إن السلام العالمي لن يكون إلا وليد النور الإلهي، النور الذي يشرق في قلوب المؤمنين بالخير والجمال؛ بما يسكبه القرآن في وجدانهم، من معاني الحق والعدل والحرية! ودون ذلك معركة يخوضها القرآن بكلماته ضد كلمات الشيطان، وإلا بقيت البشرية اليوم تغص حلاقيمها بفاكهة آدم إلى يوم الدين. والقرآن وحده يكشف شجرة النار ويتلف فاكهتها الملعونة. إن هذا القرآن كلام غير عاد تماما، إنه كلام خارق قطعا، ليس من إنتاج هذه الأرض ولا من إنتاج أهلها، وإن كان عليهم تنزل ومن أجلهم تلي في الأرض. إنه كلام الله رب العالمين، الذي قال: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَاْلأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(الزمر:76). إنه الكلام الذي لم يملك قَبِيلُ الجن إذ سمعوه إلا أن: (قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ؟(الأحقاف:92-03). وقالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)(الجن:1-2). قوة غيبية أقوى مما يتصوره أي إنسان إن كلمات هذا القرآن -لو تعلمون- قد تنزلتْ من السماء محملة بقوة غيبية أقوى مما يتصوره أي إنسان؛ لأنها جاءت من عند رب الكون، تحمل الكثير من أسرار الملك والملكوت، وهي جميعها مفاتيح لتلك الأسرار؛ بما فيها من خوارق وبوراق لقوى الروح القادمة من عالم الغيب إلى عالم الشهادة. وتدبر قول الله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)(الفرقان:4-6). إن الذي يظن أنه عندما يقرأ القرآن يقرأ كلاما وكفى، تمضي كلماته مع الهواء كما تمضي الأصوات مع الريح؛ فإنه لا يقرأ القرآن حقا ولا هو يعرفه بتاتا.. وإنما الذي يقرؤه ويتلوه حق تلاوته إنما هو الذي يرتفع به، ويعرج عبر معارجه العليا إلى آفاق الكون، فيشاهد من جلال الملكوت ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهنالك يتكون ومن هنالك يتزود. فآهٍ ثم آهٍ لو كان هؤلاء المسلمون يعلمون! وصدق الله جل وعلا إذ قال: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)(يس:03). نعم؛ يا حسرة على العباد! أوَليستْ كلمات الله هي التي امتدت من هذه العبارات التي نتلوها إلى أعمقَ مما يمكن أن يتصوره الخيال، وأبعد من أن يحيط به تصور بشري من مجاهيل الوجود؟ ألا تقرأ في كتاب الله ذلك صريحا رهيبا؟ اقرأ إذن: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ؟(لقمان:72). ؟قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)(الكهف:901). من اليقين إلى التمكين فأين ينتهي هذا القرآن إذن؟ إنه لا ينتهي أبدا. ويحك يا صاح! أليس تعلم أن كلام المتكلم صفة من صفاته؟ ومتى كانت صفات الله لها نهاية؟ وهو جل جلاله، وعزّ سلطانه رب العالمين، المحيط بكل شيء. فكيف إذن بمن تَخَلَّقَ بهذا القرآن وتحقق به في نفسه ووجدانه، وصار جزءا حقيقيا من حركة القرآن في الفعل الوجودي، وهذا القرآن تلك صفته وحقيقته؟ أوَليس حقا قد صار جزءا من القَدَرِ الإلهي، الذي لا يتخلف موعده أبدا؟ أوَليس قد صار جنديا بالفعل من جنود الله، ممدودا بسرِّ ملكوت الله في السماء وفي الأرض؟ يحمل وسام النصر المبين من اليقين إلى التمكين. وهذا عربونه بين يديه الآن: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(الصافات: 173-171). وتَدبرْ كيف أن كلمته تعالى هي فعله القَدَريّ النافذ حتما، الواقع أبدا. ذلك أن كلام الله فوق كل كلام، إن كلامه تعالى خَلقٌ وتكوينٌ وإنشاء. إنه صُنعٌ فِعْليٌّ للموجودات والكائنات جميعا.. من المفاهيم إلى الذوات، ومن الذراتِ إلى المجرات. وتأمل قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(يس:28-38). إنه -جل وعلا- يأمر العدم فيكون وجودا، فيكفي أن تتعلق إرادته بوجود الشيء ليوجد بالفعل. وإنما كل فعله تعالى في الخلق والصنع والتكوين مجرد كلمة، إنها فعل الأمر: كُنْ الآمر بالتكوُّن والتكوين، والتجلي من العدم إلى الوجود. إن كلماته تعالى لا تذهب سدى في الكون، إنها بمجرد ما تصدر عنه -جل شأنه- تنشأ عنها ذوات وحركات في تدبير شؤون الْمُلك والملكوت. إن كلامه تعالى إذَنْ خَلقٌ وتقدير، وأمرٌ وتدبير.(1) ومن هنا كان وصف الله لعيسى عليه السلام -كما سبق بيانه- بأنه كلمة الله: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (النساء:171). وإنما جاء ذلك في سياق الرد على الذين زعموا أنه عليه السلام ابن الله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- فقوله: كَلِمَتُهُ دال على أنه تجلي إرادة الله من الخلق والتكوين! وهو ما بيّنه تعالى في الآية الأخرى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(آل عمران:95). ومن هنا كانت البشرى لمريم كلمةً كلمة غيرت مجرى التاريخ، وبَنَتْ صرحا شامخا في تاريخ النبوة! قال تعالى: (إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(آلل عمران:54). فكان المسيح ( هو الكلمة! القضية إذن هي في: (كُنْ فَيَكُون) إنها كلمة الله.(2) فكلام الله تعالى هو التعبير عن إرادة الخلق والتكوين، والتعبير عن قضائه الرباني وقَدَرِه الوجودي، وإن هذا القرآن العظيم لهو ترجمانه الأزلي، ودستوره الأبدي! المتخلق بالقرآن من جنود الله وعليه؛ فإنك إذ تتخلق بالقرآن وتتحقق بمعانيه؛ تنبعث أنت نفسك جنديا من جند الله؛ بل أنت آنئذ جزء من قَدَر الله! وتدبر كيف جعل الله من أتباع موسى عليه السلام أداة قدرية شق بها البحر! تأمل هذا جيدا: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(البقرة:05). فالله جل جلاله فرق البحر ببني إسرائيل لما كانوا مؤمنين، ولم تكن عصا موسى إلا أداة للفرق، أما العامل الفاعل - بإذن الله - فإنما هو عزائم الإيمان التي استبطنها كثير من أتباع موسى فكانوا جزءا من الخارقة نفسها ولم يكونوا غيرها! فتأمل: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) هكذا: (بِكُمْ) وليس لكم! وإن كان معنى هذه متضمَّنا في الأولى، ولكنَّ القصد بيانُ أن العبد إذا صار وليا لله كان أداة بين يدي الله -سبحانه- في تنفيذ قدَره في التاريخ! واقرأ إن شئت ما ورد في الحديث القدسي: من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب إلى قوله عنه: فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه (رواه البخاري). ألا يا حسرة على العباد حقا! وعلى هؤلاء المسلمين بشكل خاص! وإذن؛ فإن هذا القرآن لو صرَّفه أهلُه حركةً في الأرض لكان أقوى من أن تثبت أمامه كلمات الشيطان وسحر الإعلام، بل هو الحق الذي قال فيه الحقُّ جل جلاله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)(الأنبياء:81). لا طاقة لكهان السياسة ببرهانه! ولا قِبَلَ لدجاجلة الإعلام بسلطانه! ولا ثبات لطاغوت الأرض أمام رجاله! (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الحشر:12). وكيف لا؟ وهو قد جاء بفهرست الوجود كله! كيف وقد تنَزَّلَ بديوان الكون كله! وإن ذلك لَقولُ الحق جل علاه: ؟مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ؟(الأنعام:83). قال: (مِنْ شَيْءٍ) يعني: ؟مِنْ شَيْءٍ؟ وإنما جاءت الآية في سياق الخَلْق والتكوين لا في سياق التشريع كما توهم بعضهم! فهو شمول أوسع من مجرد الأحكام والحدود بكثير، شمول يسع العمران البشري كله، بل يسع عالم الملك والملكوت بما امتد إليه من غيب مجهول! الدلالات الرمزية لقصة موسى عليه السلام إن القرآن عندما يأخذه الذين ؟يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ؟(البقرة:121) يكون بين أيديهم نورا يبدد ظلمات الضلال، وزلزالا يخسف بحصون الإفك والدجل أنى كانت، ومهما كانت! واقرأ قصة موسى مع سحرة فرعون فإن فيها دلالة رمزية عظيمة على ما نحن فيه، في خصوص زماننا هذا! ذلك أن كلمة الباطل كانت تمثلها آنئذ زمزمات السحرة، فتجردوا لحرب كلمة الحق التي جاء بها موسى، وخاضوا المعركة على المنهج نفسه الذي يستعمله الباطل اليوم، إنه منهج التكتلات والأحلاف! تماما كما تراه اليوم في التكتلات الدولية التي تقودها دول الاستكبار العالمي ضد المسلمين في كل مكان! اقرأ هذه الكلمات مما حكاه الله عن سحرة فرعون لما قالوا: ؟فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى؟(طه:46).. إنه إجماع على الكيد، كهذا المسمى في السِّحر الإعلامي المعاصر: بالإجماع الدولي والشرعية الدولية والمواجهة لا تكون إلا بعد جمع كلمة الأحلاف وصنع الائتلاف؛ لمحاصرة الحق من كل الجوانب ؟ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا؟ ثم يكون توريط المشاركين وتورطهم في الغزو بصورة جماعية، ولو بصورة رمزية! وذلك للتعبير عن الصف في اقتراف الجريمة، فيتفرق دم المسلمين في القبائل! قالوا: ؟وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى؟ وتلك واللهِ غاية دول الاستكبار العولمي الجديد، التي يصرح بها تصريحا: السيطرة على العالم بالقوة! والتحكم في مصادر الخيرات والثروات! يتبع ...