استقبلتني في بيتها وهي تجر ذيول الألم والحسرة العميقة، فقد عادت بها كلمات دكتور تربوي إلى سنين طويلة مضت، وما زالت أخطاء الماضي وعبثية التربية فيه تعكس بصماتها الواضحة على صفحات حياتها وحياة كل أفراد أسرتها على السواء... لفحتني بنار تساؤلاتها وكأنني الجاني الماثل أمامها، ثم انهارت بالبكاء قائلة: أمي وأبي سبب شقائي وشقاء إخوتي.. أمضينا سنين طويلة بدون خط تربوي واضح ولا قيم ثابتة.. حتى أضحينا كنبات طفيلي نما وترعرع دون عناية ولا سقي.. لم يكن والداي منحرفين ولا عاصيين لربهما، لكنهما اتخذا من التناقض مذهبا ومن اتخاذ القرار ونقيضه عادة حتى أصبح مألوفا لدى إخوتي أن ينتظروا بعضا من الوقت ليتراجع والدي عن قرار أقسم بأغلظ الأيمان على تحقيقه... لم يراعيا قط مراحلنا العمرية.. فبالغت أمي في التدليل وبالغ أبي في القسوة والضرب واجتمعا أخيرا عند مساحة مشتركة هي الانفلات الأخلاقي والتمرد الذي صار سمة الأطفال بدون استثناء.. وهاهم صاروا رجالا بالأجساد والأناقة المفرطة، أما دواخلهم فقد ترجمت كل معاني الضعف والسلبية والانحراف. ترك إخوتي الدراسة مبكرا.. ليس لغباء مفترض ولا لعجز عن استيعاب الدروس بل هروبا من علم طالما ذكرهم بضرب الأب واستبداده، وصار جمع المال غاية كبرى ليصرف بعدها في التدخين والمخدرات وما جاورهما من كل فنون البلاء... لطالما هربوا من جو البيت المدجج بالأصوات المرتفعة والتسلط والاستبداد وانعدام الحوار، ليجدوا ملاذهم رفقة شياطين من الإنس احترفوا معهم كل أنواع المغامرات التي كانت السبيل الوحيد لنسيان واقع مر يعيشونه يوميا... وهكذا دارت الأيام.. وكبر النبات الطفيلي واشتد عوده.. وكبر الآباء أيضا ليتهم كل طرف الطرف الآخر بالتقصير والجفاء.. لام أبي أبناءه على قسوتهم وإعراضهم بعد أن بلغ أرذل العمر مع أنه من أورثهم ذلك طيلة سنين طويلة... ولام إخوتي أباهم على انعدام الحوار والحنان، وأمهم على مواقفها المتناقضة المحطمة لآمالهم.... ولمت صديقتي على ذلك الأسلوب القاسي والعبارات المنبعثة كالرصاص في حق أعز الناس وأكرمهم عند الله تعالى... وعدت من بيت صديقتي وقد أخرسني عمق ألمها عن مواساتها بأية كلمة.. فقد كان صمتي مطلقا أعاق خبرتي الطويلة في مواساة الناس والتخفيف عنهم.. فماذا أقول لها والطرف المشتكى به هم والداها؟؟ أقرب طريق للجنة ومفتاح حب الله ورضاه!