مر فيما مضى من الحلقات الحديث عن مبرر هذه المادة العلمية الموجهة إلى طلبة العلوم الشرعية وغيرهم من المهتمين بقضايا الاجتهاد، وكذا الحديث عن حقيقة الاجتهاد، وما يتعلق بالضوابط التي تهم هذا المجال.ثم تناولت أنواع الاجتهاد وحكمه.وفصلت في أنواعه، ثم تناولت مسألة: الاجتهاد بين الاستمرارية والانقطاع تناولت فيها: عدم وجود دليل شرعي على سد باب الاجتهاد، ثم ذكرت بعض أسباب انحسار الاجتهاد وتراجعه، وأوردت بعض مبررات المقلدين، وأهمية الاستمرار في إعمال الاجتهاد وتشجيع القادرين عليه، وأوردت في الحلقة السابقة الجزء الأول من مجال الاجتهاد وبدأت فيه بما لا يجوز فيه الاجتهاد من مثل النصوص القطعية والأمور التي ترد في سياق التعبد وما يتعلق بالآخرة، وفي ما يلي حديث عن ما يجوز فيه الاجتهاد: 2 ما يجوز فيه الاجتهاد 2 1 الاجتهاد في نطاق النص فالاجتهاد في نصوص الكتاب والسنة يكون بحسب طبيعتها: أ إذا كان النص ظني الثبوت فلا خلاف في ضرورة الاجتهاد في ثبوت هذا النص، بالبحث في سنده وطريق وصوله إلينا، ودرجة رواته من العدالة والضبط،إذ(ليس كل خبر يجب العمل به)(1) كما قال ابن رشد. ب إذا كان النص ظني الدلالة فلا خلاف في ضرورة الاجتهاد في دلالةهذا النص، بالبحث في معرفة المعنى المراد من النص، وقوة دلالته على المعنى، فربما يكون النص عاما وقد يكون مطلقا، وربما يرد بصيغة الأمر أو النهي..فالاجتهاد فيه يكون باستهلاك طاقاته في كافة دلالته عل معانيه، ولا سيما في دلالته العقلية، التي هي من لوازم عباراته مثل: (دلالة الإشارة ودلالة النص ودلالة الاقتضاء ودلالة مفهوم المخالفة) يقول ابن رشد: (واللفظ ينقسم إلى ما يدل على الحكم بصيغته، وإلى ما يدل بمفهومه ومعقوله) (2). ومن المعلوم أصوليا كذلك (أن الدال على الملزوم دال على اللازم ،وهو حجة فيه) (3)، ويلجأ للقواعد اللغوية ومقاصد الشريعة لترجيح وجهة عما عداها. ج إذا كان النص ظني الدلالة والثبوت، فلا خلاف في ضرورة الاجتهاد في دلالته وثبوتهكليهما. د إذا كان النص قطعي الدلالة والثبوتفهذا يوجب الاعتقاد والعمل، وهو الذي يقال فيه لا مساغ للاجتهاد في مورد النص (4)، وهذا من حيث المبدأ ، والمعنى العام للاجتهاد. أما إذا قصد بالاجتهاد المعنى الأدنى الذي ينصرف: إلى الفهم والاستنباط منه وتفريعه والنظر في تنزيله، أي الاجتهاد التطبيقيفهذا وارد وقائم، وخصوصا إذا ارتبط حكم ذلك النص بعلة تغيرت، أو بعادة تبدلت، أو بعرف تطور، أو بشروط لازمة لإعماله لم تتوفر، فيكون الاجتهاد هنا هو الاجتهاد في مدى توافر الشروط اللازمة لإعمال الحكم المستنبط من هذا النص (فالنص قائم أبدا، والحكم متراوح بين التنفيذووقف التنفيذدون تجاوز دائم أو إلغاء)(5). كما كان الشأن في نصيب المؤلفة قلوبهممن الصدقات، حيث أوقفه عمر عندما انعدمت العلة الغائية، فلم يعد ضعف المسلمين، الذي يدعوهم إلى تألف قلوب المشركين والمنافقين قائما، ولو وجد حاكم مسلم بعده أن مصلحة الأمة تقتضي تألف قلوب الأعداء بسهم من الصدقات، فسيكون اجتهادا يعيد حكم هذا النص إلى الإعمال. وكذلك الشأن في موقفه من تعليق العمل بحد السرقة في عام الرمادة، عندما تخلفت الشروط الاجتماعية العامة بسبب المجاعة(6)، ثم عاد تطبيقه بعد زوال المحنة. وهذا باب عظيم لا ينبغي أن يسلكه إلا العظماء من أمثال عمر من ذوي التقوى والورع، الذين يعتقدون ويقولون مطمئنين:حيثما وجد شرع الله فثم المصلحة الحقيقية ولا (يوقفون التنفيذ)، إلا كما يلجأ المؤمن التقي إلى لحم الخنزير في انتظار عودة الطيب الحلال . ولا يجوز أبدا أن يلجه الضعفاء من أهل الأهواء ممن يلبسون على الناس بشعار حيثما وجدت المصلحة فثم شرع اللهلينتهوا إلى إلغاء الشريعة وإبطال دين الله. فالاجتهاد في نطاق النص يكون لإثباته، أو لمعرفة المراد منه، أو رفع التعارض بين النصوص التي يوهم ظاهرها بذلك: بالجمع بينها أو الترجيح، أو استنباط الجزئيات والفروع منه، أو القيام بالمقارنة والموازنة بين النص ونظائره الواردة في موضوعه الموافقة أو المخالفة، ومعرفة مسألة النسخ وأسباب النزول أو الورود بوغير ذلك من ألوان الاجتهاد التي تتسع وتكون أرحب أفقا مع النصوص التي تتضمن قبول المتغيرات، حيث يتجه الاجتهاد إلى استنباط الحكم الملائم للواقعة، وإلى الاجتهاد في التطبيق. ويضيق المجال في النصوص التي تتضمن الثوابت فيكون الاجتهاد في التطبيقعلى الوقائع بظروفها وملابساتها والتي يكون لها أثر بالغ يرعاه المجتهد.. والنصوص الشرعية تتمتع بخصائص مساعدة على الاجتهاد، من ذلك: سعة المفاهيم التي جاءت بها، وهي معللة في معظم أحكامها، معجزة في صياغتها، بحيث تحفظ ديمومة الحكم،كما أنها عالمية في أحكامها:خوطب بها الإنسان من حيث هو إنسان، وإنسانية في قيمها تمتاز بالسمو والشمول والمرونة والثبات(7). 2 2 الاجتهاد فيما لا نص فيه: جاء في جماع العلم عن الشافعي في مشروعية الاجتهادفيما لا نص فيه:( فما الوجه الذي دلك على أن ما ليس فيه نص حكم وسع فيه الاختلاف؟ فقلت له: فرض الله على الناس التوجه في القبلة إلى المسجد الحرام، فقال:( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام)(...) أفرأيت إذا سافرنا واختلفنا في القبلة فكان الأغلب على أنها في جهة، والأغلب على غيري في جهة ما؟ فإن قلت الكعبة فهي وإن كانت ظاهرة في موضعها،فهي مغيبة عن من نأى عنها فعليهم أن يطلبوا التوجه لها غاية جهدهم على ما أمكنهم وغلب بالدلالات في قلوبهم، فإذا فعلوا وسعهم الاختلاف. وكان كل مؤديا للفرض عليه بالاجتهاد في طلب الحق المغيب عنه)(8)، ومعنى وسع فيه الاختلاف من خلال السياق وسع فيه الاجتهاد. ويرى ابن رشد من أسباب الاختلاف: الاجتهاد الحاصل فيما لا نص فيه، من ذلك اختلاف الفقهاء هل للمعتكف أن يدخل بيتا غير بيت مسجده حيث قال:(وسبب اختلافهم أنه ليس في ذلك حد منصوص عليه إلا الاجتهاد)(9)، وقوله فيما يسلب عن المقيم اسم المسافر: (ولهم في ذلك ثلاثة أقوال أحدها مذهب مالك والشافعي أنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم والثاني مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري أنه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم والثالث مذهب أحمد وداود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم وسبب الخلاف أنه أمر مسكوت عنه في الشرع)(10)، فبسبب سكوت الشرع اجتهد العلماء في التقدير بناء على ما يراه كل واحد من قرائن. قال الإمام السيوطي:( قال (ابن برهان):الباري سبحانه وتعالى قادر على التنصيص على حكم الحوادث والوقائع ولم يفعل ،ولكن نص على أصول ،ورد معرفة الحكم في الفروع إلى النظر والاجتهاد )(11)، فجعل تعالى النصوص كنوزا للمعاني، تعطي لكل زمان ما يناسبه بشكل مباشر في الثوابت، وبشكل غير مباشر في المتغيرات، يتولى الاجتهاد استخراج الحلول الشرعية من أصول الوحي ليعالج صور الحياة الواقعية، فيجعل الحياة بشكل دائم تتحقق على سمت ديني مع تغاير أنماطها وملابساتها. فبالنظر الاجتهادي يحصل المجتهد الحقائق المودعة في النص، تدفعه إليها حاجة الظروف المستجدة، وتهديه إليها معارفه المكتسبة، فينبلج الحق له ولغيره من المجتهدين شيئا فشيئا انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم (12). فبالاجتهاد يتم سبر أغوار النص، والغوص في أعماقه للظفر بجوهره والمراد الحقيقي للشارع منه،وتعميم الحكم معنويا وعقليا في ما لا نص فيه، ويحول ذلك دون أن يبقى الحكم مقصورا على محله الذي ورد النص فيه، ويتم الارتقاء بحكم النص من أرضية لغويته إلى الأفق الرحب الذي يغطي فيه جزئيات عديدة. 1 الضروري:ص:27 2 الضروري:ص:101 3 محمد فتحي الدريني مناهج الاجتهاد والتجديدص:200مجلة الاجتهاد عدد 8سنة.1990 4 وهبة الزحيلي أصول الفقه الإسلامي ج2/.105 5 محمد عمارة معالم المنهج الاسلامي ص103 وما بعدها. 6 محمد عمارة معالم المنهج الاسلامي ص103 وما بعدها. 7 محمد فتحي الدريني منهج الاجتهاد والتجديد ص.224مجلة الاجتهاد عدد:.8 8 جماع العلم ج: 1 ص: 69 9 بداية المجتهد ج: 1 ص: 232 10 بداية المجتهد ج: 1 ص: 123 11 الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الإجتهاد في كل عصر فرض:ص.170 12 عبد المجيد النجار في فقه التدين فهما وتنزيلاص .104كتاب الأمة الجزء الأول عدد 23