ربما كان شوان لاي، رفيق ماوتسي تونغ ورئيس وزراء الصين الشعبية حتى عام 1976، مفرطا في المبالغة عندما سئل، أواخر ستينيات القرن العشرين، عن رأيه في التأثيرات المحتملة للثورة الفرنسية، فأجاب بأن «من السابق للأوان (محاولة) استخلاص النتائج». ربما كانت المبالغة مفرطة، ولكن المقصود منها بيّن: أن قرنين، أو انقص منهما قليلا، لا يكفيان لفهم الأحداث الجسام كامل الفهم. ولهذا صح القول إن الأعوام الخمسة التي انقضت منذ اندلاع الشرارة التي أوقدها الشاب محمد بوعزيزي في تونس يوم 17 دجنبر 2010، لا تكفي لاستخلاص جميع النتائج المحتملة للثورات العربية التي تتابعت في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2011. ولكن الأعوام الخمسة تتيح ما يكفي من البعد الزمني لوضع الثورات العربية في نصابها من التاريخ العالمي. إذ لم يعد هناك من شك في أن ثورات 2011 لا تندرج في السياق الموضوعي لثورات 1989 التي أطاحت بالأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية. صحيح أن الدوافع التي حركت الجماهير العربية للخروج إلى الشارع هي الدوافع ذاتها التي حركت جماهير بلدان أوروبا الشرقية: المطالبة بإسقاط أنظمة الخوف (باعتبار الخوف أداة وثقافة)، واشتراط عقد اجتماعي جديد قائم على شرعية الحكم وسيادة القانون. ولكن اختلاف الخصائص بين أنظمة الاستبداد الشيوعي الأوروبي وأنظمة الاستبداد الجمهوري التوريثي («الجملوكي») العربي، إضافة إلى اختلاف الخصائص بين النخب التي قادت الثورات الأوروبية أو اغتنمت لحظتها التاريخية وبين النخب العربية التي زعمت القدرة على تحقيق رغبات الشعوب الثائرة، يفسر إلى حد بعيد لماذا نجحت ثورات 1989 بينما أخفقت ثورات 2011. ولعل أهم فارق بين الأنظمة الشيوعية الأوروبية والأنظمة الجملوكية العربية يكمن في مدى القدرة على فهم الرسالة الشعبية والانحناء لرياح التاريخ (ولو بمحض النظر الواقعي والموقف المصلحي). أما أهم فارق بين النخبتين اللتين تصدرتا المشهد بعد ثورات 1989 وثورات 2011 فهو أنه كان لدى النخب الأوروبية شرعية نضالية ما لبثت أن تعززت بشرعية سياسية ناجمة عن الكفاءة في إدارة المرحلة الانتقالية، ثم في إرساء أسس الحكم الديمقراطي. ولكنه لا يوجد بين أفراد النخب العربية الزاعمة أن لها القدرة على تحقيق رغبات الشعوب الثائرة شخصية واحدة يمكن مقارنتها، على سبيل المثال، بالمثقفين المناضلين التشيكي فاتسلاف هافل أو البولندي بوريسلاف غيريميك. كما أن المجال لم يكن متاحا في أوروبا الشرقية لأن يتنكر موظفو النظام القديم والمستفيدون منه والمطبّلون له في شكل أبطال ثوريين ومناضلين ديمقراطيين، مثلما وقع في دول الثورات العربية. حيث يخيل إليك الآن، وخصوصا في تونس، أن الجميع دون استثناء كانوا يكافحون طيلة عقود ضد أنظمة القمع والنهب والفساد وأنهم قد بذلوا أعظم التضحيات وأجلّها في سبيل الديمقراطية والحرية وإعلاء كلمة الحق. فمن كان يناصر النظام القديم ويتملّقه إذن؟ لا أحد! نظام ظل يفسد وينهب ويعذب ويقتل ويخوّف ويذلّ وينكّل ويأمر «الإعلام» بالتسبيح بحمده ليل نهار. ومع ذلك فإنه لم يكن معه أحد! ولهذا فإن ما صار بالغ الوضوح الآن هو أن ثورات 2011 العربية إنما تندرج في سياق قابل للمقارنة بسياق الثورات الأوروبية التي اندلعت عام 1848 والتي تعرف باسم «ربيع الشعوب». فقد كانت ثورة فبراير 1848، المطالبة بتعميم الحق في التصويت وزيادة المشاركة الشعبية في الحكم وتحسين أوضاع العمال، هي الثورة الفرنسية الثانية التي تندلع في القرن التاسع عشر (بعد ثورة يوليو ز1830). وسرعان ما امتدت هذه الثورة لتشمل بلدانا ومقاطعات أوروبية كثيرة كان بينها إيطاليا والنمسا والمجر وبوهيميا وبعض ولايات ألمانيا (قبل التوحيد). وكان من النتائج الفورية لهذه العدوى الثورية أن الملكيات اضطرت للنزول عند الطلب الشعبي بسن دساتير في برلين، وميونيخ، وفيينا وتورينو، الخ. ولكن ما وقع هو أن القوى الرجعية، من ملكيات وأرستقراطيات وقوات مسلحة، تمكنت في غضون عام واحد من استعادة زمام الأمور. وهذا من الأدلة الكثيرة على أن التاريخ لا يسير في اتجاه خطيّ. إلا أن قضية التحرر الديمقراطي لم تتوقف عند ذلك الحد، بل إنه كان لها بعد ذلك موقعتان أخريان ظافرتان: الأولى، إبان كومونة باريس عام 1871، والثانية، عقب نهاية الحرب العظمى عام 1919. المصدر: القدس العربي