قيامك طوال الشهر في الصلاة مع الإمام مهما استرسل وأطال، حجة عليك بأن لك القدرة على طول القيام، فلا تقصر فيه سائر العام، خذ بنصيب من ذاك القيام بعد شهر الصيام، فهو (شرف المؤمن)، فلا تفرط في شرفك بقية العام. ختمت القرآن مرة، أو بعض مرة، أو أكثر من مرة في رمضان، وهذا إنصاف لنفسك من الوقوع في هجران القرآن، فإذ عزفت عن الشواغل والصوارف حتى أنجزت هذا.. هلا عزمت على صرفها عنك مرات أخرى للإكثار من (تحزيب القرآن) في سائر الأيام. حافظت بقدر استطاعتك على قلبك وعقلك، فصمت به عن غوائل الهوى النزاعة للشوى، وصنت سمعك وبصرك وفؤادك عن الحرام في شهر الصيام، لكن صيام تلك الجوارح عن الحرام لا نهايةله بغروب شمس أو بهلال عيد، فصيام السمع والبصر والفؤاد عن الحرام شريعة الله في سائر العام (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) (الإسراء 36)، فأنت لا تساءل عنهم فقط في أيام الصيام، بل ما بقي في عمرك من عقود أو أعوام أو أيام. تخلقت بأخلاق الإسلام في رمضان، وكنت تقول لمن سابك أو شاتمك إني امرؤ صائم، فأمسكت لسانك في أيام الشهر الكريم، فلتجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء، فهلا علمك الصيام أن ذلك الإمساك هو ملاك الأخلاق في سائر الأيام، وأن حسن الأخلاق هو أثقل شيء في الموازين، ودليل الكمال في إيمان المؤمنين. أرحامك، إخوانك ، جيرانك، أهل بيتك، أحييت صلتهم في رمضان، فلا تعدهم في الموتى بعد رمضان، فالصيام يحيي قلبك في الشهر الفضيل لوصلهم، ليظل الوصال حيا سائر الأيام. كنت في شهرك جوادا كريما، لأن الشهر الكريم علمك الكرم، ولكن ربك الحي الذي لا يموت هو الغني الأكرم، الجواد الأعظم، فعامل عباده بما تحب أن يعاملك به من الجود والكرم، فعساه أن يجود عليك بنعيم الجنان ويرحمك من لهيب النيران. عهدناك حيا حييا في شهر الصيام، فخذ على نفسك العهد أن تبقى على عهد الحياة والحياء بعد شهر الصيام، فعسى أن يكون هذا العهد توبة من الله عليك، وتوفيقا وذخرا لديك، فإذا أبرمت ذلك العهد فإياك والنكث، ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) (الفتح 10)، واحذر أن تكون بنقض العهد ربع منافق، فخصال المنافقين الأربع، إحداهن نقض العهود، وهو أقبح الأنواع وأسوأ الضروب، التي ذكر بها المنافقون في القرآن (ومنهم من يلمزك في الصدقات) (التوبة 58)، ( ومنهم الذين يؤذون النبيء ويقولون هو أذن) (التوبة 61) ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون) (التوبة 85 86)، فماذا كانت عاقبة ذلك النكث (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) (التوية 77). عاهد الله بالمحافظة على الطاعات، وأنت في نهاية موسم الطاعات، فقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم يعاهد الله على الطاعة في كل ساعة قبيل الليل وأول النهار، فيقول في دعائه المسمى سيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).