مر في ما مضى من الحلقات الحديث عن مبرر هذه المادة العلمية الموجهة إلى طلبة العلوم الشرعية وغيرهم من المهتمين بقضايا الاجتهاد، وكذا الحديث عن حقيقة الاجتهاد، وما يتعلق بالضوابط التي تهم هذا المجال.ثم تناولت أنواع الاجتهاد وحكمه. وفصلت في أنواعه، ثم تناولت مسألة: الاجتهاد بين الاستمرارية والانقطاع تناولت فيها: عدم وجود دليل شرعي على سد باب الاجتهاد، ثم ذكرت بعض أسباب انحسار الاجتهاد وتراجعه، وأوردت بعض مبررات المقلدين، وأهمية الاستمرار في إعمال الاجتهاد وتشجيع القادرين عليه، ثم شرعت في الحديث عن مجال الاجتهاد، وأوردت في الجزء الأول منه بما لا يجوز فيه الاجتهاد، وفي الجزء الثاني ما يجوز فيه الاجتهاد،وفي هذا الجزء حديث عن صور الاجتهاد فيما لا نص فيه، وكذا حديث عن بعض خصوصيات مجال الاجتهاد المعاصر. بعض صور الاجتهاد فيما لا نص فيه: والاجتهاد فيما لا نص فيهيتخذ صورا مختلفة، وأشكالا عديدة منها: أ اعتماد ما يعتبر متضمنا للدليل من إجماع وأقوال الصحابة بالاجتهاد فيها وترجيح بعضها على بعض. ب إلحاق مسكوت بمنصوص عليه لعلة جامعة بينهما. وهو الاجتهاد القياسي. ج تطبيق القواعد الكلية على الجزئيات، التي تندرج تحتها مع مراعاة مقاصد الشريعة ومصالح الخلق التي عهد من الشارع المحافظة عليها. د استقراء الجزئيات التي اختلفت موضوعاتها لاستنباط مفاهيم كبرى تندرج تحتها فروع عديدة ،بحيث تأخذ حكما واحدا، لوحدة الهدف والغاية المتصلة بمفهوم العدل، وهذا هو شأن النظريات العامةوهي من أرقى ما وصل إليه العقل البشري في الاجتهاد التشريعي (1). ه الاجتهاد القائم على تقدير المصالحوما يعتمد في السياسة الشرعية، والتي تستلزمها الظروف المستجدة العامة وسيما الاستثنائية منها، إذ التشريع العام الكامل يملك تدبير شؤون الأمة في الظروف العادية والاستثنائية، وذلك بالاستناد إلى أصول: مثل تحقيق العدل ،ومقاصد الشريعة، والأمن العام. ومرد التقدير في ذلك للعقل العلمي المتخصص، المستنير المنضبط بالشورى والجاري على أصول الشريعة المترسم لمقاصدها ،إذ العقل ليس له استقلال تام في إدراك تلك المصالح، لوجود منازع تفسد عليه النظر المتوازن الصحيح، مثل:التأثر بمنافع عاجلة موقوتة أو بالهوى والعصبية والعنصرية والحب والبغض والغرور والهيمنة والطغيان.. ولذا فتلك المصالح مشروطة بأن تكون على نحو يقيم الدنيا بما لا يتناقض مع جعلها سبيلا إلى الآخرة(2). ز النظر في أعراف البلاد الصحيحة التي لم تخالف نصا شرعيا ولا قاعدة أساسية قال ابن عابدين في أرجوزته : والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار (3. ح-اعتماد استصحاب:استصحاب أمر عقلي أو حسي أوحكم شرعي (4)، مثل: استصحاب البراءة الأصلية، واستصحاب النص حتى يرد النسخ ،واستصحاب العموم حتى يرد التخصيص،واستصحاب حكم عند أمر قرنه الشرع به لتكرر ذلك الأمر،واستصحاب الإجماع. (5). فمجال الاجتهاد فيما لا نص فيه عموما هو البحث عن حكمه بأدلة القياس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة أو العرف أو الاستصحاب وغيرها من الأدلة المختلف فيها، إذ الاجتهاد في الأصول سابق على الفروع، فموضوعه ابتداء هو الأدلة الشرعية الكبرى، التي تضمنت الأدلة التفصيلية على الأحكام الشرعية الفرعية . ولا ينجو من الجدل غير أصلي الكتاب والسنة ويتضح أن للاجتهاد في أصول الفقه مجالا رحبا، هو مجال التمحيص والتحرير والترجيح فيما تنازع فيه الأصوليون من قضايا جمة(..) فالباب لا يزال مفتوحا لمن وهبه الله المؤهلات لولوجه،ولكل مجتهد نصيب ، وقد يتهيأ للمفضول ما لا يتهيأ للفاضل (6). 3 مجال الإجتهاد المعاصر: يقول حسن الترابي: إن القضايا التي تجابهنا في مجتمع المسلمين اليوم إنما هي قضايا سياسية شرعية عامة أكثر منها قضايا خاصة، ذلك أننا نريد أن نستدرك ما ضيعنا في جوانب الدين،والذي عطل من الدين أكثره يتصل بالقضايا العامة والواجبات الكفائية (..)أما قضايا الفقه التي تعني الفرد المسلم في شعائره وأسرته ونحو ذلك فهي مما كان فقهنا التقليدي قد عكف عليها وأوسعها بحثا وتنقيبا(7)، ولهذا لا يرى في هذه الأخيرة مجالا واسعا للتجديد لأنها بالإضافة إلى توسع السابقين فيها، فإنها تمس في أغلبها،الجوانب الثابتة من حياة الإنسان ولا تحتاج منا إلا إلى جهد محدود جدا في التجديد، استكمالا لما حدث من مشكلات وطرافة في وسائل الشرح والعرض(8). مثل صدور كتب فقهية جديدة تقدم الصلاة وتشرحها بوجه يناسب أوضاع الحياة ويخاطب العقل المسلم المعاصر، والحاجة إلى نظرة جديدة في أحكام الطلاق والزواج نستفيد فيها من العلوم الاجتماعية المعاصرة (وتبني على فقهنا الموروث وننظر في الكتاب والسنة مزودين بكل حاجات عصرنا ووسائله وعلومه وبكل التجارب الفقهية الإسلامية والمقارنة لعلنا نجد هديا جديدا لما يقتضي شرع الله في سياق واقعنا المعين(9). أما قضايا الحكم والاقتصاد وقضايا العلاقات الخارجية وغيرها من جوانب الحياة العامة، فتحتاج إلى اجتهاد واسع جدا. ويذكر يوسف القرضاوي مجالين من بين مجالات عدة حدث فيهما تغير ضخم قلب ما كان مألوفا ومقررا من قبل ظهرا على عقب، بحيث أصبحت الحاجة ملحة للاجتهاد فيهما،وهما:المجال الاقتصادي والمالي،والمجال العلمي والطبي، حيث حفل المجال الاقتصادي بأشكال وأعمال ومؤسسات كالشركات الحديثة بصورها المتعددة مثل:شركات المساهمة والتوصية، وأنواع التأمين، والبنوك بأنواعها: العقاري والصناعي والزراعي والتجاري والاستثماري . وأعمالها الكثيرة من حساب جار، وودائع وقروض وتحويل وصرف وفتح اعتمادات وإصدار خطابات ضمان، وخصم كمبيلات وغير ذلك مما قد يحل أو يحرم. وفي المجال الطبي حدثت مستجدات مثل: زرع الأعضاء، وبنوك الحليب ،والتحكم في جنس الجنين، واستئجار الرحم ومسألة تحقق الموت ،أبموت القلب وتوقفه عن النبض أم بموت جذع الدماغ ؟ وما يترتب عن ذلك من آثار..(10) ومسألة الاستنساخ وغيرها. وقضايا أخرى كبيرة في غير هذين المجالين تتعلق بالسياسة الدستورية والقضائية والتنفيذية والاجتماعية والإدارية والأمن الاجتماعي والنظام العام والآداب . ومسألة الديموقراطية والتعددية الحزبية ومسألة الوحدة والتنمية ، وقضايا الجهاد في ظل تطور الأسلحة الفتاكة والحروب النووية المدمرة، التي ينبغي تجديد النظر في كيفية تنزيل ما يتعلق بآداب الجهاد واحترام البيئة وحماية غير المحاربين..إلى غير ذلك من المشكلات العالمية والمستجدات مثل البحث في التوازن بين النمو السريع للسكان والنقص الحاصل في الموارد، ومشكلات الطاقة والبيئة، وأزمة البطالة وتوزيع الثروة والظلم العالمي، الذي يمارس من خلال الهيئات الدولية.. هوامش: 1 محمد فتحي الدريني نفس المرجع السابق ص.201 محمد فتحي الدريني نفس المرجع السابق له ص.201 3 وهبة الزحيلي أصول الفقه الإسلامي:ج2/.828 4 الشريف التلمسانيمفتاح الوصول في علم الأصولص.155 5 الضروري:ص:69 6 يوسف القرضاويالاجتهاد في الشريعة الإسلاميةص.70 7 حسن الترابي تجديد أصول الفقهص.19 8 حسن الترابي تجديد أصول الفقهص.20 9 حسن الترابي تجديد أصول الفقهص.20 10 الاجتهاد في الشريعة الاسلامية:ص.107/102