قبل أيام بادر أحد خصوم الإسلاميين إلى اعتبار فتوى الشيخ القرضاوي بوجوب قتال الأميركيين في العراق سبباً في مجزرة مدرسة بيسلان الأوسيتية في روسيا، فيما اعتبر آخر بأن إدانتهم لخطف الصحافيين الفرنسيين ولمجزرة المدرسة لا تكفي ولا بد مما هو أكثر من الإدانة. والحال أن حناجر الإسلاميين في العالم العربي قد بحت من التصريحات وأقلامهم قد جفت من البيانات بشأن اختطاف الصحافيين الفرنسيين، وتالياً بشأن مجزرة المدرسة وقبل ذلك بشأن مختلف العمليات الإشكالية في الساحة العراقية، لكن أحداً في الساحة العلمانية والحداثية لا يريد أن يصدقهم أو يصفح عنهم، فضلاً عن أن يمنحهم صك البراءة من تلك الجرائم التي يجري تداول الحديث عنها بين يوم وآخر. بل إنك لن تعدم في ظل فوضى التنظير السائدة في الساحة العربية من يتجاوز الظاهرة الإسلامية كمنتج طبيعي للعنف إلى الإسلام ذاته كدين ونهج يؤسس لفكر العنف ويمنحه الفضاء الضروري للنمو والتمدد. وهو بالطبع خلاف ما يقوله السياسيون العرب ، بل والغربيون أيضاً ممن يميلون كما جرت العادة في سياق الحديث عن الإرهاب، إلى تبرئة الإسلام من إجرام المجرمين وعبث العابثين، مع أن مضمون خطابهم لا يذهب ذات المذهب في مضمونه وجوهره. وإلا فما معنى "حرب الأفكار" التي تحدث عنها رامسفيلد، أو "الكفاح الأيديولوجي طويل المدى" حسب الرئيس بوش، أو تشبيه معركة الإرهاب بالمعركة ضد الشيوعية حسب آخرين في دوائر المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة؟ واللافت أن "الإرهاب الإسلامي" هو الوحيد الذي ينسب إلى الدين، خلافاً لعنف أو "إرهاب" المليشيات المسيحية في الولاياتالمتحدة أو العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، أو ما كان بشأن عنف الكاثوليك في إيرلندا، مع أن أي دين أو حتى فكر في العالم لا يمكن أن يكون بمنأى عن إنتاج شكل من أشكال العنف ضد الآخرين في حال توفرت الظروف الموضوعية لذلك كما حصل مع عنف اليسار في الستينات وما تبقى من فلوله هنا وهناك حتى هذه الأيام. هنا تتبدى أزمة الإسلاميين مع خصومهم الذين لا يريدون أن يروا تلك الظروف الموضوعية المنتجة للعنف، أكان عنفاً مشروعاً أم مرفوضاً، ويصرون تبعاً لذلك على إدانة الفكر الذي يبرره وهو الدين هنا، لأن التأويل المتشدد للنصوص لا يتأتى إلا بتوفر الأرضية التي تحمله نحو تلك الوجهة أولاً، لكن ذلك يبقى غير كاف في سياق إنتاج العنف، لأن ظروفاً أخرى ينبغي أن تتوفر حتى يترجم الفكر المتشدد إلى سلوك مادي عنيف. في هذا السياق يبرز في مواجهة الإسلاميين لونين من الخصومة كثيراً ما يلتقيان في ذات الخطاب فيما يفترقان في بعض الأحيان؛ ففي اللون الأول هناك ضيق باتساع الدائرة الشعبية للحركات الإسلامية والفكر الإسلامي مقابل ضمور وتراجع الأفكار والقوى الأخرى، بل إن ثمة حقد يتجاوز ما يسمونه "الإسلام السياسي" نحو حركة التدين في المجتمعات الإسلامية، وحيث يتمنى كثيرون لو يستيقظون ذات صباح فلا يرون محجبة على الأرض ولا لحية تنم عن التزام إسلامي، وصولاً إلى اختفاء المساجد وأصوات المؤذنين المزعجة!! أما اللون الآخر الأكثر شيوعاً وربما أهمية هذه الأيام فهو ذلك الذي يضيق ذرعاً ببرنامج المقاومة الذي يتبناه الإسلاميون في العالم العربي والإسلامي ضد الهيمنة الأجنبية وضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والأمريكي للعراق، سيما وهو برنامج يمنحهم الكثير من المصداقية في الشارع الشعبي ويجعلهم سادة الموقف سياسياً وإعلامياً حتى وهم مطرودون عملياً من جنة الأنظمة وعطاياها، بل وملاحقون أيضاً من قبل أجهزتها الأمنية، سواءً أكانت ملاحقة تهدف إلى مواجهة شغبهم الداخلي الذي قد يتوفر هنا أو هناك، أم كانت من ذلك اللون الذي يعمل لحساب الخارج في بعض الحالات وفي سياق التأكيد على التعاون الحثيث في مكافحة الإرهاب. في هذا السياق تأتي الأعمال الإشكالية المرفوضة بل والإجرامية المدانة في بعض الأحيان لتمنح هذا اللون من الخطاب مادته المفضلة، ليس لهجاء ذات الأعمال ومعها مرتكبيها فقط، بل ولهجاء برنامج المقاومة من أصله، حتى في تجلياته الأكثر نقاءً ومشروعية مثل الحالة الفلسطينية، ومعها العراقية في سياق استهداف قوات الاحتلال، وحيث يدفع ذلك الولاياتالمتحدة إلى تقديم تنازلات للشق المتعاون معها بهدف التأكيد على نوايا الخروج من البلاد بعد تسوية أوضاعها الأمنية والديمقراطية. يحدث ذلك في ظل تجاهل مقصود، ليس للعناصر الإيجابية في برنامج المقاومة، وهي موجودة بالفعل، بل وللأسباب التي تؤدي إلى تصعيد موجة العنف في بعض الأحيان، من حيث مستوى القمع الذي يمارسه الطرف الآخر، فضلاً عن تجاهله لشذوذ الأعمال المرفوضة إذا ما قيست بالأخرى المشروعة. ما هو مطلوب حسب هذا الخطاب، وسواءً عرض مباشرة أم بشكل غير مباشر، هو نبذ برنامج العنف أو المقاومة من أصله، أكان عبر استبداله ببرنامج اللاعنف أو المقاومة السلمية الذي جيء بحفيد غاندي كي يبشر به في الأراضي الفلسطينية، أم من دون مقاومة أصلاً، لا سلمية ولا عنيفة، كما هو الحال في العراق على سبيل المثال، وحيث المطلوب هو إتاحة الفرصة للحكومة التي نصبها الاحتلال كي تحمل البلاد والعباد نحو آفاق الحرية والرفاه. ولما كان ذلك الخطاب بلونيه مرفوضاً من قبل الإسلاميين، فإن المعركة ستتواصل على ذات النحو، الأمر الذي ينبغي أن يدفع الإسلاميين؛ مقاومين ومنظّرين ومتفرجين، إلى تجاهل تلك الهجمات المتوالية عليهم، وتركيز الاهتمام على تنقية الظاهرة الإسلامية المقاومة من طفيلياتها وأخطائها، سيما وهم يرون بأم أعينهم حجم مساهمتها الفاعلة في الدفاع عن الأمة. ولن يتم ذلك فقط من خلال البيانات على أهميتها، بل من خلال المساهمة في تفعيل المسار الصحيح في برنامج المقاومة. * كاتب من الأردن