم يقع، فيه إشارة إلى طبيعة التحول الذي يجب أن تقدم عليه الحركة الإسلامية في المستقبل، حتى تحقق اختراقات حقيقية للمناطق التي لا زالت تمانع أمام المشروع الإسلامي.