محاورنا في هذه الحلقة هو أحد الرموز السابقة لجماعة التبين وهو من بين الذين أصلوا لفكرة التبين في الوقت الذي اشتدت فيه الفتنة، وقد كان من أوائل من شهد عمل الشبيبة الإسلامية في الرباط قبل أن يلتحق بها نور الدين دكير وأحمد بلدهم. تأتني أهمية هذه الشهادة في كونها تبسط تفاصيل جديدة عن جماعة التبين ونشأتها وأدبياتها وبخاصة البيان الشهير الذي امتحنت فيه جماعة التبين في سنة .1985 هل يمكن أن تحدثنا عن بداياتك الأولى؟ ولدت بقبيلة (تمرة) بعبدة الشمالية بإقليم آسفي سنة 1958, ونشأت بالبادية، ودخلت الكتاب وحفظت فيه بعض أجزاء القرآن الكريم، وكان رغبة والدي السيد بوبكر بن الحماد أن أتفرغ لدراسة العلوم الشرعية لكن ابن عمه ، وكان معلما وفقيها، أشار عليه أن يدخلني للمدراس النظامية، فالتحقت بالمدرسة التي كانت موجودة في البادية، وأتممت بها تعليمي الابتدائي، ثم انتقلت إلى آسفي ودرست بعها سنة واحدة، والتحقت بعدها بالرباط تحت كفالة خالي فأكملت تعليمي الإعدادي والثانوي بها، ولم يتيسر لي استكمال دراستي بسبب الظروف المادية والاجتماعية، وتقدمت إلى المباراة التي أعلن عنها المكتب الشريف للفوسفاط، ونجحت فيها، والتحقت بمركز التكوين في خريبكة لمدة ستة أشهر، وتعينت بآسفي سنة 1979, وقضيت في هذا العمل قرابة ثلاثين شهرا، وقررت عند انتهاء العقدة مغادرة العمل والعودة إلى الدراسة، ذلك أن لجوئي للعمل كان اضطرارا قصد تهيئ شروط الدراسة ومؤهلاتها، وفي تلك السنة التحقت بالمركز التربوي الجهوي بعد حصولي على شهادة الباكلوريا ونجاحي في المباراة، وبعد انقضاء مدة التكوين التي استمرت مدة سنتين، عينت في مدينة تنغير سنة 1983, وقضيت بها ثلاث سنوات، وانتقلت بعدها إلى اليوسفية، وبقيت بهذه المدينة إحدى عشر سنة، ثم انتقلت مرة أخرى إلى آسفي، وتحديدا إلى البادية التي تربيت فيها (مول البركي)، ومنها إلى مدينة أيت ورير التي لا زلت أشتغل بها إلى الآن. وكيف التحقت بالحركة الإسلامية؟ لما انتقلت إلى الرباط سنة 1970, احتضنني خالي رحمه الله لمدة ثلاث سنوات، لكنني اضطررت إلى مغادرة بيته لأسباب عائلية،والتجأت إلى دار الطالب بديور الجامع سنة 1973, ولما دخلت إلى هذا المكان صدمت لأني وجدت ثقافة أخرى لم أعهدها من قبل. فقد كنت أعيش حياة التدين في عائلتي ومحيطي، فإذا بي أفاجأ بمناخ قاتم يسيطر فيه اليسار، ويفرض فيه أنماطا غريبة عن الدين، ولأول مرة أشاهد قوما يسبون الدين ويستهزئون بتعاليمه ويتجرأون على مخالفة أركانه وفرائضه وخاصة منها صيام رمضان إذ كان الغالب فيهم هو الإفطار نهارا في هذا الشهر المبارك وهو ما جعلني أدخل معهم في مواجهة فكرية حادة. وكنت أعيش اغترابا كبيرا داخل هذه الدار، وكنت أفرج عن نفسي بالذهاب إلى مسجد عمر السقاط بديور الجامع والذي كان مجاورا لدار الطالب وكان رجال الدعوة والتبليغ يترددون بكثافة على هذا المسجد. وهناك استقطبي ثلاث أخوة هم الأخ حمادي الزموري وعبد الكبير بن الشيخ وعبد اللطيف المراكشي، ولم أكن أعرف انتماءهم ولا حتى مفهوم الانتماء ذاته. وكان أن استدعاني هؤلاء الإخوة للقاء في بيت الأخ حمادي الزموري، وكان محور هذا اللقاء هو حديث عام عن الدعوة إلى الله وضرورة بذل الجهد من أجل نشرها، وقد طلبوا مني في نهاية اللقاء أن أجدد الزيارة لهم، وقبل أن أغادر البيت زودني الأخ عبد الكبير بن الشيخ بمجلة الشهاب اللبنانية، وسلمني الأخ حمادي الزموري كتاب سيد قطب المعنون بدراسات إسلامية. رجعت إلى البيت بعد هذا اللقاء وأمسكت بكتاب سيد قطب والتهمته وأعجبت به إعجابا شديدا إلى درجة أني حفظت كثيرا من فصوله وفقراته، وقد أعانني هذا الكتاب بما ورد فيه من مفاهيم جديدة في مضاعفة رصيدي الفكري، فصرت أشعر بأنني مؤهل لتحدي الشيوعيين داخل دار الطالب. ومن هذه اللحظة، انفتحت شهيتي للدعوة، وبدأت أستقطب التلاميذ وأدعوهم لهذه الأفكار الجديدة. وهل بقي التواصل مستمرا بينك وبين الإخوة الذين قاموا باستقطابك؟ بدأت أزورهم وأتردد عليهم من حين لآخر وبخاصة الأخ حمادي الزموري، وبدأت أحكي له بالتفصيل ما يجري من مناقشات ومقارعات فكرية بيني وبين الشيوعيين في دار الطالب. وفي سنة 1974, صحبت معي مجموعة من التلاميذ إلى بيت الزموري، وكان أغلبهم من مدينة الرماني. وهناك وجدنا عبد الكريم مطيع يلقي درسا حول الابتلاء ولعله اقتطفه من كتاب للأستاذ فتحي يكن، وأتذكر أنه سرد في هذا الدرس قصص الأنبياء والصالحين الذين امتحنوا في سبيل الله وصبروا على المحن والابتلاءات التي تعرضوا لها، كما تحدث عن فضل الصبر وأهميته في الدعوة إلى الله. ولما أنهى درسه تحدث إلينا بكلام خفيف وأرشدنا إلى الاتصال بالأخ عبد الكبير بن الشيخ الذي كان معلما بالقسم الداخلي لثانوية الحسن الثاني. وكيف بدأ مسارك الحركي مع الأخ عبد الكبير بن الشيخ؟ اتصلت به، وبدأ يؤطرني والمجموعة التي صحبتها إلى بيت الزموري، وأتذكر أنه في شهر يونيو 1974 نظموا لنا مخيما في الدارالبيضاء (طماريس) حضره حوالي أربعين فردا وكانت غالبيتهم من التلاميذ، وكان عبد الكريم مطيع والأستاذ إبراهيم كمال يشرفان بنفسيهما على هذا المخيم، ويترددان علينا بشكل مستمر، وكان يقومان بتأطيرنا تربويا وحركيا، فكان الأستاذ إبراهيم كمال يفسر لنا القرآن الكريم، فيفتح المصحف ويفسر منه، وأتذكر جيدا أنه فسر لنا سورة البروج، وكان يؤطرنا إلى جانب مطيع والأستاذ إبراهيم كمال كل من الأستاذ أحمد الديني والحاج علال العمراني رحمه الله. وفي هذا المخيم زودني عبد الكبير بن الشيخ بجملة من الكتب كان على رأسها منهاج المسلم وكتابالتوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، وأوصاني بقراءتها في العطلة الصيفية. وكيف استقبلت السنة الدراسية الجديدة في الرباط بعد هذا المخيم؟ في بداية الموسم الدراسي 1974/1975 بدأ عمل الشبيبة الإسلامية في الرباط يتنظم، فقد التحق كل من الأخ نور الدين دكير والأخ أحمد بلدهم بهذه المدينة، وبدأ النشاط التربوي يتوسع في الأحياء، وقضينا سنة كاملة ونحن نركز فقط على الدعوة والتربية الروحية، وقد وزع منشور في آخر هذه السنة لكن لم يتيسر لي الحضور في اللحظة التي جاء فيها هذا التكليف للإخوة لأنني كنت أغادر الرباط في العطل الصيفية لزيارة الأهل ولعل المنشور كان قي عطلة الصيف. وهل تحسرت بسبب عدم مشاركتك في توزيع هذه المنشورات؟ بالعكس تماما. والذي حصل هو أنني تضايقت منها كثيرا. وما سبب هذا التضايق؟ كانت هذه المنشورات تتضمن آيات قرآنية، وكانت ترمى في الأرض وتداس بالأقدام وكنت أنزعج لذلك. هل كان هذا هو السبب الرئيس؟ نعم كان هذا سببا رئيسا، لكني في نفس الوقت لم أتقبل فكرة نشر الدعوة بهذا الأسلوب. وكيف استمر مسارك الحركي مع الشبيبة الإسلامية في الرباط؟ في أكتوبر من سنة 6791, وبينما كنت أحضر في جلسة في المدينة القديمة مع كل من الأخ المهدي وعبد الكريم النقاش وأحمد التادلي وآخرين، حضر إلينا الأخ أحمد بلدهم وحذرنا من دعايات يطلقها ضد السداسيين من وصفهم بالمنافقين. وكيف تلقيتم هذا التحذير؟ لم نكن نعرف هذه الدعايات ولم نسمع بها من قبل ولم يتسن لنا معرفة مضمونها، أنها كانت مشاعة في الدارالبيضاء، وكنا نحن في الرباط بعيدين كل البعد عن أجواء الخلاف. معنى هذا أنكم لم تنخرطوا في الرباط في جو الفتنة؟ بقينا في الرباط محصنين ضد الفتنة وكنا تابعين للسداسيين إلى أن استطاع مطيع أن يجد الطرف الذي يدعم وجهة نظره في الرباط. من كان يقود الجناج المؤيد لمطيع؟ لما ظهر الأستاذ عبد الإله بنكيران في الرباط وكان يناصر مطيعا بقوة، بدأنا نحس بأن صراعا محتدما بين طرفين، طرف يمثله السداسيون وكان على رأسه نور الدين دكير وأحمد بلدهم بوصفهم قيادتين منهم، وطرف انحاز إلى عبد الكريم مطيع ويمثله الأستاذ عبد الإله بنكيران ومجموعة من الإخوة وعلى رأسهم إبراهيم بورجة. وبدأت تتوالى علينا الأخبار والأقوال المختلفة والمتضاربة وامتد ذلك إلى غاية سنة 1977, وفي هذه الفترة وصلت الأمور إلى ذروتها وكانت الفتنة القاصمة. وكيف تعاملتم مع هذه الفتنة؟ اجتمع ممثلو الأحياء في كل من الرباط وسلا، وناقشوا الأمر فلم يخرجوا في البدء بنتيجة، ثم بدأنا بعد ذلك نعقد لقاءات ماراطونية للبحث عن صيغة للتعامل مع هذه الفتنة، وعقد أول لقاء بهذا الخصوص في بيت الأستاذ عبد اللطيف السدراتي، وكانت هذه اللقاءات تأخذ منا وقتال طويلا وأحيانا تستمر الليل كله أو تزيد عليه، وكان محور هذه اللقاءات قضية واحدة لا غير هو البحث عن مخرج لهذه الفوضى التنظيمية. وما الموقف الذي انتهيتم إليه بعد كل هذه اللقاءات الماراطونية؟ انتهينا إلى رفض الانحياز إلى أي طرف من طرفي النزاع، وأن نتبين في الأمر، وكان تأصيلنا لهذا الموقف يعتمد قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين وقول النبي صلى الله عليه وسلم :> البينة لمن ادعى واليمين على من أنكر<. ومن كان صاحب فكرة التبين؟ كنا نحن ثلاثة أخوة هم من ركز على فكرة التبين وأصل لهذا المفهوم وحاول تنزيله على هذه النازلة، ويتعلق الأمر بالأخ عبد اللطيف البوزيدي والأخ المحجوب والعبد الضعيف. وكيف بدأتم أجرأة فكرة التبين؟ رفضنا أن نتحاور مع ممثلي عبد الكريم مطيع في الرباط لأننا كنا نعتقد أنهم ليسوا سببا في أصل المشكلة، ولم يكن عندنا مشكل مع السداسيين لأنهم قبلوا فكرة التبين واستمعنا لمقالتهم وحججهم، وإنما كانت المشكلة عندنا هي كيفية الاتصال بعيد الكريم مطيع لأننا كنا تلاميذ ولم تكن عندنا الإمكانيات للسفر إليه بمكة. وكيف دبرتم المسألة؟ جاءنا أحد الإخوة من الدارالبيضاء، وكان يدعى بلحبيب وعرض علينا مساعدتنا في هذا الأمر، ولم نكن نعرف أن له اتصالا مسبقا بمطيع، ولما عرض علينا رغبته في إيصال خطابنا ووجهة نظرنا إلى مطيع تدارسنا الأمر في لقاء ماراطوني امتد لعشرين ساعة تقريبا وكان ذلك في ببيت بيعقوب المنصور، وقد اتفقنا في الأخير على قبول عرضه. وماذا كان جواب عبد الكريم مطيع؟ سافر إليه لحبيب، ولم نعرف رد عبد الكريم مطيع إلى الآن. وهل يئستم من معرفة موقف مطيع من مبادرتكم؟ لم نيأس وإنما أصررنا على معاودة الكرة، فأرسلنا أحد الإخوة الذي توفر له قسط مالي يسمح له للسفر إلى مكة، فلقي عبد الكريم مطيع سنة 1978 ، وعرض عليه الأمر، فقال له عبد الكريم مطيع إن هؤلاء الإخوة ليسوا من الحركة، ولكي أقبل أن أناقش وجهة نظرهم فينبغي أن يدخلوا أولا إلى التنظيم، وشرط الدخول في التنظيم هو البيعة، فطالبنا بالبيعة قبل مناقشة وجهة نظرنا. وكيف تعاملتم مع موقفه؟ لما درسنا شروطه تبين لنا أنه يتهرب من المواجهة، وأنه هو الفئة الباغية التي لا تريد الاعتراف بالحقيقة ولا تريد الرجوع إلى الحق. ولماذا لم تنحازوا بعد ذلك للسداسيين بعد أن تأكدتم أن مطيعا هو الفئة الباغية؟ كانت مؤاخذتنا على السداسيين أنهم كانوا يعرفون حقيقة مطيع وكانوا من قبل يعلمون بتصرفاته المشينة، لكنهم لم يفصحوا عن ذلك إلا بعد أن وقعت الفتنة، أي أنهم لم يتحدثوا حتى كانوا مستهدفين. ربما كانوا يفكرون في الدعوة وكانوا يخافون على الصف من التشتت؟ كنا نرى أن إخفاء أمر بهذه الخطورة على التنظيم هو إضرار بالدعوة، ولذلك رفضنا الانحياز للسداسيين ولم نمض معهم بعد ذلك.