مَنْ منا لم يسمع الأذان؟ ومن منا لم تطرق كلماته المتميزة أذنيه؟ إن كلمات الأذان بحمد الله (تعالى) تتردد في كل بلد مسلم، وترتفع كل يوم خمس مرات من آلاف المآذن والمساجد المنتشرة في المدن والقرى، بحيث يمكن القول: إن عدد المرات التي يسمع فيها المسلم الأذان في حياته يفوق أي كلمات أخرى تتكرر على سمعه، هذه الأسئلة وغيرها شكلت حافزا للدكتورمحمد عز الدين توفيق، خطيب مسجد عقية بن نافع بالبيضاء، وكتب هذه التأملات، التي تنشرها النجديدعلى حلقات ثلاث، يقول الأستاذ محمد عز الدين:ليس المقصود تفصيل أحكام الأذان وبيان شروطه وسننه وآدابه، فذلك مذكور في مواضعه من كتب الحديث والفقه، ولكنه نظرات في كلماته الجامعة، وتأملات في معانيه الكبيرة، بقصد الوقوف على الحقائق الدينية التي تقررها تلك الكلمات، وتسعى إلى ترسيخها في نفوس المسلمين، بل في نفوس الناس كافة. الآذان بين المعاني الشرعية والاعتيادية الأذان هو ذلك النداء الذي يعرفه كل مسلم، ويحفظ كلماته منذ طفولته وصباه، فهو شعار من شعائر الدين المشهورة، لكن هذه الشهرة التي يتمتع بها الأذان بين المسلمين لا تعني بالضرورة أن المعاني والحقائق التي ينادي بها معروفة لكل الناس، فشهرة الكلمات تقابلها غربة المعاني والمضامين. إن معظم المسلمين يعرفون الأذان بوصفه أداة تجمعهم على الصلوات في المساجد، وقد يعرف بعضهم المعنى اللغوي لكلماته وألفاظه، ولكنهم يتفاوتون في معرفة المعاني الشرعية التي تحملها تلك الكلمات؛ مما يجعل لهذا الموضوع أهمية كبيرة، لأنه يحاول إحياء هذه المعاني والإشارة إلى هذه الحقائق حتى إذا سمع المسلم الأذان حضرت في قلبه وذكرها في نفسه، وهي حقائق لا يجوز أن تغيب عنه، فيتولى الأذان تذكيره بها بصفة مستمرة. وقد شُرع الأذان في السنة الأولى بعد الهجرة، بينما فرضت الصلاة قبلها بعدة شهور في ليلة الإسراء والمعراج، ويبدو أن تشريع الأذان تأخر إلى ما بعد الهجرة؛ لأنه لم يكن للمسلمين بمكة مسجد يجتمعون للصلاة فيه، فلما هاجروا إلى المدينة وبنوا المسجد احتاجوا إلى أداة تجمعهم في وقت واحد لإقامة الصلوات المكتوبة في جماعة. وكانت الأدوات التي يُدْعَى الناس بها إلى الصلوات والطقوس الدينية هي: النفخ في البوق كما عند اليهود، والضرب على الناقوس كما عند النصارى، وإشعال النار كما عند المجوس، فأبدل الله هذه الأمة بذلك كله: كلمات الأذان، والملاحظ أن الفرق بين هذه الطرق الثلاث وبين رفع الأذان، هو أن هذا الأخير كلماته مركبة في جمل لها معنى يرددها إنسان ويرفع بها صوته؛ فيفهمها من له معرفة باللغة العربية أو من تُرجمت له معانيها ونقلت إليه باللغة التي يتكلمها، بينما النفخ في البوق أو الضرب على الناقوس لا ينشىء كلاماً له معنى، وإنما يحدث أصواتاً صماء غاية ما تدل عليه هو الهدف الديني الذي وضعت له، لكنها لا تحمل إلى السامع معاني أخرى عبر الصوت الذي يصل إلى مسامعه، وهذا الذي ذكرناه عن النفخ في البوق والضرب على الجرس ينطبق على إشعال النيران أيضاً. من مقاصد الآذان فلا يمكن أن يكون العدول عن هذه الطرق الثلاث إلى كلمات الأذان لمجرد مخالفة المشركين وأهل الكتاب، ومع أن القصد إلى مخالفتهم واضح في تشريع الأذان؛ لأنه شعار من شعائر الدين، لكن القصد إلى المخالفة والتميز لا يمنع من إثبات قصد آخر، هو: تركيز معاني الإسلام وحقائقه الكبرى في كلمات هذا الأذان ليؤدي مهمة مزدوجة، ويجتمع للمسلمين في أداتهم ما لم يجتمع لمن قبلهم.إننا نلاحظ لدعم هذا المعنى الأمور الآتية: أولاً: الأذان كلمات مختارة ومرتبة بعناية، وهذا الاختيار والترتيب مقصود لأمر يتجاوز مجرد الإعلام بدخول وقت الصلاة. ثانياً: السنة في الأذان أن يجهر به المؤذن، ويمد الصوت بألفاظه حتى يصل إلى أطول مسافة وأكبر عدد من الناس. ثالثاً: تكراره مع دخول وقت كل صلاة وعددها في اليوم خمس، فيتكرر خمس مرات في كل يوم صبحاً وظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً. رابعاً: النهي عن خلط أي كلمات أخرى به سواء في أوله أو في آخره حتى تتميز كلماته عن غيرها من الكلام الذي قد يزيده الناس، وقد حفظت كلمات الأذان بالتواتر على مر العصور، تبدأ بكلمة (الله أكبر)، وتنتهي ب (لا إله إلا الله). خامساً: ليس كل من يسمع الأذان بالضرورة من المصلين، بل ليس كل من يسمع الأذان مسلم، فلا شك أن للأذان رسالة إلى هؤلاء. سادساً: اختيار المؤذن الأندى صوتاً، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للصحابي الذي رأى في منامه من يعلمه الأذان: قم فلقنه بلالاً فإنه أندى صوتاً منك. والصوت الندي هو: الصوت القوي الواضح الجميل الذي تجتمع في صاحبه الموهبة والدربة، فلا يكون الصوت حسناً بالأذان إلا إذا كان النطق به وفق قواعد اللغة العربية ومخارج حروفها، وهذا بالتأكيد من أجل أن يفهم الناس عن المؤذن ما يقول، فإذا كان الصوت منفّراً أثر في هذه الغاية وأضعفها. سابعاً: الترغيب في المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجراً وتفضيله على الذي يأخذ؛ ليمتزج إخلاص قلبه مع كلمات لسانه، ولذلك أثره في نفس السامع. سبب مشروعية الأذان لقد كان سبب مشروعية الأذان رؤيا رآها الصحابي الجليل عبد الله بن زيد بن عبد ربه، قال:لما أمر رسول الله بالناقوس لِيَضْرب به الناس في الجمع للصلاة وفي رواية: وهو كاره لموافقته للنصارى طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: ما تصنع به؟ قال: فقلت ندعو به إلى الصلاة؟ قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قال: فقلت بلى، قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله...، فلما أصبحت أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتاً منك، قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع بذلك عمر وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى، قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فلله الحمد. لم يكن الأذان إذن اقتراحاً من بعض الصحابة أو اتفاقاً بينهم، وإنما كان رؤيا رآها أحدهم، وقال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنها رؤيا حق.