ظاهرة جديرة بالإشادة تلك التي بدأنا نتلمس نتائجها الإيجابية في السنوات القليلة الماضية، والمتمثلة في الاستعانة بالطاقات الإبداعية لتعزيز صفوف منتخباتنا الوطنية في عدة أنواع رياضية، والتي استطاعت انتزاع شواهد التألق والبروز باقتدار كبير في ديار المهجر. ذلك أن الالتفات إلى أبناء جاليتنا في الخارج، خاصة أبناء الجيل الثالث، والحرص على الاستفادة من مؤهلاتهم في العديد من الميادين الرياضية سيساهم لا محالة في إحياء روح الانتماء للوطن الأم ويجدد آصرة الولاء للإسلام عقيدة وهوية. غير أن المؤسف في الأمر هو اقتصاره على المجال الرياضي دونما حرص من قبل الجهات المسؤولة على الاستفادة من مؤهلات وقدرات المغاربة القاطنين بالخارج في مجالات أخرى برغم احتياجنا الملح إليها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد غير قليل من إخواننا المهاجرين وقد باتوا يحتلون مناصب سياسية رفيعة في الدول التي استوطنوها، فالكثير من هؤلاء أصبح يتمتع بنفوذ واسع لدى دوائر صنع القرار السياسي، وما أحوجنا اليوم في ظل حالة العجز المزمن الذي تعاني منه ديبلوماسيتنا الضعيفة، إلى تكوين لوبيات ضاغطة داخل هذه البلدان ترعى مصالح المغرب وتدافع عن قضاياه الكبرى وفي مقدمتها قضية وحدتنا الترابية. وعلى الصعيد الاقتصادي تمكن العديد من المغاربة القاطنين بالخارج من اكتساب خبرات واسعة في قطاع المال والأعمال واقتحم الكثير منهم عالم الاستثمارات من بابه الواسع واستطاعت ثلة أخرى أن تجد لنفسها مواقع في مراكز حساسة داخل المؤسسات النقدية الدولية، ناهيك عن الشخصيات التي دونت أسماءها بمداد من فخر في ميدان الاقتصاد وإدارة وتسيير المقاولات حتى أصبحت مراجع استشارية لا غنى عنها في البلدان التي تقيم بها. وكل هذه الطاقات الوطنية المهاجرة يمكن الاستفادة منها في إعادة تأهيل اقتصادنا الوطني وفي استجلاب الاستثمارات الكبرى، وحتى في تجاوز معضلة الدين الخارجي . أما في ما يتعلق بالبحث العلمي فحدث ولا حرج ما دام نزيف هجرة الأدمغة مستمرا في غياب أي محاولات جادة لإيقافه أو الحد من تداعياته السلبية على مستقبل بلادنا. وما أحوجنا اليوم على الأقل للاستفادة من خبرات ومؤهلات تلك العقول المهاجرة والاستعانة بكفاءاتها في إعداد مشاريع إصلاحية حقيقية لقطاع التعليم بمختلف أسلاكه وتوفير الأرضية المناسبة للنهوض بالبحث العلمي في ديارنا، ووقف نزيف ميزانية الدولة الناتج عن الاستنجاد غير المبرر بالخبرات الأجنبية المكلفة ماديا وغير المقنعة إنتاجيا والأمر نفسه ينطبق على معظم المناظرات العلمية والملتقيات الدراسية التي تهدر فيها الأموال الطائلة من دون تحصيل شيء ذي بال. نعم نحن بحاجة إلى استكشاف مؤهلات أبناء جاليتنا في الخارج والحرص على تحقيق أكبر إفادة ممكنة من طاقاتهم الإبداعية على جميع الأصعدة وفي كافة الميادين، وهذا ما يطرح على المسؤولين ملحاحية إحداث بنك للمعلومات في هذا الصدد أو دليل إرشادي يشكل نقطة انطلاق في هذا الاتجاه، وتيسير إمكانية تنسيق الجهود بين المغاربة القاطنين بالمهجر، المفترض أن تكون لهم تمثيلية في المؤسسات السياسية الرسمية داخل أرض الوطن وفي مقدمتها البرلمان، حتى يتسنى لهم التوفر على مخاطب رسمي تجاه السلطات الحكومية يعبر بالفعل عن صادق همومهم وكبير انشغالاتهم. وبذلك نكون قد نجحنا في تجاوز التعامل التقليدي مع جاليتنا في الخارج المقتصر على جعل ميزانية البلاد تعيش عالة على عائداتهم السنوية أملا في أن تقوم بتغطية جزء كبير من العجز المزمن الذي تعانيه، وفقط؟ وإن كان هذا لا ينسينا حق مساعدتها في الحفاظ على هويتها واستمرار ارتباطها بمقوماتنا الوطنية والتاريخية والحضارية، بما يناسب من تحركات تجاه الدول الحاضنة، وبما يمكن توفيره على مستوى التأطير الديني والتربوي والتعليمي وما يمكن جلبهم به على المستوى الإعلامي، إنها مسؤولية تاريخية جسيمة تحتاج إلى همم عالية وإرادات صادقة.