تستمد رسالة العلماء وجودها ومشروعيتها من سلطة الوحي بشقيه: كتابا، وبيانا، ومن سيرة سلف أئمة الأمة الأعلام على امتداد العصور. إذ نجد في كتاب الله إشارات ذوات عدد تؤسس للبلاغ القائم على الفقه والدين: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، وفيه الأمر بتكوين فريق الدعوة إلى الخير والتحذير من الشر: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..)، ولا يكون هذا الفريق إلا عالما بما يدعو إليه، ويأمر به وينهى عنه. ويقر بنا كتاب الله أكثر إلى المؤهل لهذه المهمة من الصالحين للقدوة حين يقول: "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا..." فعندما يدعو الداعي إلى أمر، ويقترن القول منه بالفعل، لا يبقى أي مجال للتردد في حسن نيته وسلامة قصده. وفي هذه الآية الكريمة: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم، بالتي هي أحسن)، بيان لخطاب الدعوة الناجح الذي يتخذ سبيله إلى القلوب والعقول، ولا ينفر سامعه ولا يستفز مشاعره، ولا يلجئه إلى المعارضة والعناد والصدود. إنه الخطاب الذي يحبب إلى كل من يسمعه، قبول الحق والانخراط في المناقشة والحوار وإبداء الرأي في ما يعرض عليه من غير ضغط ولا إكراه ولا ابتزاز، ويقدم وصيته الخالدة للعلماء، عندما يجري حوارهم مع الآخر من أهل الكتاب، بأن يلتزموا جانب التسامح، ويحرصوا على مجادلتهم بالتي هي أحسن، تأليفا لقلوبهم، وتطييبا لنفوسهم، وتقليصا لمسافة الخلف بينهم: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم). ويأتي الذكر البياني مفسرا لما جاء في التنزيل مجملا، فقد قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء" ،علما بأن ميراث النبوة ليس متاعا دنيويا، وإنما هو علم وحكمة وهداية، والعلماء هم وحدهم المؤهلون لهذه المهمة التبليغية للميراث، ولعل أوضح وأصرح ما ورد في شأن أهل التبليغ مقرونا بحثهم على صيانة الميراث النبوي من العبث والتحريف والتزييف، قوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". نخلص من هذه المقدمة التأصيلية لمهمة العلماء، إلى أن مسؤولية حراسة أمن الأمة الروحي، وحماية وجودها المعنوي تقع على عاتقهم، ومن حق الأمة أن تسائلهم إن هم أخلوا بهذه المهمة، أو قصروا في النهوض بأعبائها. ويدخل في نطاق الحراسة المعنوية، العمل على تطوير آليات الاجتهاد باعتباره الأداة الأكثر قدرة على تأمين الحياة التشريعية، التي تعتبر أكثر عرضة للانتهاك والاقتحام، الأمر الذي يحتم الإسراع بتدبير هذا الشأن على أساس وضع خطة عمل، انتقالية يشرف في إعدادها جميع الفاعلين من أهل هذا الشأن أو جلهم، في انتظار إنجاز مشروع الإحياء الشامل، الذي يتعين أن يقوم على أساس إصلاح المؤسسة العلمية، وإعادة تشغيلها بشكل يجعلها قادرة على تجاوز التحديات الاجتماعية والتشريعية، وتقديم الحلول المناسبة لكل طارئ جديد، هذا فضلا عما يتوجب الإسراع بإنجازه في موضوع إعادة تنظيم الشأن الديني الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، والغث بالسمين، وتحيين خطابه أسلوبا ومضمونا، حتى يستعيد قدرته على التعبئة والاستقطاب، ويقف بالمتطفلين عند حد. ولا شك أن العلماء يقفون اليوم في مفترق الطرق، واستمرارهم رهين بإحداث قدر من التغيير في التفكير والتدبير، وفي المنهج والأسلوب وهو ما يستجيب لمنطق الإسلام الذي فرض سنة التجديد حتى في أمر الدين نفسه، إذ علم أن لكل زمان مناهج للفهم، ووجهات للتفكير، ومسلمات لا تقبل الطعن، فإذا لم يتجدد الفكر الديني بما يقتضيه التطور، ويتسع للحاجات الجديدة، ويتحاور معها بلسان أهل كل عصر، جمد الفكر، ووقف حيث هو، لا يسع الناس في هذه الحالة إلا أن يمضوا مع العلم حيث يمضي، لا ينتظرون، ولا يقفون، إذا توقفت آلية الاجتهاد والتجديد في الفكر الديني، وهم غير ملومين إن انصرفوا ولم ينتظروا، ولكن العلماء هم الملومون على عجزهم وتفريطهم، ومن ثم كانت قضية الاجتهاد والتجديد في صدارة الأولويات في المشروع النهضوي للعلماء ومن أجلها قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها"، ذلك لأن الإسلام دين عمل، وليس دينا خياليا.. ولا يكفي أن نقول عنه إنه لا يعارض الرقي والنزوع إلى الكمال، ولكننا نقول إن الإسلام يفرض طلب الرقي والكمال فرضا: "اطلوبوا العلم ولو بالصين"، "خذ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت". ولعل هذا المنحى، هو بعض ما قصد إليه السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الأستاذ أحمد توفيق في محاضرته الجادة: "مهمة العلماء في سياق الاختيار الديمقراطي" التي ألقاها بدار الحديث الحسنية بتاريخ 3 مارس 2004 بدعوة من جمعية علماء دار الحديث بمناسبة افتتاح موسمها الثقافي. ولأهمية الأفكار التي طرحتها هذه المحاضرة في موضوع تنقيح الخطاب الديني والانخراط في مشروع النهضة بما يعني مضامينه، ويسرع خطى اندماجه في محيطه الاجتماعي والثقافي على نحو لا يتعارض مع قيم الأمة واختياراتها التاريخية ستنظم على مستوى فروع الجمعية، حلقات دراسية حول أهم ما تضمنته من أفكار مفيدة، واقتراحات سعيدة.