سبق أن رأينا في حديثنا عن الاجتهاد بين الاستمرارية والانقطاع أن الاجتهاد يحيا بحياة المجتمع، ويموت بموته وأن الفقه يجمد بجمود الحياة، وأن توقف الاجتهاد كان بسبب أزمة حضارية شاملة، إذ إن ازدهاره كان في مرحلة الإقدام، وإحجامه وقع عندما جنحت حياة المسلمين في عومها بما فيها الدينية نحو الفتور، حيث شاعت أجواء نفسية واجتماعية وسياسية وثقافية وعلمية غير مشجعة. وزاد الخوف وطلب السلامة والاحتماء بالأحوط من غربة الاجتهاد، وغابت شروط الإبداع الذاتية والموضوعية المتعلقة بطبيعة البيئة والتربية والإعداد والمران. وليس من حل سوى الإيمان من جديد بإمكان تربية الإبداع في الأمة، إذا تم تطوير الطرق والمناهج وإعداد المربين الأكفاء، وما يقال في الإبداع عموما، يمكن أن يقال في الاجتهاد باعتباره لونا من ألوان الإبداع. يقول الإمام أبو زهرة بعد استعراضه لحياة الإمام مالك رحمه الله: هذا الهدى وذلك العلم ينبعث من صفات الشخص، ومن شيوخه بالتوجيه، ومن عصره بالجو الفكري الذي يتغذى منه، ثم بجهوده، والصفات الذاتية أصل وغيرها فروع (1). فشجرة الاجتهاد تترعرع وتزدهر وتثمر أطيب الثمار، بوجود فسيلة قابلة للغرس والنمو والتطور، في تربة طيبة صالحة، وبرعاية فائقة من أيدي كفأة وأمينة، تجلب الماء الطيب وغيره من المنافع، وتدفع الأذى والضرر بالتهذيب والتشذيب، وتهتم باستقامة العود وإزالة ما يعوق الارتفاع والعلو في الفضاء الحر، فلابد إذن من بيئة صالحة ومربين أكفاء ومناهج وطرق رفيعة، ومن طلبة علم من ذوي الهمم العالية.. البيئة الصالحة والمربون الأكفاء إن البيئة الإسلامية لن تكون بطبيعتها الإيمانية، إلا بيئة صالحة للاجتهاد، إذا كان أهلها مؤمنون حقا، واعون بمقتضيات الإيمان، فمن توابع التوحيد والتسليم لرب العالمين، احتواء كافة الأنشطة الإنسانية النظرية والتطبيقية لجعلها تتحقق في دائرة القناعات الإيمانية، وتتشكل وفق مطالبها وتصوراتها الشاملة، بحيث لا يند منها شيء عن الحكم الشرعي، والدخول تحت دائرة الواجب أو المندوب أو الحرام أو المكروه أو المباح. وما دامت الحوادث والمستجدات غير متناهية حتى تقوم الساعة، فكذلك الاجتهاد يلاحقها باعتباره ضرورة عقدية، كما أن الدين الذي بدأ نزول كتابه الكريم بكلمة اقرأ لا يمكن أن يكون إلا دينا اجتهاديا، يفتح صدره للنشاط الاجتهادي والبحث الفكري، حيث يتربى الطفل منذ نعومة أظفاره: مع اقرأ، تفكر، تفقه، انظر، اعلم، تبصر، وكن من الذين يعقلون.. ولا شك أنها كلمات توتي أكلها كل حين بإذن ربها: في صورة اجتهادات تمتد بالنص القرآني والحديث النبوي لتنزيلهما على مشكلات كل عصر، بحسب ظروفه وإمكاناته تحقيقا لخلود الشرع. بل إنها بيئة تفرض الاجتهاد، إذ لم يشرع الله تعالى لعباده من الأحكام ما ينظم ابتداء كل تفاصيل شؤونهم، بل جاءت في أغلبها قواعد عامة تصلح للتفصيل بما يناسب الزمان والمكان ومختلف الأحوال. فمن سبحانه وتعالى على عباده بفرض الاجتهاد، ليكون عبادة تؤديها عقولهم، وزكاة لنعمة التفكير، كما فرض الجهاد ليتخذ من صالحي عباده شهداء. يقول تعالى: (وما كان المومنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قَومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (التوبة:321). وإذا فضل المجاهدون بما بذلوا من دماء، فإن فضل المجتهدين يكون بما يبذلونه من جهد في الاستنباط، لتعلو كلمة الله وتحكم تصرفات الناس كلها شريعته، فالاجتهاد فرض: وإن قصر منه أهل عصر عصوا بتركه وأشرفوا على خطر عظيم(2). 1 تاريخ المذاهب الفقهية ص .192 2 الزركشي البحر المحيط ج 8/.228