أستلهم هذا العنوان من مقال الأستاذ حسن طارق (أخبار اليوم، عدد 399، الأربعاء 2011/03/23) لأستعمله في اتجاه استكمال وتجميعا للأسس «الفكرية» للاستبداد العربي. والمقصود بالأسطورة هنا الحكاية أو الحكايات التفسيرية والتأويلية والتبريرية المؤسسة للاستبداد العربي أن مجموع الروايات التي يقدمها - صراحة أو ضمنا - المستبد العربي لتسويغ استبداده وإضفاء طابع الشرعية عليه. هذا الاسبتداد قام على أساس رغم اضطلاعه بمهام إنجاز التحرر القومي من الاستعمار والامبريالية، وتحرير فلسطين. ودارت دورة التاريخ منذ خمسينيا ت القرن الماضي إلى الآن، دون أن تنجز هذه الأنظمة ما وعدت به من تحرر، بل تحولت إلى أنظمة موالية كليا للغرب وحارسة للأمن السياسي وللأمن الاقتصادي لاسرائيل، أي أنها تحولت بالتدريج بدورة 180 درجة ضد أهدافها وشعاراتها الأصلية. وتلك هي الأسطورة ا لأولى أسطورة التحرر القومي، أما الأسطورة الثانية، فهي إنجاز مهام التحرر الاجتماعي وتحديق التطور السياسي. وقد بينت التجربة التاريخية أن هذه الأنظمة عطلت التطور الطبيعي للتجمعات العربية نحو التطور والنمو وأعاقت التطور السياسي، حيث مارست استبدادا كليانيا تمثل في تشويه الدستور وتمييع الانتخابات وصناعة المؤسسات التمثيلية وتشويه معنى الحزب ومعنى الدولة ومعنى الديمقراطية نفسها. بل إن الاستبداد السياسي العربي بلغ ذرى لم تعرفها باقي المجتمعات، حيث نجد أن هذه الأنظمة أو بعضها غيرت اسم البلد، وعملته وعلمه، بل بلغ الأمر بها حد التحكم في الزمن والتاريخ، حيث تم استبدال التاريخ الهجري بتاريخ جديد، كما غيرت الرزنامة الزمنية وأسماء الشهور بما يعني انها أصبحت تشارك العناية الإلهية في التحكم في التاريخ والزمن. وتلك هي الأسطورة الثانية أسطورة تحقيق التقدم الاجتماعي والتطور السياسي. الأسطورة الثالثة هي حماية المجتمعات من كل أشكال التطرف الديني والإيديولوجي. فمثلما استغلت هذه الأنظمة مقولات الحرية والتحرر، والديمقراطية والاشتراكية، والتقدم و التطوير، فقد استثمرت سياسيا مقولة حماية المجتمع من أشكال التطرف، وبخاصة التطرف الديني والتطرف اليساري أو العلماني، سانة سياسة الترعيب والتخويف من المستقبل المجهول الذي يمكن أن تقود إليه هذه الفئات الاجتماعية. هذا النوع من الأساطير يمكن تسميته بأساطير الغايات والأهداف واليوتوبيات. أما النوع الثاني من الأساطير فيتعلق بالأدوات والوسائل: أول هذه الأساطير هي أسطورة الجيش كأداة تاريخية فاعلة وكحامل للخلاص. فقد قدم الجيش من حيث أنه فئة اجتماعية منظمة ومنضبطة ومالكة للسلاح كبديل عن كل الفئات المدنية الأخرى، كبديل عن الحزب والأحزاب، بل لعب الجيش دور حزب منظم ومنضبط ومالك لوسائل القوة وللقدرة على الفعل مدشنا مرحلة جديدة متميزة في تاريخ الشعوب العربية، وهي مرحلة العسكريتاريا. وربما كانت الثورات العربية المشتعلة حاليا هي بداية التحرر من مرحلة العسكريتاريا هاته (صدام، مبارك ، بن علي، القذافي، صالح.. البشير...). وقد كذبت التجربة التاريخية كل مزاعم الريادة والطهرية والوطنية والمبدئية التي أثثت الأسطورة العسكريتارية، حيث بينت الأبعاد الفئوية والمصلحية والانتفاعية لهذه الفئة الاجتماعية، بل بينت أن السكريتاريا ليست البديل التاريخي عن الفئات المدنية، وأنها عائق تاريخي أكثر مما هي أداة أو طريق لتطور المجتمعات. الأسطورة الأداتية الثانية هي أسطورة النظام الجمهوري، إذ صورت الملكية على أنها نظام سياسي عتيق ومتخلف ورجعي، وأن النظام الجمهوري هو نظام حديث ومتطور. وقد استثمر هذا النظام الجمهوري كل الشعارات الساحرة المتداولة كشعار الحرية وشعار العدالة الاجتماعية، وشعار التحرر. لكنه تحول بالتدريج من نظام يحمل البشائر إلى نظام قمعي بوليسي وتوريثي أسوأ من النظام الملكي. بل لقد أنشأت الجمهوريات الاستبدادية بدائلها الملكية المناسبة، حيث أضفت كل هالات الجلال والقدسية على هذا النظام، ويسرت عملية التوريث ّ(جمال مبارك - ابن صالح، ابن القذافي وقبلهم ابن الأسد) مما جعل هذه الأنظمة جمهورية في الاسم والشكل، وملكية في الجوهر أو العمق، وهو ما سبق أن أطلق عليه سعد الدين إبراهيم مصطلح النظام الجملوكي، وهو نظام أردأ من الجمهورية وأسوأ من الملكية. الأسطورة الأداتية الثالثة هي أسطورة الشخص والتمييز. فقد أضفت هذه الأنظمة الجملوكية على سدنتها كل هالات الجلال والقدسية، وأقامت نوعا من المماهاة بين الأمة والدولة والنظام وشخص الحاكم. فرئيس الجمهورية هو الشعب وهو الأمة وهو الدولة وهو الحزب الحاكم. إنه هوكل شيء وما عداه لا شيء. فصورته في كلا لشوارع وفي كل البيوتوفي كلا لإدارات وفيا لأدواق النقدية والطوابع البريدة، وفي كل الإذاعات والتلفزات والصحف. فهو حاضر حضورا كليا في كل ثنايا الحياة الاجماعية (فحيثما وليت وجهك فتمة وجه الزعيم وصورته). وهو المتمتع بالعلم الكلي والرشاد والحكمة والصواب والحصافة.. إلى غير ذلك من أسمائه الحسني. كل شيء يحدث باسمه وبعلمه وتوجيهه ومباركته، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، هو الذي يهب الحياة وهو الذي يرزق الموت. تلك صورة مركزة عن أنظمة الاستبداد العربي وإيديولوجياته أو أساطيره التبريرية في صورتها الغائبة والأداتية. وهي تعبر عن صورة كلية نسقية يشد بعضها بعضا، وتعبر عن شراسة أنظمة عسكرية استبدادية لأنها تماثلها إلا الأنظمة القمعية التي ظهرت في بلدان أمريكا اللاتينية في الربع الأخير من القرن الماضي. لقد أثبتت التجربة التاريخية أن التخلص من هذه الأنظمة ليس بالأمر الهين. فقد تطلب التخلص منها الالتجاء إلى الأنظمة الغربية نفسها، أو بعبارة أخرى، إن التخلص من الاستعمار الداخلي لم يكن ولم يعد ممكنا إلا بالاستنجاد بالاستعمار الخارجي القديم (العراق - ليبيبا). إن عودة العرب الى مسرح التاريخ بعد خسوف دام عقودا وقرونا، هي عودة مكلفة كما أن التحرر من هذا القدر القاسي، ومن هذا الأخطبوط الاستبدادي هو الخطوة اللازمة للعودة إلى خط التطور التاريخي الطبيعي والعادي، أي خط التطور الديمقراطي.