مما تمتاز به منتجات التكنولوجيا الحديثة في عالم اليوم أنها تنبه الإنسان بشتى الوسائل والمنبهات، وتستولي على حواسه وتشد انتباهه شدا عنيفا، فمنها ما يخطف الأبصار بأضوائه الخلابة وومضاته البراقة، ومنها ما يصك الآذان بأصواته المتنوعة، ومنها ما يدغدغ جلد الإنسان بدبيبه الحاد كما هو شأن الهواتف المحمولة ودلاكات البشرة، حتى أصبح الإنسان يتأبط شرورا تنبه حواسه كلها وهو عليها حريص وبها متمسك. وإذا تأملت وجدت المدنية المعاصرة لم تترك حاسة من حواس بني آدم إلا وخاطبتها بالهز والأز والاستفزاز، حتى أصبح سجين المنبهات، والأضواء والأصوات والحركات والدبيب، ولم يبق إلا جانب واحد من جوانب الإنسان لم تخاطبه الآلات ولم تقو على سبر أغواره وما ينبغي بها؛ لأنها ركبت على مخاطبة الحواس المادية والمشاعر الحسية التي يشترك في امتلاكها الإنسان والحيوان، ألا وهو قلب الإنسان وروحه وعقيدته التي هي أغلى ما يملك وأعز ما يطلب، هذه الآلات والمنبهات لم تتمكن من قلب الإنسان ولم تبعث فيه الطمأنينة التي تتركها الصلاة في النفوس، والمكوث في بيوت الله، وتعلق القلوب بالمساجد، ولم تثر فيه الرغبة في التأمل في أغوار النفس وآيات الكون، ولم تنم فيه الانعتاق من قيود الدنيا وسلاسل المادة، فلا يوجد في عالمنا اليوم آلات إلكترونية تحفز الإنسان إلى هذا الانعتاق وتنبهه على هادم اللذات وعالم الآخرة. عبد الرحمن بودرع القلب... ذلك المغيب القلب (مضغة) توجد داخل ابن آدم، بل هي "مكمن القيادة" في الإنسان ومحل الإدراك (الأفكار) والانفعال (المشاعر) والإرادة (النيات)، والقلب كما عرفه علماؤنا (لطيفة ربانية) تعقل وتخشع وتقصد... "وقد استعمل الوحي كلمة "القلب" لتعيين هذه القيادة الموحدة التي توجه سائر أعضاء الجسم تصلح بصلاحه وتفسد بفساده" (1) كما جاء في الحديث الشريف. ويكفي القلب أهمية أنه ذكر في القرآن الكريم أكثر من 130 مرة، كما أنه محل نظر الرب، مقر الإيمان، والمكان الذي استقبل الوحي أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين..). ومن أكثر المشاعر والانفعالات تأثيرا على هذه "المضغة": الخوف والرجاء، والحب والكره، فالقلب البشري ينفعل بهذه (العواطف)، ويصدر بعد ذلك أوامره المطاعة إلى باقي الجوارح من أجل الفعل والتقرب أو الترك والابتعاد. القلب يميل لكل ما هو جميل ولما جبلت النفس على حب الحسن والجمال فإن القلب لا يميل عادة إلا لما (رآه) "حسنا" أو "جميلا" ، وإن لم يكن في حقيقته كذلك: "عندما يزين له سوء عمله فيراه حسنا!". وإذا تقرر أن القلب هو القائد والملك، فاعلم بأنه هو المستهدف ممن ينشدون تغيير الإنسان ونقله من حال إلى حال (يراه) المغير بأنه هو (الأحسن). فالأنبياء الذين بعثهم الله سبحانه وتعالى إلى أقوامهم "اتجهوا جميعا إلى إصلاح الإنسان قبل البيئة، وعمدوا في إصلاحه إلى إصلاح مكمن القيادة فيه وهو القلب.." (2) وكانوا يحببون الله تعالى إلى خلقه فيختار منهم المؤمنين، و( يحبب ) إليهم الإيمان و(يزينه) في قلوبهم و(يكره) إلىهم الكفر والفسوق والعصيان. وإذا كان أنبياء الله ورسله قد اتجهوا رأسا إلى القلب البشري لربطه بخالقه، فإن (الأعداء) من الإنس والجن يركزون بدورهم على نفس المضغة في عملية الإفساد التي هم مخلصون لها وإبليس بار بقسم الإغواء. ولما كانت المعاصي والذنوب والشبهات مما تعافه الفطرة السليمة فإن العدو لا يجد مفرا من عملية (التزيين) و(التحبيب)، وهي في حقيقتها عملية هجوم على القلب من أجل السيطرة عليه وكسبه في صفه بعد إخضاعه لعملية (تضليل) ممنهجة. وكما (تزين) الأشياء والأعمال السيئة، تزين كذلك النوايا والأفكار الفاسدة: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء). كما (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا). فالقرآن الكريم يفضح الشيطان وضحاياه على السواء حيث يؤكد بأن بعضهم قد (قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون). و( كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم). (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون). إن المقدم على المعاصي والانحرافات في العقيدة والسلوك يفعل ذلك ب (لذة) بعدما خضع لعملية (تضليل) ب (تزيين) تلك الأعمال السيئة حتى (يراها) حسنة..! ويهمنا هنا أن كلا من المصلحين والمفسدين لا مناص لهم من التعامل مع تلك اللطيفة الربانية التي (اكتشفها) العدو فصار يحصد منها الكثير... ودورنا هنا تنبيه الغافلين من المصلحين والصالحين عن هذه المضغة حتى تكون ثمارهم الطيبة مباركة بإذن الله. الحب قبل العمل وإذا كان أهم موضوع تناوله كتاب الله المنزل هو موضوع العقيدة ، فقد "استعمل القرآن الكريم في عرض قضايا العقيدة، والاستدلال عليها لغة وجدانية مؤثرة، تحيط قضايا الإيمان بإطار من الهيبة والجلال، مما يهيء القلب للتفاعل والتأثر، في الوقت الذي يكون مضمون الخطاب قد أقنع العقل، فيمتزج اقتناع العقل، بتأثر القلب، ويثمر ذلك انبعاث الإرادة واستجابتها، وهذا هو مقصود القرآن" (3). فكلام الله تعالى معجز في نظمه ورسمه ومعانيه، ولكي تصل الرسالة تامة ومؤثرة يضاف إلى حسن النظم والمبنى والمعنى تجويد الحروف وحسن الصوت والتغني به لكي يملأ على القلب أركانه فتظهر آثاره على الجوارح يقول .الشهيد سيد قطب في الظلال "إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك، الإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج، ولتترجم نفسها إلى حركة وعمل في عالم الواقع" (4). ويقول الشيخ ابن تيمية: "الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر والعمل الظاهر ضرورة" (5). والخلاصة أن القلب إذا أحب الشيء لابد أن يتحرك في اتجاه التقرب منه أو الحصول عليه تدفعه (اللذة) إلى ذلك دفعا. بين جنود الرحمن وجنود الشيطان ولما توصل جنود إبليس إلى هذه الحقيقة فإنهم يستعملون كل السبل من أجل صرف القلب عن ممارسة الحب الحقيقي، يحاولون منعه من (رؤية) الجمال الحقيقي، وذلك (بتزيين) الشبهات وما عفن من الذنوب والانحرافات... فالحق محبوب في ذاته وكذا الخير العدل والجمال، أما إذا حببوا إلى الشخص بمزيد من التزيين فإنه يصل إلى درجة اليقين فيتحرك على بصيرة في الواقع. وبالمقابل فإن الشياطين تقوم ب (تزيين) الأعمال السيئة مستغلة كل أدوات التأثير التي توصلوا إليها. إن المفسدين ( يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا) فذلك سلوك جميل و(محبوب) بالنسبة لهم ويجدون فيه (لذة) تحفزهم وتحمسهم، وكذا الكفار إنهم (استحبوا الكفر على الإيمان) كما أن من الناس (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة) ويقدم القرآن عدة نماذج من هذا الصنف الذي (يرى) الانحراف بعين فيها خلل حيث ترى القبيح جميلا" ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون). كما أن هدف التضليل أو جعل المؤمن كافرا يصبح لديهم هدفا (نبيلا) يوده المعتدي (ود كثير ممن أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا)، و(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم). و(ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم..). وفي عهدنا هذا فإن عملية (التضليل) اتخذت لها وسائل ضخمة ومؤثرة منها المسموع والمرئي والمكتوب والمشاهد. وإذا كان أقرب شيء إلى النفس هي (الأعمال الفنية) لأنها أكثر أثرا من التحليل الجاف أو الخطاب العلمي البارد، فإن (المضللين) قد (أبدعوا) في هذا المجال وحصدوا به الكثير من القلوب البشرية.. وإذا تساءلنا ما أكثر المواضيع طرقا في الأفلام والمسرحيات والأغاني وغيرها فإننا نستطيع أن نجيب بأعين مغمضة بأنها مواضيع (الحب). حتى أصبحت اللقطات والمقاطع العاطفية من الثوابت في أي عمل فني يسعى إلى الإثارة والتأثير، وما الفن إلا عملية (تزيين) و(تجميل) لأفكار ومشاعر وسلوكات يراد منها أن تصبح عادات بعد (التكرار) والدق المستمر. والفن ليس عيبا في حد ذاته وإنما هو سلاح ذو حدين من أحسن استعماله انتصر في معركته..! وإذا تقرر أن القلب هو مكمن القيادة في الإنسان وأنه يعقل ويحب ويرجو وعلم أن كلا من جنود الرحمن وجنود الشيطان يراهنون على كسبه، وأنه (أي القلب) يتأثر بالحسن والجميل ويتحرك في اتجاهه ضرورة، فإن المعركة إذن هي معركة ضروس تجري داخل الإنسان وخارجه. و(القلب) حاسم في هذه المعركة إما باختيار هذا الاتجاه أو ذاك. لا يترك حبا إلا بحب آخر أقوى فالنفس تميل ضرورة إلى (الأحب)، و(الأقرب) إلى القلب، يقول ابن قيم الجوزية رحمة الله عليه في كتابه القيم الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" إن النفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب أعلى منه" (6) ويزيد ذلك وضوحا بقوله: "العبد لا يترك ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه، ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة، كما أنه يفعل ما يكره لحصول ما محبته أقوى عنده من كراهة ما يفعله "ويعلل ذلك بأن "خاصية العقل إيثار أعلى المحبوبين على أدناهما وأيسر المكروهين على أقواهما" ويختم قوله بهذه العبارة: وهذا من كمال قوة الحب والبغض" (7). من هنا يستطيع الإنسان بسهولة أن يقيس درجة (حبه) بالاطلاع على (سلوكه) لأنه سيجد حتما أنه (يتحرك) في اتجاه ما يحبه، وسيحدد حينها أولويات (حبه). وندرك من كل ما ذكرنا أن الإنسان يستطيع أن يحول حبه ارتقاء أو هبوطا وذلك اعتمادا على "خاصية العقل" التي تزن الأمور بدقة، ف "لا شيء يمكن أن يقنع الإنسان بالتنازل عن المتاع الزائد عن الحد، المدفوع إليه بفطرته.. إلا الإيمان الجازم بأن ما يتركه هنا في الدنيا من أجل طاعة الله يلقاه في الآخرة مضاعفا في الدرجة والنوع" (8). ومن هنا جاء الوعيد الإلهي لبعض المؤمنين لما بدأ تحول (درجة الحب) الجهاد في اتجاه الأبناء والأزواج والسكن والتجارة: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره..) . خلاصة ليس عبثا أن يحظى حب الله ورسوله والمومنين بكامل الاهتمام من الإسلام، وذلك لما لهذا (الحب) وميل القلب من أثر على السلوك، فالقلب المرتبط بالله والمتعلق ببيوت الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يثمر (سلوكات) مغايرة حتما للسلوكات الصادرة عن قلب متعلق بالشبهات وغارق في الشهوات، وخطورة هذه المضغة أنها محط نظر الرب سبحانه وتعالى وما وقر فيها يحسم في طبيعة الحياة الدنيوية التي نحياها هنا والأخطر أن ما فيها يحسم في المستقبل الأخروي إما جنة أبدا أو نارا أبدا، وقانا الله جميعا من حر جهنم. "الله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما" . (وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم، والله عليم بذات الصدور" . إسماعيل العلوي -------------------------- هوامش 1 انظر التأصيل الإسلامي للدراسات النفسية: د عز الدين توفيق 2 خطبة الجمعة. د محمد عز الدين توفيق ص 5 3 عز الدين توفيق: دليل الأنفس بين القرآن الكريم والحديث ص 42. 4 سيد قطب: الظلال، تفسير سورة النور آية 47. 5 ابن تيمية الفتاوي 7/541 6 ابن قيم الجوزية، الجواب الكافي 263. 7 نفسه 277. 8 محمد قطب، دراسات قرآنية ص 67.