إن تجربة الإنسان مع السلطة من حيث أسبابها وطرق الإمساك بها تجربة غنية ومتطورة من الناحية التاريخية، تختلف مشروعياتها تبعا لتجارب الأمم والشعوب والحضارات فالمسلمون في مستهل تاريخهم عقلوا السلطة بالدين وعليه تأسست شرعيتها، ليعودوا القهقرى بعد ذلك نحو العصبية القبلية، والغرب كذلك تأرجح تاريخ السلطة لديه قبل النهضة بين شرعيتين القبلية والكنيسة. ومهما تكن مراجع هذه السلطة ومصادر شرعيتها فإن الثروة بمظاهرها المختلفة وأسبابها المتعددة تعتبر أساسها الموضوعي والمادي فلا توجد سلطة في المجال الإسلامي وغيره من المجالات نشأت فقيرة وبدون أهلية مالية. ومن الدواعي الأساسية لمراجعة هذا الموضوع وفتح النقاش حوله هو ما نلاحظه من تطلع الإسلاميين في الكثير من البلدان للسلطة دون أن يستجمعوا شروطها ويتحققوا من أسبابها، وعلى رأس هذه الأسباب والشروط الأهلية المالية أو تدبير حد أدنى من الثروة في بلدانهم، بل أكثر من هذا نصادف في أدبياتهم مفردات واتجاهات تحقر الثروة وتحط من قدر العاملين لأجلها. فأسلوب الإسلاميين في مقاربة إشكالية السلطة ينقصه التحليل وتطبعه العشوائية، ويتجلى ذلك في موقفهم من المال والغنى والثروة من الناحية الأخلاقية، وأيضا في تصورهم لتاريخ السلطة ومآلها في الماضي والحاضر. وعليه، فإن اقتراب الإسلاميين من السلطة اليوم يجب أن يكون اقترابا ثقافيا أولا، يخول لهم مراجعة موقفهم الأخلاقي والثقافي من الثروة باعتبارها الأساس الموضوعي والمادي للسلطة، ويرفع عنهم حرج التحكم في جزء مهم منها. ولا يبدو في المحتوى الثقافي المعاصر أثر لهذا الوعي/المراجعة، بحيث لا زالت المقاربة السياسية هي المفضلة لدى الإسلاميين للخوض في موضوع السلطة. من الأوائل في المجال العربي والإسلامي الذين تناولوا ظاهرة السلطة واجتهدوا في تحليلها وتفسيرها من الناحية التاريخية والثقافية العلامة عبد الرحمن ابن خلدون، ففي عمله الرائع وغير المسبوق كتاب العبر ربط السلطة بالعصبية القبلية وجعلها من ثمارها المباشرة، فحيثما برزت عصبية من العصبيات وهيمنت، تطلعت لممارسة السلطة السياسية والتحكم في الرقاب التي تحتها وحولها، وتعتبر هذه القاعدة الأساس المعرفي والنظري لتاريخ ابن خلدون، فالدول والسلطانات التي سرد تاريخها اجتهد في تقديمها في صورة عصبية منتصرة مهيمنة، كما فسر الانهيارات السياسية التي وقعت لها بانحلال هذه العصبية وضعفها، لكن ابن خلدون لم يتعرض لدور الثروة وأثرها في قوة العصبية القبلية أو ضعفها، وهو ما تسمح به الدراسات الأنتروبولوجية لمفهوم السلطة في الإطار القبلي. لقد اعتنت عدد من البحوث الأنتروبولوجية بطبيعة السلطة في مناطق عربية وإسلامية مختلفة، ونقبت عن مصادر مشروعيتها. وفي واحد من هذه البحوث التي اهتمت بالمغرب أرجع أحد الدارسين سبب اختيار الجماعة لحاكم القبيلة الذي يسمى أمغار إلى ما يلي: لأنه أشرف قومه، ويتجلى ذلك من خلال تصرفات ملموسة تثبت تفوقا في مجال تراكم الثروة الفردية ككثرة الأولاد، وتعدد النساء، وبلوغ أعلى مراتب الحكمة، وكثرة الإنفاق من أجل التباهي والكرم. فالثروة خإذا- من المؤهلات الأساسية التي تؤهل أمغار لحكم القبيلة، وتعظم سلطة أمغار وتكبر عندما تفرض قبيلته على الذين حولها نوعا من الخراج على الغلاة والأراضي، وقد يتطور الأمر إلى دولة كما حصل في تجارب كثيرة وأوضحها الدولة المرينية في المغرب. إن السلطة في المجال الإسلامي بشكل عام في العصر الوسيط، كانت وفية لهذه الميكانيزمات والآليات التي تحدث عنها ابن خلدون أو تلك التي كشفها الأنتروبولوجيون، ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ظهرت حاجة المسلمين الواضحة إلى تعزيز سلطتهم وقوتهم الفتية من خلال البحث عن مصادر جديدة للثروة وتطويرها، وأمر النبي (ص) لأصحابه باعتراض عير قريش قبل غزوة بدر يدل في جانب منه على هذا المعنى فالسلطة الإسلامية الأولى خرجت من رحم القبيلة وتقاليدها ولم تنفصل عنها، ومن ثم كانت الفتوح والخراج من أهم مصادر الثروة في الدولة الإسلامية التاريخية، ومعظم المؤلفات التي اهتمت بفقه الأموال وآدابها وسياساتها تحدثت بإسهاب عن هذه المصادر. أما في المجال الغربي فلم يختلف الأمر كثيرا عن هذه القواعد فالسلطة في أوربا الوسيطية كان يمارسها الأسياد الإقطاعيون الذين كانت ترتكز ثروتهم على الأرض، لكن مع بزوغ عصر النهضة وظهور مصادر ثراء جديدة منافسة لتلك التقليدية ارتبطت بالتجارة ثم بعد ذلك بالصناعة، أخذت المكانة السياسية للإقطاعين في التراجع، وبدؤوا يفقدون شيئا فشيئا سلطتهم، وذلك لصالح فئة اجتماعية جديدة طموحة سميت بالبرجوازية. فالعناصر البرجوازية رغم تجردها من شارات النبل، وانتماء الكثير منها إلى طبقات متواضعة فرضت نفسها على ملوك أوروبا وأشركوها في الحكم، بعدما كان محرما عليها ومحصورا في ذوي الأصول النبيلة، وذلك من خلال ثروتها المتزايدة. ومن أبرز هذه العناصر الذي تذكرها المصادر التاريخية جاك كور الذي استطاع أن يصبح معتمدا إقليميا لملك فرنسا شارل السابع (1461-1422م)، وعضوا في مجلسه، بسبب مكانته الاقتصادية الرفيعة التي استحقها بتحكمه في جزء كبير من التجارة الخارجية الفرنسية البعيدة وخاصة مع الشرق، ونفس الشيء يمكن أن يقال عن عائلات أخرى في مناطق مختلفة من أوروبا كعائلة آل مدشي في إيطاليا وغيرها. وستتعزز هذه التحولات في أوروبا خلال القرون التالية: 16م و17م و18م، إلى أن أدت إلى خروج السلطة بشكل تام من يد العناصر القديمة، وسيطر عليها الأثرياء الجدد المنحدرون من التجارة والصناعة. إن علاقة السلطة بالثروة من الناحية التاريخية تبدو في صورة علاقة الشرط بمشروطه، فيستحيل أن يوجد طرف في غياب الآخر، ورغم حجم هذه الحقيقة ووضوحها في الماضي والحاضر الإسلامي والإنساني فإن مرجعيات الإسلاميين الفكرية والأخلاقية تجاهلتها، إن لم تكن في بعض الحالات قد ناقضتها وعارضتها. فمراجعة الخطاب الإسلامي حول الثروة في أفق إعادة تشكيل الوعي الإسلامي بثنائية السلطة والثروة من المداخل الأساسية لتصحيح سعي الإسلاميين نحو السلطة. يقول أحمد بن نصر الداودي في كتاب الأموال: أتى من النص في ذكر الفقر والغنى، ما فيه لمتأمله من العلماء بيان وشفاء، أن الفضل في الكفاف، وأن الفقر والغنى محنتان من الله، وبليتان يبلو بهما أخيار عباده، ليبدي صبر الصابرين، وشكر الشاكرين، وطغيان المبطرين، واستكثار الأشرين. وتصور الإسلاميين لمسألة المال والثروة في الزمن المعاصر لا يبتعد كثيرا عن هذا الإطار، بل معظم أدبياتهم تسلك في التربية والتأطير هذا المسلك، وتجعل من الكفاف والاعتدال غاية كل مريد. وهذا صحيح وسليم إذا اهتم الإنسان المسلم بالفرائض والتكاليف العينية، وأهمل التكاليف الجماعية التي تحصل بها عزة الأمة وسيادتها التي في الغالب أحكامها وتكاليفها تدخل في أبواب فروض الكفاية التي إذا قام بها البعض سقطت عن الكل. ومسألة الغنى وتحصيل الثروة من فروض الكفاية، التي أهملها المسلمون وفرطوا فيها، فدخل عليهم الهوان وأصبحوا عالة على غيرهم. والذي يظهر من كثير من النصوص سواء في الكتاب أو السنة أن الإسلام ليست له أدنى مشكلة مع المال وتحصيله بالطرق المشروعة، فقد قال النبي (ص) لعمرو بن العاصي في حديث أخرجه أحمد: هل لك أن أبعثك في جيش يسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبة من المال، فقال: ما للمال كانت هجرتي، إنما كانت هجرتي لله ورسوله، قال: نَعم بالمال الصالح للرجل الصالح. وفي حديث آخر رواه البخاري دعا النبي (ص) لأنس بن مالك، فقال: اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته. غير أن أبلغ إشارة في هذا السياق قوله تعالى: ؟كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى؟ (العلق، 7 ,6)، الذي يستدل به على سوء السعي في طلب الغنى والمال، فهذه الآية تكشف سنة من سنن التاريخ والاجتماع، وهي أن الغنى يؤدي حتما إلى سيادة الإنسان ورئاسته، وقد تتخذ هذه السيادة شكل طغيان إذا أهملت القيود الأخلاقية الضابطة للتصرف في الأموال، وقد تتخذ شكل إمامة إذا كانت على هدى ودين. ويؤكد المعنى الإيجابي للغنى في علاقته بالسلطة والسيادة حديث النبي (ص) الذي قال فيه: لا حسد إلا في اثنين، رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها رواه البخاري. إن الإسلاميين في كثير من البلدان العربية والإسلامية لا زال حجم الثروة الذي يديرونه ضعيفا، لا يخول لهم بلوغ السلطة وممارستها، فقواعدهم في أحسن الأحوال من موظفي الدولة وصغار التجار، الذين يعيشون في مستوى الطبقة الوسطى، والمشاريع التي يراقبونها محدودة، كما أن علاقتهم بأصحاب المال والأعمال تعاني من أزمة ثقة، وهو ما يستدعي المبادرة السريعة لرفع الحواجز والموانع الثقافية التي تعيق سعيهم لامتلاك الثروة، والانفتاح على الفئات الثرية. ومن شأن هذه المراجعة أن تعدد مداخل الحركة الإسلامية نحو السلطة، وتقربهم منها، بعدما ضاقت بها السبل وتاهت بسبب المساعي اللاسننية في السياسة.