بحسب إحصاءات وزارة الدفاع الأمريكية فإن عام 2005 الأفغاني يبدو أسوأ من مثيله العراقي إذا ما أخذت أعداد الجنود الأمريكيين المرابطين في البلدين في الحسبان، ففي أفغانستان قتل واحد من بين كل 243 جندي، فيما قتل في العراق واحد من بين كل 265 جندي. ما يلفت الانتباه في المعادلة الأفغانية هو أن معدلات الاستنزاف البشري بالنسبة للأمريكيين آخذة في التصاعد بمرور الوقت، فيما تشير أعمال المقاومة إلى تطور نوعي في أدائها ومستوى دقتها ومن ثم قدرتها عل إيقاع الخسائر بالعدو، وكل ذلك يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن البلاد لا تسير في اتجاه الاستقرار والازدهار كما تشيع الأوساط الرسمية الأمريكية، بل تسير في اتجاه مزيد من العنف والفوضى. والحال أن مستوى الفشل الذي تعانيه الولاياتالمتحدة في أفغانستان ما يزال أكبر بكثير مما تعكسه وسائل الإعلام، لاسيما وهي تغيب على نحو لافت للنظر تبعاً لانشغالها بجبهة العراق الأكثر سخونة. نقول ذلك لأن الفشل هناك لا يتركز في عمليات المقاومة ضد الجيش الأمريكي أو ضد قوات الحكومة التابعة في كابول، بل يتجاوزه ليشمل جملة الترتيبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ذلك البلد الذي جاء الأمريكان من أجل تحريره من نير التخلف ومنح نسائه حرية العمل والحركة وبناته حرية التعليم، فضلاً عن أبنائه. في الحالة الأفغانية ثمة ما يشير إلى إمكانية الفشل أكثر من الحالة العراقية ذاتها، مع فارق أن ما كان يعول على العراق يبدو أكبر بكثير، ففي الحالة العراقية تستقطب اللعبة السياسية التي تتم تحت عباءة الاحتلال نسبة كبيرة من الجمهور الشيعي والكردي، أي نسبة كبيرة من الشعب العراقي، أما الوضع الأفغاني فيبدو أكثر تعقيداً، إذ أن تحدر (الأمريكي الجنسية حامد كارازاي) من أصول بشتونية لم يعد يعني شيئاً بمرور الوقت بعد أن تأكد أن مفاصل الدولة التي صنعها المحتلون بعد سقوط حكومة طالبان ما تزال حكراً على الأقليات الأخرى الأقل عدداً مثل الطاجيك والأوزبك والهزارة (الشيعة)، بل إن قادة المليشيات الذين يحظون بالكثير من الازدراء في الأوساط الأفغانية هم أنفسهم من يتسيّدون اللعبة، أكان على نحو مباشر أم من خلال أزلامهم ومن يأتمرون بأمرهم. كل ذلك أخذ يلقي بظلاله على أوضاع البشتون الذين يشكلون ما يقرب من نصف السكان، والذين أخذوا يميلون شيئاً فشيئاً إلى جانب طالبان في مواجهة هيمنة الأطراف الأخرى على البلاد، أكان بسبب ما يعنيه ذلك من استخفاف بالعرقية التي حكمت أفغانستان طوال قرون، أم بسبب غياب أي ملمح من ملامح التقدم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن الغياب الواضح للأمن والأمان من ذلك اللون الذي تمكنت طالبان من فرضه خلال فترة حكمها، بصرف النظر عن رأي البعض في طبيعة ذلك الحكم وأدواته السياسية والاجتماعية، حتى لو توفرت للأفغان حرية الرقص وسماع الموسيقى، ولنسائهم حرية الخروج سافرات، مع أن قلة منهن لا تكاد تذكر هن من فعلن ذلك في ظل غياب الأمن والأمان الناجم عن هيمنة المليشيات وقطاع الطرق على الأوضاع في المدن والقرى. ما يزيد الأوضاع سوء بالنسبة للأمريكان والحكومة العميلة في كابول هو أن الحدود الباكستانية قد عادت إلى سابق عهدها أيام الحرب الأفغانية الأولى والثانية قبل استتباب الوضع لصالح طالبان، عادت لتكون شرياناً حيوياً بالنسبة لقبائل البشتون عموماً، فضلاً عن حركة طالبان التي تقود التمرد على الاحتلال وحكومته الدمية في كابول. ولا يخفى أنه حين تغضب قبائل البشتون الأفغانية، فإن من الطبيعي أن يتردد صدى غضبها على جانبي الحدود، لاسيما وأن كثيراً من وعود الدعم التي أطلقت بعد الحادي عشر من أيلول قد تبخرت أو أفضت إلى مستويات دعم هزيلة لا تساوي حجم ما بذلته باكستان من أمنها وتوافق مكوناتها السياسية والقبلية. يحدث ذلك في ظل محاولات تفتقر إلى الجدية من قبل الحكومة الباكستانية لوقف الظاهرة، وذلك بعد أن أيقنت أن الأوضاع في أفغانستان قد آلت إلى خصومها من الأقليات، فيما لا تطمئن هي إلى النوايا الأمريكية بحال من الأحوال. هكذا توفرت الأجواء الضرورية لتصاعد ثورة طالبان المسلحة ضد المحتلين وحكومتهم التابعة، فحين يتوفر الفضاء الشعبي الواسع في مناطق البشتون الشاسعة على جانبي الحدود الباكستانية الأفغانية، وحين يتوفر الدعم العسكري واللوجستي من الخارج، يغدو من الطبيعي أن تتصاعد المقاومة على نحو مضطرد، بل إن العمليات العسكرية الأمريكية المتتالية لا تزيدها إلا قوة، إذ تضطر القوات الأمريكية إلى مغادرة قواعدها الحصينة، الأمر الذي يسهل اصطيادها هنا أو هناك. تتأكد هذه المعادلة أيضاً في ضوء البخل الأمريكي الواضح في مساعدة الأفغان وتقديم قادة البيت الأبيض للهاجس العراقي على الأفغاني، ولعل ذلك هو السبب خلف التسامح مع لعبة المخدرات التي عادت لتشكل أحد أهم مصادر الدخل في أفغانستان بعد أن كانت طالبان على وشك القضاء عليها. ولن يكون غريباً بعد ما جرى أن تعود الحركة للتسامح مع زراعتها وبيعها لاعتبارات سياسية، لاسيما في ظل توفر فتوى عندهم تجيز بيعها للكفار!! خلاصة القول هي أن أفغانستان قد تحولت إلى عنوان آخر للنزيف الأمريكي، كما هي عنوان آخر لحرب الإرهاب أو حرب مد نفوذ الإمبراطورية الأمريكية أو تكريسه خلال القرن الجديد. وفي حين لا يتوقع أن تغير الانتخابات القادمة بعد أسبوعين من واقع الحال على الأرض، وفي حين يغدو المأزق العراقي أكثر وضوحاً، فإن في ذلك كله ما يبشرنا باندحار الهجمة وعودة بوش ومحافظيه الجدد وصهاينته بالخيبة والخسران.