أصدر أخي الفاضل الدكتور جاسم سلطان كتابه الأخير (التراث وإشكالياته الكبرى)، وقد نجح في تحريك المياه الراكدة حول بعض القضايا الحساسة المتعلقة بتراثنا العربي والإسلامي، ولا أريد أن أكون جزءا من هذا الحراك، غير أني وجدت من مجموع ما قرأت وسمعت من ردود ونقاشات أنه من النافع هنا الاتفاق على بعض القواعد التي تمهد لأرضية صلبة يمكن الانطلاق منها: أولا: التمييز بين الوحي (كتابا وسنة) وبين التراث الإسلامي والذي هو نتاج لتفاعل العقول المسلمة مع هذا الوحي والتي تقبل بطبيعتها السهو والخطأ. ثانيا: التمييز بين التراث الإسلامي المنبثق من الوحي والمتفاعل معه وبين التراث الآخر الذي يعمل في دائرة غير دائرة الوحي، وكونهما يحتملان الصواب والخطأ لا يعني أنهما سواء، فلو لم يكن من فارق إلا وجود أثر الوحي في كل صفحة من صفحات تراثنا لكفى به فارقا. ثالثا: التحقيق العلمي الدقيق في الروايات التاريخية قبل اعتمادها والاتكاء عليها، فالمعروف أن كتب التاريخ تحمل كما هائلا من التناقضات والقصص التي تصل إلى حد الخرافة، وأثر الدس في الكثير منها واضح، وعليه فإن نقد التراث قبل نقد التاريخ مدعاة للزلل والشطط. رابعا: التحقيق العلمي في مصدرية التراث الإسلامي لبعض المقولات الشائعة اليوم، وهذه بلوى عامة ابتلينا بها خاصة مع برامج التواصل الاجتماعي، ففي كل يوم تقرأ: قال علي بن أبي طالب، وقال الشافعي، قال ابن تيمية، وقال ابن القيم، بلا سند ولا مصدر، وبعضها كذب واضح مثل (أنا الضحوك القتال) و (إذا أردت معرفة الحق فاتبع سهام العدو)! خامسا: الحذر من الطريقة الانتقائية أو العشوائية في الاستشهاد، لأنها طريقة مضللة ومشوشة، فالباحث قاض، والقاضي يستجمع البينات والقرائن قبل الحكم، ولا يكتفي بالشاهد الواحد، وقد مرت بي عبارات شديدة لعالم فاضل ينتقد فيها حجة الإسلام الغزالي، لأنه فهم من عبارة له أنه يقدم العقل على النقل! فلما قرأت له من المستصفى العبارات الصريحة المخالفة تماما لفهمه تحير أولا ثم تراجع. سادسا: التأكد من مكانة هذه المقولة وحتى صاحبها في التراث نفسه، فليس كل اسم يرد في تاريخنا وتراثنا يعني أنه كان له وزن معروف أو مقبول في ذلك التراث، حتى لو ذاع صيته اليوم، فما ذنب التراث حينما يعجز أبناء هذا الجيل عن فهم الشافعي في الأصول وأبي حنيفة في الفقه وأبي يوسف في الاقتصاد والجويني في السياسة وابن خلدون في الاجتماع وابن هشام في النحو وموسوعية الغزالي وابن تيمية، وغير هؤلاء ممن لا يحصون عددا، ثم يقعون أسرى للمقولات (الوعظية) السهلة التي تدعو مثلا إلى الاستسلام المميت لعقيدة الجبر أو الإرجاء، والتي لم تكن الأمة تسمع لها ولا تتأثر بها، بدليل حجم المنتج الحضاري الهائل على كل المستويات، أما حضور هذه المقولات اليوم وخفوت تلك المنارات الهادية فهذه مشكلة عصرية وليست تراثية، وقد لمست من أخي د.جاسم في حوار مطول معه أن هذا هو الذي يشغله، فهو يسعى لتفكيك المقولات التي تؤثر سلبا في واقع المسلمين اليوم بغض النظر عن موثوقيتها ومقبوليتها في التراث.