"الإسلام" "والواقع الإسلامي": لا بد لنا كمدخل منطقي من أن نفرق بين مفهومين متمايزين: "الإسلام" وهو ذلك النظام الشامل العقدي التشريعي الموحى به والذي لا يدخله الباطل، و "الواقع الإسلامي" وهو ببساطة ما فهمه المسلمون من الإسلام وطبقوه! "الواقع الإسلامي" له عنصران مكونان مترابطان كوجهي قطعة العملة الواحدة: 1- فهم معين للإسلام 2- تطبيق لهذا الفهم المعين في بناء المجتمع وفي السلوك الاجتماعي. وكلا الجانبين، فهم الإسلام وتطبيقه، إذا أردنا وصف بنيته في علاقتها مع "الإسلام" بالذات يتألف من العناصر التالية: 1- جوانب مُفعَّلة من الإسلام 2- جوانب مُهْمَلة من الإسلام 3- جوانب مُدْخَلة على الإسلام! تلك الجوانب المفعّلة سواء من الفهم الإسلامي الصحيح المتطابق مع الإسلام أو من التطبيق العياني الملموس لذلك الفهم (على شكل بنية اجتماعية وسلوك اجتماعي) يزيد حجمها ليصل في حالته المثالية إلى أن يتطابق مع "الإسلام" كله! وينقص بدرجات متفاوتة. والمكونان الآخران يدلاننا على علة في المجتمع ، إذ هناك مكونات أصيلة أهملت وأخرى دخيلة هي التي فعٍّلت في الواقع الإسلامي. ولا أعني "بالمكونات المدخلة" كل فكرة أو سلوك جاءنا من عند غير المسلمين كما قد يتبادر إلى الذهن، إذ كثير من أفكار غير المسلمين وسلوكهم صائب، وفيه حكمة هو ضالة المؤمن ولو نظرنا إليه ملياً لرأيناه في حقيقته مكوناً إسلامياً مهملاً نسيه المسلمون أو غفلوا عنه أو تركوه تقصيراً منهم! وإنما أعني "بالمكونات المدخلة للواقع الإسلامي" تلك المكونات المتناقضة مع الإسلام روحاً أو نصاً، وهي مكونات بعضها مما استورد بالفعل من غير المسلمين، ولكن بعضها الآخر هو من عمل أيدي المسلمين و"ابتكارهم الخاص"! وإذا تكلمنا عن القيم التي توجه السلوك الاجتماعي للفرد المسلم مستعملين مصطلحي "الفضائل" و "الرذائل" فإننا نقول إن الواقع الإسلامي يحوي "فضائل مفعّلة" و "فضائل مهمَلة" و "رذائل مُدخَلة"! - صدمة الاستعمار واكتشاف المسلمين لبنية الإسلام عبر المقارنة مع الآخر: كان الغزو الاستعماري الأوروبي بقوته المادية الهائلة صدمة لعل الله عز وجل أرادها بسابق علمه لتوقظ المسلمين وتنبههم إلى حقيقة وضعهم الحضاري المنهار، ولتفتح أعينهم بالتالي على ذلك الجانب المهمل من الإسلام الذي غفلوا عنه، وعلى تلك العيوب المدخلة التي ظنوها قروناً جزءاً لا يتجزأ من الدين. حين تسير آلة معينة على ما يرام فقد لا يخطر لصاحبها أن يتفحص مكوناتها الداخلية، ووظائف كل مكون من تلك المكونات، وكيف تترابط هذه الوظائف لتخدم السير المنتظم للنظام بأكمله. الخلل في عمل الآلة هو دافع إجباري لصاحب الآلة لكي يتفحصها، ويرى من خلال بحثه عن الخلل كيف تعمل الآلة حقاً، وما هي مكوناتها، وما هي وظيفة كل مكون، وليستنتج بالتالي عبرة عن الطريقة التي يجب عليه أن يستعملها لإبقاء الآلة تعمل :كيف يصون المكونات ويحافظ على قيامها بوظائفها، وعلى توازنها بحيث لا يطغى واحد منها على الآخر ولا يزيد تواتر حركته على المطلوب ولا ينقص! باختصار كيف تكون الآلة "متوسطة" فلا إفراط في عمل مكون من مكوناتها ولا تفريط! ومن الدوافع التي قد تدفع صاحب الآلة لتفحص مكونات آلته ووظائفها وطرق عملها رؤيته لآلة أخرى تقوم بالعمل نفسه بطريقة أفضل (أسرع أو أكثر فاعلية أو بطريقة تقلل من نفقات الآلة وتزيد من فوائدها إلى آخره) وكذلك الأمر في اللغة الأم! نحن حين نستعمل لغتنا بصورة تلقائية فإننا لا نكتشف وجود قواعد بانية لهذه اللغة، قواعد صوتية ونحوية وصرفية إلى آخره، وفقط حين نجد أجنبياً يخطئ في الكلام نكتشف من تحليلنا لخطئه ما هي القواعد التي نظمت الأصل الصحيح(عبر تحليلنا لماهية الخطأ المرتكب نرى كيف يكون الوضع الصحيح، أي ما هي الطريقة التي انبنى بها هذا الوضع) مثل اللغة ومثل الآلة يوضحان لنا السبب الذي جعل الصدمة الاستعمارية مفيدة للمسلمين لكي يلقوا نظرة على تكوين مجتمعهم، ومن ثم على تكوين نظرتهم لما كوّن هذا المجتمع وهو مفهومهم للإسلام، ومن ثم أخيراً ليجروا مقارنة بين الواقع الإسلامي والإسلام ويكتشفوا ما فعّل من الإسلام وما أهمل منه وما أدخل عليه! هذه الأمة التي جعلها الله وسطاً لتشهد على الناس أراد لها أن تكون مثل الآلة النموذجية واللغة الصحيحة: الآلة النموذجية هي التي بمجرد وجودها تشهد على غيرها من الآلات إن كانت صالحة أم فيها خلل، وكذلك اللغة الصحيحة هي التي تشهد على اللغات: ما صح منها وما انحرف عن الصواب! ولكننا حين انحططنا اضطررنا إلى قلب الآية فصارت الأمم الأخرى هي التي شهدت علينا بأننا انحططنا وأن بنانا الحضارية معتلة! رواد الإصلاح الإسلامي الأوائل من أمثال حسن العطار وخير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي ثم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وطاهر الجزائري ورشيد رضا وعبد الحميد بن باديس وحسن البنا هم الذين تصدوا بانتباه ووعي لمهمة استخلاص البنية الأصيلة للإسلام عبر المقارنة مع الآخر، وهم الذين طرحوا على العالم الإسلامي مهمة تفعيل الجوانب المهملة من الإسلام، وإزالة الجوانب المدخلة عليه، وهذا التفعيل وتلك الإزالة هما الجانبان المكونان لعملية التجديد الديني في اعتقادي التي تنبأ بها النبي عليه الصلاة والسلام وأنها لا بد واقعة في هذا الدين. - تفعيل فضائل الإسلام: طموحان عملي وشامل! ثمة دافع عملي، يدفع المسلمين إن كانوا يريدون الحياة، بكل بساطة، لتفعيل فضائل إسلامية مهملة، على رأسها الفضائل التي تبني مجتمعاً متماسكاً متعاضداً يقوي كل جزء منه الجزء الآخر ولا يعارضه ويناقضه، بحيث يهدم واحد ما يبني الآخر كما هو حال المسلمين اليوم. إنها ببساطة غريزة حفظ البقاء! وبودي أن أسجل بمرارة هنا أنه حتى هذه الغريزة التي يفترض بها أنها أقوى غريزة على الإطلاق وضعها الله في الأحياء لم تفلح في ثني المسلمين عن الخوض في حروب داخلية فرقتهم أيدي سبأ، واستهلكت قواهم ومواردهم، وأدخلت الغزاة الأجانب إلى عقر دارهم، بل إلى غرف نومهم! ثمة فضائل إسلامية يعرفها المسلم ولا ينكرها إن ذكرتها له، ولكنها ببساطة فضائل مهملة غير مفعلة خذوا منها أمثلة: النظرة لمصلحة المجتمع ككل على أنها مصلحة للفرد أيضاً(راجعوا الحديث الشريف المشهور عن القوم الذين ركبوا سفينة فأراد من في الأسفل أن يخرقوها، فإن تركوهم وما يريدون غرقوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً!) فهذه الفضيلة أهملت وحل محلها رذيلة تتمثل في الاهتمام الحصري بالمصلحة الفردية، وعد الملكية العامة مثلاً أمراً لا بأس في إتلافه أو مصادرته للمصلحة الخاصة، وبجميع الأحوال من غير الوارد بذل جهد في صيانته أو تطويره أو إيجاده! والفرد الذي "يغلط" و "يجرؤ" على الاعتراض على السلوك المستهتر بالمصلحة العامة أو يحاول أن يقوم بسلوك إيجابي لصالح المجتمع ككل يوصف بأنه "بائع وطنيات" أو "حنبلي زيادة على اللزوم"! ومن أسوأ رذائلنا وأكثرها تدميراً للحضارة في اعتقادي رذيلة حذر الإسلام منها بشدة ألا وهي رذيلة الحسد. فنحن إلا من رحم الله لا نرى في نجاح أخينا وتفوقه وعمله الموفق نجاحاً للمجموع بل نرى فيه تهديداً لقيمتنا الذاتية، بل ربما لمصلحتنا أيضاً، ولذلك ترانا حرباً على النجاح والتميز، ولا نتورع عن بذل أقصى الجهود في التغطية على حسنات المحسنين والتقليل من شأنها وتثبيط همم أصحابها! وهذا ينطبق على الأفراد كما ينطبق على الدول فكثير من الدول الإسلامية تعد قوة جيرانها تهديداً، وبالمقابل من هذه الدول من لا تتورع بالفعل عن ابتزاز جيرانها إن أحست بقوة ما غالباً ما تكون موهومة، وكثيراً ما يكون الجميع منساقين إلى فخ يقود إلى حرب داخلية أعدته لهم قوة خارجية وهم في غيهم سادرون! البديل عن هذه الرذيلة تقدمه فضيلة إسلامية كبرى مهملة: "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً" "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" والنصوص كثيرة معروفة..مهملة التطبيق! وفي المقابل هناك تضخم لصفات ذاتية هي في الأصل فضائل ولكنها تحولت في التطبيق إلى رذائل محطمة للتماسك الاجتماعي، ومنها الشعور المفرط بالكرامة والاعتزاز بالذات في غير موضعه: فنحن لا نقبل من أخينا زلة، ونحن مستعدون لشن حرب عليه لا تبقي ولا تذر عند أقل هفوة بل شبهة هفوة، وبالمقابل يختفي هذا الاعتزاز بالذات في علاقاتنا الخارجية، وحتى حين يجرب الحاكم أن يمارس هذا الاعتزاز بالذات مع الخارج يمنعه الانهيار الحضاري الذي قاد إلى انهيار موازين القوى لصالح الآخرين من الاستمرار بهذا الاعتزاز، ويعود به مختاراً أو مكرها لوضع ذليل يراه القارئ ويرى أمثلته واضحة للعيان. ومن الفضائل العملية للإسلام التي لها دور حاسم في الحضارة المادية الصناعية القائمة إتقان العمل والاهتمام بالوقت. ترى المسلم لا يؤدي عمله إن أداه إلا ناقصاً ينطبق عليه القول الشعبي "رفع العتب". وترانا كأن لنا مع الوقت ثأراً فنحن نريد أن "نقتله" لا أن نستثمره بقدر ما نستطيع. ومن هذه الفضائل الاقتصادية للإسلام فضيلة ترشيد الاستهلاك وعدم الإسراف. لعله لم توجد أمة في التاريخ بددت مواردها باستهتار إجرامي مثل أمة المسلمين!وهذا بالذات في وضع هي تحتاج فيه إلى كل قرش لتقوم بنهضة مادية صناعية يتوقف عليها وجودها بالذات وليس أي شيء آخر! فالطموح العملي لتفعيل فضائل حضارية في الإسلام ناتج ببساطة عن ضرورة البقاء. نحن هنا لسنا إزاء طموح للوصول إلى المثال الأعلى الذي هو التطابق التام لواقعنا الإسلامي مع "الإسلام"، أي الإسلام الكامل النموذجي، بل نحن إزاء طموح بسيط "متواضع" لتفعيل فضائل إسلامية من شأن تفعيلها أن يساعدنا على البقاء على قيد الحياة مسجلين في عداد الأمم التي لم تنقرض! وأما الطموح الأشمل للتطابق مع الإسلام فهو أبعد مدى، وهو الهدف البعيد للمسلم الصادق الإيمان، ولكنني بصراحة لا أراه ممكن الإنجاز في الوقت القريب المنظور وأتمنى أن أكون مخطئاً، ولي أمل أن يقودنا الإصلاح العملي إلى تقريبنا من ذلك الهدف الأشمل والأبعد. والإصلاح العملي على كل حال هو شرط لا بد منه على كل حال للوصول إلى ذلك الهدف إذ هو كما قلت شرط للبقاء..مجرد البقاء على قيد الحياة! - متى نقول عن فضيلة ما إنها انتقلت من وضع "الفضيلة المهملة" إلى وضع "الفضيلة المفعّلة"؟ قال عز وجل"يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون!" (الصف2، 3) وهي من صفات بني إسرائيل المستهجنة "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون"! (البقرة44) الفضائل المهملة لا ينكر فضلها المسلم ولكنه لا يطبقها، فهو مثل الطالب الكسول الذي يقر بفائدة الدراسة وأهميتها لمستقبله ولكنه لا يدرس، ولا يقضي وقته في هذا المفيد الذي يقر به بل يضيعه ويهدره في غير المفيد. لا يخفى هنا على الناظر أننا إزاء فضيلة مفتقدة للدافع النفسي القوي الذي يستطيع السيطرة على صاحبه بحيث يقوده إلى السلوك المطلوب، وفي المقابل الدوافع النفسية المحركة للسلوك أي الدوافع النفسية القوية المتحكمة بالفرد هي تلك التي تقوده إلى السلوك الآخر فالرذيلة البديلة والحال هذه هي "المفعّلة"، وليس الفضيلة المطلوبة المقر بفضلها! وتفعيل الفضيلة يعني ربطها بدافع نفسي قوي وانظر قول الشاعر: وما كنت ممن يدعي الحب قلبه..ويحتج في ترك الزيارة بالشغل! فلو كانت فضيلة الحب عنده حقاً فاعلة لدفعه هذا الدافع القوي إلى أن يجد الوقت للزيارة! وكونه اعتل بالشغل فهو دليل على أن ادعاءه للحب باطل، أو أن الحب عنده على أحسن تقدير فضيلة مهملة لا قوة نفسية لها! فمن أين يأتي هذا الدافع القوي الذي يفعّل الفضائل؟ نعم بلا شك هناك من الناس المختارين من حباه الله بقوة الإرادة وعلو الهمة والمقدرة على جهاد النفس بحيث ينفذ بالفعل قناعاته ويسير وفقها لا وفق أهوائه، وهذه صفة موجودة في نخبة من البشر لا ينقطع وجودها أبداً وإنك لتراها حتى عند غير المسلمين في أمثلة من المجاهدين لأنفسهم المناضلين في سبيل قناعاتهم حتى لو تعارض تنفيذ هذه القناعات مع دوافع الراحة ومقتضيات الأهواء! وهم في اعتقادي ينطلقون من منبع فطري عميق يرفع الإنسان إلى مرتبة علوية هي فوق الاهتمامات المادية البهيمية ركبه الله في الفرد، وهو نوع من الدافع الديني الفطري الذي يحتاج إلى هداية خارجية ليأخذ شكله الصحيح (رأيناه في أمثلة زهد غاندي ومجاهدته لنفسه ورأيناه في أمثلة بطولية مثل بطولة راشيل كوري التي ماتت ولم يتزحزح تصميمها على مواجهة بلدوزر المستوطنين الصهاينة) ولكننا حين نريد لمجتمع بكامله أن يتوجه بهذا التوجه النهضوي فإن علينا أن نلتمس وسائل اجتماعية قادرة على تفعيل جماعي للفضائل مستند إلى آليات اجتماعية وليس إلى تفعيل فردي لا يخص إلا أفراداً منتخبين. يجب أن نتوصل إلى وضع يحس فيه الفرد أنه هو بالذات مسؤول عن المجتمع لا يستطيع أن يتخلى عن مسؤوليته وإلا وقعت الكارثة! لن يفلح مجتمع اعتقاد كل فرد فيه في نفسه أنه لا قيمة له وأن القافلة سائرة به وبدونه! هذا التوتر الكبير في الإرادة والقوة الداخلية قد ينتج حين يجتاح المجتمع شعور بخطر داهم، ولكنه يمكن أن يوجد حين تكون البنية السياسية الاجتماعية من النوع الذي يفرض على الأفراد مبدأ المسؤولية ويعطيهم في المقابل حرية القرار، والشعور بالتالي أن الوضع الكلي متعلق بفعلهم الفردي. على أن العامل الأول الذي على أساسه يبنى العمل النهضوي المطلوب هو بلا شك قرار واع مجمع عليه اجتماعياً بالهدف. على المجتمع أن يحدد هدف النهضة والسلوك المطلوب من الفرد لتحقيقه، والذي يقوم بإقناع المجتمع بالهدف هو وفقاً لسنة الاجتماع المضطردة جزء رائد من أفراد المجتمع هو الجزء الذي امتلك الوعي المطلوب والذي يستطيع أن يقوم بتقديم المثال والمعيار للفعل، بحيث يتحول الفعل إلى عادة ويتحول خرقه إلى سلوك مستهجن يتولى المجتمع تصحيحه. العادة هي بحد ذاتها دافع نفسي قاهر! وأنت حين تكون في المجتمع عادة نهضوية فكأنك ضمنت للمجتمع أن يسير تلقائياً وفق السلوك المطلوب وهذا ما نراه في الغرب في أمثلة بسيطة قد تعد في بعض مجتمعاتنا معجزة نحن غير قادرين على الوصول إليها مثل الوقوف بالدور في صف مثلاً! فالسلوك غير المتطابق مع هذه العادة الحضارية يصححه المجتمع نفسه وليس قوة خارجية كالشرطة مثلاً! ولا شك أن الإيمان والدافع إلى نيل رضى الله والثواب الأخروي والخوف من العقاب دافع عظيم، ولكنه دافع يحتاج إلى تحديد للهدف وإلا ضل السعي حتى لو حسب الناس أنهم يحسنون صنعاً! الإيمان مطلوب ولكن معه مطلوب الوعي بالهدف الحضاري أيضاً ،وانظر إن شئت إلى مثال النزعة التصوفية الانعزالية التي قادت في عصور الانحطاط إلى تدهور حضاري مريع. لقد كان هذا "تديناً" ولكنه كان على أساس خاطئ حذر منه نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام حين قال"لا رهبانية في الإسلام!". نحن بحاجة إلى التدين الصحيح الذي يكمن في أساسه الوعي الحضاري الإسلامي، وإنه لمما يملأ النفس حسرة أن ترى هذا العامل الثمين الذي هو انتشار التدين في مجتمعنا يتبدد في أشكال خاطئة، منها الشكلية والاهتمام بالصغائر، وفقدان فقه الأولويات، والغفلة عن مقاصد الشريعة، واستعمال الدين أحياناً كتبرير للتشقق الاجتماعي والتناحر الداخلي وهو في الأصل دافع للتوحد والتماسك!. يقول مالك بن نبي في كتابه "بين الرشاد والتيه": "إن المجتمع الإسلامي يعاني منذ القرون الأخيرة , فتورا قد نسميه أزمة حياة فقدت أسباب التوتر والطموح . والعلاج لحالة كهذه , يقتضي ايديولوجية تعطي التوتر الضروري لمجتمع يقوم بانجاز مهمات كبرى , لأنها تخلق الفرد التواق , وهو عكس الفرد المائع الذي يركب مجتمعا ارتخت أوتاره ." وأقول: هذه "الأيديولوجية" هي ما أسميه "الوعي النهضوي المجمع عليه" وهي أساس عملية تحويل الفرد الذي سماه مالك رحمه الله "الفرد المائع" إلى "فرد تواق" هو صانع النهضة المنشودة، وهذا الفرد التواق ما هو إلا الفرد الذي فعّل فضائل الإسلام المهملة وأزال من نفسه وسلوكه رذائل الواقع الإسلامي المدخلة! محمد شاويش - برلين