أهمـية الوثيـقة تكمن أهمية الوثيقة في كونها تشهد على محطة تاريخية عاشت فيه الشبيبة الإسلامية مخاضا صعبا نتيجة الصراع بين السداسيين ومطيع، ذلك المخاض الذي جعل الإخوة يتأرجحون بين اتجاهين، وجعلت آخرين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، تحركهم عقولهم وقلوبهم لمساءلة تجربة الشبيبة الإسلامية وما آل إليها وضعها التنظيمي بعد الفتنة. نموذج من هؤلاء الإخوة الذين كانوا يتميزون بسمت إيماني رفيع وكانوا أبعد ما يكونوا عن الاعتبارات السياسية. نموذج نور الدين الدروي الذي كان منتظما في إحدى مجموعات الشبيبة الإسلامية بالقنيطرة، وكان تحت مسؤولية الأستاذ أحمد الديني، وقد وصلته خبر الفتنة وتداعياتها، ولعل ذلك وصله متأخرا، وبادر إلى توجيه أسئلة إلى قيادة الشبيبة الإسلامية (عبد الكريم مطيع) من أجل فهم ما يجري داخل الجسم التنظيمي للشبيبة الإسلامية، ومن أجل التبين ومعرفة وجهة نظر القيادة في يروج من أقوال متضاربة. وتأتي هذه الوثيقة (الرسالة) كجواب على رسالة نور الدين الدروي، يحثه فيها على نسيان الفتنة والانخراط في الدعوة والانصراف إلى أهداف الحركة وغاياتها. لم نعثر على رسالة نور الدين الدروي لنتعرف على طبيعة الأسئلة التي وجهها لعبد الكريم مطيع، لكن من خلال الوثيقة يتأكد أن الأخ نور الدين الدروي أراد مساءلة عبد الكريم مطيع عن الفتنة وأسبابها ولعله كان يلح في طلب التفاصيل بدليل أن نص جواب مطيع أشار إلى كلمة تفاصيل أكثر من مرة تاريخ الوثيقة ليس في الرسالة أي إحالة إلى سنة كتابتها لا سنة ولا شهرا ولا يوما، لكن من خلال تفحص بعض المعطيات التاريخية الواردة فيها يتبين أن الوثيقة كتبت في سنة ,1979 ذلك أنها ذكرت رحلة نور الدين داكير وعبد الرحيم السعداوي إلى الحج وهي الرحلة التي كانت في بداية سنة 1978 (شهادة داكير)، كما أن الطريقة التي تحدثت عنها الرسالة عن الستة تدل على أنها كتبت بعد بيان الفصل الذي كان في فبراير ,1978 فإذا أضفنا لهذه المعطيات ما حكاه الإخوان (محمد الحمداوي ومحمد بنينير) من جهد كبير بذله الأستاذ أحمد اليدين لتحصين الإخوة من أن تصل إليهم الفتنة وتداعياتها، يترجح أن يكون نور الدروي كتب رسالته التي ضمنها أسئلته عن تفاصيل الفتنة وأسبابها وحقيقتها بعد فصل الستة بمدة معقولة وأن رد مطيع قد جاء بعد ذلك مباشرة. نـص الـوثـقة أخي في الله الدروي حفظه الله ووفقه وسدد خطاه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، وصلت رسالتكم الطيبة التي تفيض صدقا وإخلاصا، وقد طمأن قلبي وفاؤك وإخلاصك وحرصك على الحق، وتشبثك بالعهد والأخوة، زادك الله تثبيتا وصدقا وإخلاصا. أخي: إن الأسئلة التي سألتها وخاصة حول الستة الذين غدروا بي وبالحركة وبالأخ كمال ولم يراعوا فينا إلا ولا ذمة، ولم يوقروا أهلنا ولا ذرارينا ولا أعراضنا لغير ذنب اقترفناه ولا جريمة اقترفناها، وكل (ذنبنا) أننا أحببناهم في الله فترة من الزمن، وظننا أنهم ـ على الأقل ـ إن لم يحسنوا إلينا في محنتنا هذه، فسوف يمنعهم إيمانهم عن إذايتنا واغتيابنا وأكل لحومنا حية وميتة. ومع ذلك، فيشهد الله أنني لم يصدر مني أي رد سيء على عدوانهم، وإنما أمرت ـ وبكل شدة وحزم ـ أن يتجنب الإخوة الرد عليهم، وأن يبتعدوا ـ بكل دقة ـ عن العنف في معاملاتهم، رغم أنهم ضربوا إخوة لنا وهددوا إخوة آخرين، وزوروا عني رسائل وبرقيات وتوجيهات... وكان ردي وما زال وسوف يبقى ـ إن شاء الله ـ (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين). أما الأجوبة المفصلة على أسئلتك فإن المقام لا يتسع لذلك، والمراسلات لا تصلح للتفصيل لأن البريد كما تعلم غير مأمون..فقد تصل الرسائل وقد لا تصل... وقد....الخ. لذلك أحيلك على أخ حضر لقاء موسم الحج وعرف التفاصيل وسردت أمامه على السعدواي ونور الدين جميع الحسابات المالية التي خصصت للدعوة وأسرها والتي تسلموها، فاعترف السعداوي ونور الدين بذلك أمام الملأ. إن هذا الأخ هو محمد بوكنو عليك الاتصال به، فعنده الخبر اليقين، وهو موثق من قبلي، فلن يقول إلا الصدق بإذن الله. وفي لقاء قريب خ إن شاء الله خ أشرح لك كل شيء، فإذا ما حصلت على جواز السفر فأخبرني.. لكن الأفضل من هذا كله، والمناسب لمقتضيات عقيدتنا أن تتجنب الخوض في تفاصيل هذه الفتنة، وأن تنطلق من دعوتك، وأن تلتزم الجماعة.. فأنت تعبد الله سبحانه وتعالى في جماعة، ومهما انحرف الأشخاص فأنت مع الجماعة تنبهها وتقومها وتشارك في جهودها وتقترح عليها وتعدل من سيرها بما يناسب عقيدتنا التي وردت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. أما الذين يعبدون الأشخاص ويتعلقون بهم فدعهم مع الستة فركبنا كريم خ إن شاء الله ـ ولا يسير فيه إلا المتعلقون بالله فقط...... بلغ سلامي إلى أخي في الله لوديني، فقد اشتقت إليه، وأعن إخوتك، وكن خير نصير لهم في الحق، وأعرضوا عن الجاهلين، وانسوا هذه الفتنة نهائيا وتجنبوا أهلها، فإنما سخرهم الشيطان ليبعدوكم عن أهدافكم ويصرفوكم عن غاياتكم النبيلة في إعلاء كلمة التوحيد ونصر أهله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخوكم أبو أحمد سوف أرسل إليكم عنواني عندما يستقر بي المقام لتراسلني مباشرة أو تتصل بي تليفونيا، أما الآن فإني كثير التجوال. ملاحظات على الوثيقة الملاحظة الأولى: وتتعلق بلغة الوثيقة، ولأول مرة يكتب عبد الكريم مطيع بأسلوب أدبي رفيع يحضر فيه البعد التربوي بكثافة شديدة، إذ الغالب على كتاباته وبياناته النفس السياسي والتهجم على الأشخاص ووصفه بأقذع الصفات، ولعل الشخص المرسل إليه، وطبيعة الرسالة التي تلقاها فرضت عليه أن ينتهج هذا الأسلوب غير المعهود في كتاباته. وتفسير الأمر، أن نور الدين الدروي كان ينتمي إلى الشبيبة الإسلامية في القنيطرة، وكانت هذه المدينة تعيش وضعا خاصا، إذ لم تتأثر بأجواء الفتنة وظلت مرتبطة بصفة مباشرة بالأستاذ أحمد الديني الذي بقي إلى سنة 1980 وفيا لعبد الكريم مطيع، ولذلك، كان رد مطيع مخالفا تماما للرد التي تلقته جماعة التبين والذي نشرناه ضمن الوثائق التي نشرت في هذا الملف. الملاحظة الثانية: تؤكد هذه الوثيقة مجموعة من الوقائع التاريخية التي شهد بها بعض الإخوة الذين قدموا رواياتهم في هذا الملف. فهي من جهة تؤكد صحة رحلة نور الدين داكير وعبد الرحيم السعداوي إلى موسم الحج والتي حكا داكير في حواره تفاصيلها، وإن كان نفى ما أورده مطيع في هذه الرسالة من حكاية الحسابات المالية التي خصصت للدعوة وأسرها واعتبر ذلك كذبا وافتراء. وهي من جهة ثانية تؤكد المعطيات التي أوردها كل من عبد السلام بلاجي ومحمد بنينير ومحمد الحمداوي والتي تحدثت عن الوضع الخاص التي عاشته تجربة الشبيبة الإسلامية في القنيطرة بعد الفتنة. وهي أيضا تؤكد رواية عبد الرحمان اليعقوبي الذي أشار إلى شخصية مصطفى الوديني الذي راهن عليه مطيع في بناء التنظيم في فاس وسحب البساط من تحت رجل الثلاثة (يتيم، الحارثي، اليعقوبي) يظهر ذلك في عبارة : بلغ سلامي إلى أخي في الله لوديني، فقد اشتقت إليه والتي تفيد أن مصطفى الوديني نفسه قد رحل إلى مطيع إلى مكة ولقيه بعد الفتنة فقد اشتقت إليه، وهي تؤكد صحة المعلومات التي أورتها معظم الشهادات التاريخية والتي تحدثت عن تكاثر الوفود على عبد الكريم مطيع بعد الفتنة. الملاحظة الثالثة: وردت في رسالة مطيع إلى جماعة التبين وكذا في هذه الرسالة التركيز على قضية الشخص الموثق عنده ففي الرد على التبين طلب منهم أن يكون لكلامهم مدخل شرعي وأن يقدموا بيعتهم للأمير بأن يأخذها عنهم رجل موثق عنده، وفي هذه الرسالة طلب مطيع من الدروي أن يلتمس الخبر اليقين عند شخص (محمد بوكنو) باعتباره موثقا عنده، وهو ما يبين أسلوبه في العمل الذي لا يعتمد مناقشة الأسئلة والمعطيات بقدر ما يعتمد الإحالة على أشخاص يتيقن مطيع من أنهم ينحازون إلى صفه، ويمكن أن يشهدوا بما طلب منهم أن يشهدوا به طاعة للأمير مادامت البيعة في أعناقهم. الملاحظة الرابعة: وهي متعلقة بأسلوب مطيع في إدارة العمل الإسلامي، فقد امتنع في هذه الرسالة من الاستجابة لطلب نور الدين الدروي بالإجابة المفصلة عن أسئلته وتعلل بكون مثل هذه الرسائل ليس محلها البريد الذي غالبا ما يكون غير مأمون، لكنه في نفس الوقت ذكر في هذه الرسالة أسماء أشخاص (لوديني، محمد بوكنو) ربما يتعرضون للاعتقال إذا انكشفت الرسالة ما دام البريد غير مأمون، وبعد أن يرجئ أمر مناقشة أسئلة الدروي إلى لقاء قريب، يطلب منه في نفس الرسالة أن يلتزم الأفضل من ذلك كله والمناسب لمقتضيات عقيدتنا وهو تجنب الخوض في تفاصيل هذه الفتنة، وهو ما يعني ترك الأسئلة التي طرحها في رسالته مطلقا والانشغال بالدعوة. الملاحظة الخامسة: لعل العبارة التي ذكرها مطيع في خاتمة رسالته تبين مضمون رسالة نور الدين الدروي، فحديث مطيع عن تنبيه الجماعة وتقويمها والمشاركة في جهودها والاقتراح عليها والتعديل من سيرها بما يناسب العقيدة التي وردت في الكتاب والسنة، يكشف جزءا من مضمون رسالة الدروي التي كانت في الغالب تطرح قضية تقويم الجماعة وترشيدها، فأراد مطيع من خلال الإقرار بهذا النزوع نحو الترشيد لدى نور الدين الدروي مجرد إقناعه لترك الأسئلة وصرف النظر عن الستة والانخراط في الجماعة أي الانحياز إلى عبد الكريم مطيع. الملاحظة السادسة: يلاحظ في الوثيقة الاستعمال الكثيف لمفردة العقيدة والمرجعية (الكتاب والسنة) وهو ما يكشف جزءا من رسالة نور الدروي التي لا شك في كونها أكدت على هذه المفردات فأراد مطيع أن يوظفها في سياق التأصيل لفكرة ترك الفتنة لكن بالمعنى الذي يفيد ترك الستة. الملاحظة السابعة: حاول عبد الكريم مطيع ما أمكنه ذلك أن يقنع نور الدين الدروي بأنه أمربكل حزم وشدة بعدم الرد على الستة، و أشهد الله على ذلك، وجعل قوله تعالى (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين)هو أسلوبه في التعامل معهم، لكنه في الرسالة هذه لم يلتزم هذا المنهج، ولم يتورع في إلصاق تهم عديدة (الغدر بالحركة وقيادتها ، عدم مراعاة حرمتهم، عدم توقير أهل قيادات الحركة وأبنائهم وأعراضهم، الغيبة وأكل لحوم الإخوة في الشبيبة الإسلامية حية وميتة. استعمال العنف ضد الإخوة، تزوير رسائل القيادة وبياناتها، اختلاس مال الدعوة). الملاحظة الثامنة: وقع عبد الكريم مطيع رده باسم أبو أحمد إشارة إلى ولده، وأشار أسفل توقيعه إلى أنه كثير التجوال وأنه لم يستقر بعد حتى يكون له عنوان وهاتف ثابت، وهذه الملومة إن صحت فهي قد تفيد في معرفة تاريخ الوثيقة، إذ من المحتمل أن يكون ذلك عقب مغادرة المملكة العربية السعودية والكويت، وحين ذلك يكون تاريخ الوثيقة هو سنة ,1980 لكن من المحتمل جدا أن يكون مطيع قصد الإشارة إلى هذه الملاحظة حتى يكف الإخوة عن السؤال عن مكان استقراره، أو أن يحث الإخوة على عدم مكاتبته وطرح أسئلة عليه بدعوى أنها لن تصله، أو أنه يعتذر بعد ذلك عن كتابة ردود عن الرسائل التي تصله بدعوى أنه لم يستقبلها.