يظهر أن الرئيس الأمريكي بوش لا يمل من تجاهل الأخطاء الفادحة التي يرتكبها وإدارته التي يتحكم فيها المحافظون الجدد، كما لا يتوانى في الاستمرار في تكرار الأطروحات والتقارير التي ثبت كذبها. قبل ساعات من بدء مهزلة الانتخابات العراقية تحت تهديد فوهات بنادق ومدافع قوات احتلال أمريكية يزيد عددها على 561 ألف جندي إضافة الى حوالي 120 الف آخرين من قوات الحلفاء وما يسمى شركات الأمن الخاصة مثل بلاك ووترز ومثيلاتها التي تعتبر من وجهة القانون الدولي جماعات مرتزقة، خرج بوش بحديث جديد تصور أنه سيحسن موقفه. فقد اعترف جورج بوش صراحة ولأول مرة بتحمله مسؤولية شن الحرب على العراق رغم استناد هذا القرار على معلومات استخباراتية اتضح فيما بعد أنها خاطئة. وقال بوصفي رئيسا فأنني مسؤول عن تصحيح الخطأ الذي وقع من خلال إصلاح قدرات أجهزة مخابراتنا وهذا هو ما نفعله بالضبط. لكنه حمل الرئيس العراقي صدام حسين جزءا من المسؤولية قائلا إنه اختار الحرب، مشيرا إلى أنه كان بمقدور صدام حسين في أي لحظة من اللحظات أن يتجنبها. ونفى بوش في خطابه بمركز ودرو ويلسون في واشنطن يوم الأربعاء 41 ديسمبر أن يكون قرار الحرب مرتبطا بالنفط أو إسرائيل. كما دافع عن إطاحته بنظام صدام حسين واصفا إياه بالقرار الصائب، مشيرا إلى أن صدام كان يشكل تهديدا، وأن العالم والشعب الأمريكي في حال أفضل بعد إسقاطه. وتمسك الرئيس الأميركي الذي يتهمه جزء من الرأي العام بأنه كذب لتبرير الحرب على العراق بشن الهجمات الوقائية، مؤكدا أنه لن يتردد في شنها مرة أخرى إذا اقتضى الأمر. وقال لا يمكننا السماح في أن يضع أخطر رجال العالم يدهم على أخطر الأسلحة في العالم، وفي حقبة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل يكون الأوان قد فات إذا انتظرنا أن تتبلور التهديدات فعلا. ودعا بوش الأمريكيين إلى الصبر، حتى تحقيق النصر رافضا من جديد سحب قواته من العراق أو وضع جدول زمني قبل تحقيق هذا النصر بشكل كامل. واعتبر أن تحديد مهلة مصطنعة للانسحاب سيتسبب بكارثة. وأقر بأن السلطات العراقية ستواصل مواجهة تحديات العنف وإعادة الإعمار. وتحدث بوش مجددا عن مكافحة ما سماه الإرهاب والتطور السياسي العراقي منذ العام 2003 لتبرير إبقاء القوات الأمريكية في العراق. مؤكدا أن الولاياتالمتحدة ستتمتع في المستقبل بحليف في الحرب على الإرهاب وبشريك من أجل السلام في الشرق الأوسط. واعتبر أن تصويت العراقيين المدعوين إلى انتخاب أعضاء برلمان جديد لمدة أربع سنوات تاريخي. وأن العراقيين في طور بناء ما وصفها بديمقراطية قوية ستكون نموذجا للشرق الأوسط. وتعد كلمة بوش الأحدث ضمن سلسلة كلمات ألقاها في الأسبوعين الماضيين لتبرير سياسته في العراق وشرح ما أسماها خطة النصر في العراق وسط تصاعد المطالب داخل الولاياتالمتحدة بسحب القوات الأمريكية من العراق. ويرى المراقبون أن بوش فشل مرة أخرى في كسب تعاطف مع سياسته سواء داخليا أو خارجيا وقد تؤكد الأيام القادة أن ما أنجزه كان العكس. وكان بوش يريد أن تغطي الإنتخابات المنظمة أمريكيا سياسيا وماديا على الأنتقادات الموجهة لسياسته والمطالب بسحب الجنود الأمريكيين الذين يخسرون يوميا جرحى وقتلى في حين تصرف واشنطن بشكل مباشر أكثر من 6 ملايير دولار شهريا على حرب تزداد ضراوة. وقبل أن يلقي الرئيس بوش كلمته شن ممثلو الحزب الديمقراطي في مجلس الشيوخ هجوما على سياسته. ودعا 40 عضوا ديمقراطيا بالمجلس -بالإضافة إلى عضو مستقل- بوش إلى تقديم خطة تُعرف الأهداف السياسية والاقتصادية والعسكرية المتبقية التي يتعين إنجازها بالإضافة إلى جدول زمني منطقي لتحقيقهاكي يعتمد العراق على نفسه بما يسمح بإعادة انتشار مرحلية للقوات الأمريكية. وقال زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ هاري ريد إن بوش لم يحاك ما يريده الشعب الأمريكي ولم يقدم إستراتيجية للنجاح، فما زال يقول، لنستمر على الطريق. آخر إعترافات بوش بالتعثر تأتي وسط تضارب واسع في الأخبار المتسربة من البنتاغون والبيت الأبيض حول التكتيك الذي تنوي الإدارة الأمريكية إتباعه للخروج بأقل الخسائر الممكنة من المستنقع العراقي. البعض يقول أن المحافظين الجدد ينون سحب جيوشهم ومرتزقتهم وترك العراقيين يصفون أمورهم فيما بينهم لعل ذلك يقودهم الى التفتت كما هو حادث في الصومال بعد سقوط نظام زياد بري في بداية عقد التسعينات، وبذلك تخرج واشنطن من المستنقع بأقل الخسائر ولا يعود من الممكن لأمد طويل قيام عراق قوي يهدد إسرائيل. وهناك البعض الآخر الذي يتحدث عن صفقة إيرانية أمريكية لتقسيم العراق الى ثلاث دويلات، واحدة في الجنوب تكون منطقة نفوذ لطهران ودويلتين في الوسط والشمال. ولكن هذا الحل سيقابل بمعارضة تركية قوية وكذلك من بعض الأطراف العربية. هناك فريق ثالث من المحللين يرى أن بوش وطاقمه لا يمكن ان يتنازل عن نفط العراق المثبت أنه الثاني من حيث الضخامة بعد السعودية، ولهذا فإن البيت الأبيض سيسعى لإتباع تكتيك يتوخى خفض خسائر الجنود الأمريكيين في الحرب وفي نفس الوقت الإستمرار في الإحتلال. تطبيق هذا المخطط يقوم على تركيز القوات الأمريكية في قواعد جيدة التحصين محمية بقوات من العراقيين وإستخدام القوات الجوية بشكل أساسي لمواجهة المقاومة وإستقدام قوات من دول عربية تحت غطاء إحلالها تدريجيا مكان القوات الأمريكية البريطانية، بالإضافة الى زيادة الإعتماد على شركات الأمن الخاصة أي قوات المرتزقة. مشكلة هذا الإختيار أنه لا يضمن خفض الخسائر البشرية الأمريكية بالإضافة الى أنه سيزيد مصاريف الحرب الى أكثر من 8 ملايير دولار شهريا. الأخطر من ذلك وبالنسبة للقوى المالية الكبرى التي تتحكم في سياسة البيت الأبيض هو أن مثل هذا الأسلوب في إدارة الحرب لن يسمح بزيادة إنتاج النفط العراقي وإيصال منافعه الى البنية الإقتصادية الأمريكية التي تعاني من مشاكل جمة. مقاومة شعب العراق زلزلت أمريكا وقلصت قدراتها العسكرية في العالم وأجبرتها على خفض عدد قواعدها في العالم بهدف تركيز وجودها حول منطقة الخليج العربي. وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد برر هذا التحول بضرورة توظيف القواعد الحالية التى أعد القسم الأكبر منها فى إطار الحرب الباردة مع المتطلبات الجديدة للحرب ضد ما يسميه ب الارهاب والتحديات الأخرى للقرن الحادى والعشرين. ولكنه كان من الواضح أن واشنطن كانت تدفع ضريبة حربها على العراق. وهنا يصدق القول الذى أدلى به أحد الخبراء الاستراتيجيين العالميين حين قال انه اذا سقطت أمريكا فى العراق فإن الطريق من بغداد إلى واشنطن سيكون مفتوحاً، وستنهار هذه الامبراطورية التى تمددت استراتيجياً أكثر من امكاناتها، وظلمت سياسياً أكثر من طاقة البشر على التحمل. فى هذا السياق، سياق تداعيات زلزال العراق، والتمرد التاريخى للعالم فى وجه الظلم الأمريكي، مع المقدمات المنطقية الداخلية لسقوط هذه القوة العظمى وانهيارها يأتى ما كتبه فى الواشنطن بوست ديفيد ليفي تحت عنوان تدهور الاقتصاد الأمريكي: الطريق إلى الهاوية، يأتى ليؤكد على أننا أمام عملاق ينهار من داخله وبالذات قلبه من الاقتصادي. هذا الانهيار الاقتصادى يمثل أحد أوجه الانهيار الأمريكى الكبير الذى تلا عملية غزو العراق، وهي نبوءة سياسية واستراتيجية وليست فحسب نبوءة دينية كما يحلو للبعض أن يسخر منها، وأمامنا كشاهد كتاب هام للبروفيسور تشالمرز جونسون الذى يعمل رئيساً لمعهد البحوث السياسية فى اليابان، وقام بالتدريس لثلاثين عاماً بجامعتى بيركلى وسان دييغو فى كاليفورنيا، وانتخب عام 1976 عضواً بالأكاديمية الأمريكية للعلوم، وله العديد من المقالات. بوش لا يريد أن يعترف بالهزيمة في العراق، ويفضل البقاء حتى تلحقه هزيمة تجعل مما حدث في الفيتنام أمرا أقل خطورة على مستقبل الولاياتالمتحدةالأمريكية.