قيل الكثير خلال الأسابيع الأخيرة في الساحة الأردنية وبعض المنتديات العربية عن ضرورة الحرب الفكرية على العنف الأعمى الذي يسمونه الإرهاب، وذلك تبعاً لعجز المسار الأمني عن توفير حل للمعضلة، كما تردد قدر كبير من الاتهامات للحركة الإسلامية "المعتدلة" ومعها جمهرة العلماء والدعاة بعدم القيام بما يكفي من جهد لمواجهة أفكار التكفير والتفجير بحسب تعبير البعض. ما يثير المراقب ابتداءً فيما يتصل بهذه الضجة هو مجيئها على خلفية تفجيرات لم ينفذها أردنيون ولم تخرج، لا فكراً ولا أدوات من الواقع المحلي الأردني، كما لم تحظ بتأييد أحد من الجماهير الأردنية، بما في ذلك أكثر المحسوبين على ما يعرف بتيار السلفية الجهادية، اللهم باستثناء بعض من يحاكمون على خلفية صلات بالزرقاوي ومحاولة تنفيذ عملية ضد أهداف أمنية أردنية. والحال أن رسالة الزرقاوي المسجلة التي جاءت بعد أيام من التفجيرات في الفنادق الأردنية الثلاث لم تكن مجرد تبرير لها، بقدر ما كانت لوناً من ألوان الاعتذار، وإن لم يكن اعتذاراً مباشراً، الأمر الذي يبدو طبيعياً بسبب وجود ثلاثة رجال وامرأة هو الذي أرسلهم، وهؤلاء لهم أهلهم وعشيرتهم وفضاؤهم الشعبي الذي لن يستسيغ الاعتراف بأن الهدف كان خاطئاً وأن أبناءهم قد قتلوا مسلمين أبرياء وليس يهوداً أو صليبيين. ما نريد قوله هو التأكيد على أن ما جرى جزء من إفرازات ظروف سياسية معروفة تتعلق بالهجمة الأمريكية الصهيونية على الأمة، والتي دفعت أسامة بن لادن إلى تأسيس الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين، فيما جاء الاحتلال الأمريكي لواحدة من أهم حواضر المسلمين بتلك الطريقة المهينة ومن دون مبرر سياسي أو أخلاقي، ومن ثم تسليم بعض السلطة فيها لحفنة طائفيين يستخدمونها من أجل تصفية ثارات تاريخية، جاء ذلك كله ليمنح هذا التوجه أو الخطاب دفعة كبيرة شملت مختلف أرجاء العالم العربي والإسلامي. وفي العموم فإنه لولا الظروف المشار إليها لما كان لخطاب الزرقاوي أن يجد فضاءً مسانداً في العراق، ومدداً كبيراً يتدفق عليه من خارجه. لقد قيل وسيقال في سياق تبرير الحرب الفكرية على العنف الأعمى إن قدراً من التعاطف مع أسامة بن لادن والظواهري وحتى الزرقاوي كان وما زال يتوفر في الأردن، وهو قول صحيح إلى حد كبير، لكن ذلك لا يقتصر على الأردن، بل يشمل العالم الإسلامي برمته، والسبب كما هو معروف يتعلق بمستوى الغطرسة الأمريكية حيال أمتنا، وليس بالتأمين على كل ما يفعله هذا التيار هنا وهناك. من المفيد التذكير هنا بأن القاعدة ليست تنظيماً يستهدف الأنظمة العربية أو المجتمعات، والذين يقولون ذلك لا يعرفون شيئاً عن تاريخه ونشأته، ويكفي أن نشير إلى أن نقطة التحول قد بدأت عندما أقنع أسامة بن لادن أيمن الظواهري بالكف عن استهداف النظام المصري والتحول نحو "رأس الأفعى"، أي الولاياتالمتحدة والكيان الصهيوني، وبذلك انضمت فلول حركة الجهاد المصرية إلى مريدي أسامة بن لادن، ومعظمهم من أيتام الجهاد الأفغاني، وتأسست قاعدة الجهاد التي اختصرت إعلامياً بالقاعدة، ثم أعادت التذكير باسمها الحقيقي من خلال الزرقاوي الذي أطلق على مجموعته اسم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين. صحيح أن الزرقاوي يتبنى في بعض الأحيان مساراً متميزاً عن قادة القاعدة بناء على ما يراه من معطيات، لكن تبريره لتفجيرات عمان في خطابه المسجل إنما يؤكد أن القاعدة لم تتحول نحو استهداف الأنظمة، ولن تفكر في ذلك قبل أن يكون لها دولة، وهذه يمكن أن تقوم على جزء من العراق بحسب قناعة الظواهري، الأمر الذي لا يبدو صحيحاً لأن الأوضاع العربية والإقليمية والدولية القائمة حالياً لا تسمح بذلك بحال من الأحوال، أما استهداف المجتمعات فلن يفكر فيه قوم يؤكد خطابهم أنهم يتميزون برغبة عارمة في كسب قلوب الجماهير. ولعل في قراءة رسالة أيمن الظواهري الأخيرة إلى الزرقاوي حول ما يجري في العراق، والتي يرجح أنها صحيحة، إنما تؤكد رغبة الرجل في كسب الجماهير وعدم التصادم مع وعيها بأي حال، إذ ينصح الزرقاوي بالكف عن استهداف عموم الشيعة، لاسيما في الحسينيات والأسواق، فضلاً عن ذبح الرهائن (لم يعد تنظيم القاعدة في العراق يمارسه)، كما يرفض الدخول في صراع مع إيران التي تستهدف من قبل الولاياتالمتحدة أيضاً، ويركز على كسب العلماء والجماهير حتى لو خالفوا في مسائل العقيدة، كأن يكونوا أشاعرة أو ماتريدية. من هنا يمكن القول إن فضاء العنف الذي نعنيه إنما يرتبط بما يجري في العراق، أكثر من ارتباطه بمسألة تكفير الأنظمة أو المجتمعات، وبخاصة المجتمعات، ونتذكر أن منظّر ما يعرف بالسلفية الجهادية (أبو محمد المقدسي) وهو صديق الزرقاوي أو شيخه بحسب البعض، قد رفض تكفير عموم الشيعة، فضلاً عن قتلهم. تبقى مسألة المواجهة مع ذيول محلية هنا أو هناك لمسار العنف الأعمى، وهذه لن تنجح بعد التنبه الأمني، إلا بتعزيز الحريات التي تنفس مختلف أشكال الغضب السياسي الذي يمكن أن يتحول إلى عنف أياً كان مستواه، من دون أن يحول ذلك دون إعادة النظر في البرامج الدينية، ولكن على قاعدة تكريس الفقه المعتدل، وليس دعم التدين التقليدي لمجرد أنه يحارب التسييس، ويكفي أن تمنح بعض الدول المنابر والمساجد لأقوام يرون أنفسهم وحدهم الفرقة الناجية ليكون ذلك مقدمة للتكفير والإقصاء. الأهم من ذلك كله في تقديرنا هو الحرص على الأولويات السياسية للأردن والدول العربية عموماً، إذ أن العنف الأعمى ليس هو التحدي الأساسي الذي يواجه الأردن كدولة ومجتمع، ولا الأنظمة العربية الأخرى، وما يهددها حقيقة هو نجاح المشروع الأمريكي في العراق الذي يستهدف إعادة تشكيل خريطة المنطقة وإعادة النظر حتى في هويتها، ومن ثم مساعدة شارون على تمرير برنامجه للتسوية، وهو برنامج يمس كينونة الأردن بشكل مباشر، كما يمس سيادة الأمة ومصالحها، ما يعني أن المقاومة المشروعة التي تتصدى لذلك كله ينبغي أن تكون أولوية أيضاً، وإذا لم يكن فلا أقل من دعمها، أو حتى عدم استهدافها بأي شكل من أشكال الاستهداف.