البداية كانت عبر استغلال الإدارة الأمريكية قنواتها الإعلامية العالمية مثل إذاعة صوت أمريكا أو قناة سي إن إن الإخبارية، حيث جرى تنفيذ سياسة التأثير عبر الصورة في حرب الخليج الثانية، في ظل خلو الساحة العربية آنذاك من منافس إعلامي عربي ينقل الصورة على حقيقتها، وليس الصورة التي روج لها الأمريكيون واستطاعت عن طريقها تأليب الرأي العام الدولي ضد النظام العراقي آنذاك بنشر صور مفبركة عن مشاهد دمار بيئي كارثي. بعدها ونتيجة ظهور منافسين إعلاميين عرب بالمنطقة العربية، لجأت الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى التأثير الإعلامي عن قرب بالسهر على خلق قنوات إعلامية تبث مباشرة إلى شعوب المنطقة باعتماد لغتهم الأم وبانتقاء أسلوب يخال القيمون عليه أنه يجذب أكبر شريحة بالمنطقة العربية هي شريحة الشباب، وأيضا باختيار سبل الإعلام الثلاثة الكبرى أي المكتوبة والمسموعة والمرئية. الاختراق المكتوب أما المكتوب من وسائل التأثير الإعلامي الأمريكي فتجلى في المجلة الأمريكية الناطقة باللغة العربية مجلة الشباب هاي (تحية)، والتي سعى موزعوها توفيرها في جميع أكشاك أغلب عواصم العرب، مستندين فيها على خط تحريري سطحي يأخذ من المعارف ما لا يتجاوز حد الاستخفاف بعقول الشباب العرب والمسلمين. هذا الاستخفاف مرده إلى تركيز المجلة على مواضيع الفن والموسيقى وأخبار النجوم، مع تسويق للقيم الثقافية الأمريكية وأنماط السلوكات الغربية المعتمدة داخل هذه المنظومة وفق أجناس الاستطلاعات الوصفية والحوارات القصيرة المؤثرة واعتماد المشخصات البصرية المنتقاة بحرفية عالية. ويبدو خيار التطرق إلى المواضيع الوازنة ومعالجة مجالات تأخذ الحيز الأكبر من اهتمام شعوب المنطقة العربية خيارا مستبعدا في خط تحرير مجلة هاي، بل إن أصحاب المجلة لا يخفون الأمر ويشهرونه على سبيل الاستشهاد في مقال لهم منشور ضمن ركن رسائل للمحرر، في الصفحة الثالثة من عدد شتنبر الماضي، حيث يجيبون عن سؤال: لماذا تخلو هاي من المواضيع السياسية؟ قائلين إن المكتبات والأكشاك في العالم العربي تزخر بالكثير من المجلات السياسية التي تغطي الواقع السياسي في العالم من وجهات نظر متعددة، غير أن هاي ليست واحدة منها. فالحكومة الأمريكية لها العديد من المطبوعات التي تعالج مواقفها السياسية، وتطرح وجهات نظرها. ويتابع أصحاب المجلة الأمريكية منيطين اللثام عن مخططهم الإعلامي بالمنطقة العربية في المقال ذاته، مؤكدين أن رسالة هاي تركز على المحاور الثقافية والفنية والاجتماعية وتعالج الاتجاهات والأفكار والأنماط الثقافية السائدة في الولاياتالمتحدة اليوم، والتي لها حضورها أيضا في العالم العربي، مثل الرياضة والموسيقى والتكنولوجيا والتعليم والعلاقات والعلوم، هدفنا هو التركيز على الاهتمامات المشتركة بيننا بهدف بناء جسور من التواصل بين الثقافات، فالمجلة لا تعنى بالقضايا السياسية أصلا، وإنما تهدف أن تكون جزءا من الحوار الإيجابي البناء في الاتجاهين. ويعتمد الخط التحريري لمجلة هاي في شق كبير منه على إظهار نجاحات شباب عرب ومسلمين في الولاياتالمتحدةالأمريكية في مختلف المجالات والتخصصات، مع تركيز أكبر على مجالات الموسيقى والتمثيل والرياضة. وتظهر من خلال الأسلوب المنتهج في إبراز هذه الشخصيات (جنس البورتريه مع صور مشخصة) الطريقة الاستعراضية للنموذج الأمريكي كنموذج صالح ومتفرد يجرد الشخصية العربية من قيمها الذاتية ويلبسها نسخة عربية أخرى تتماشى مع العولمة الأمريكية. ويستغل أصحاب هاي من خلال ركن التعريف بهذه الشخصيات الشابة، الذي هو ركن ثابت في كل عدد من أعداد المجلة، لتصحيح الصورة الأمريكية لدى الشعوب العربية والإسلامية التي تدهورت بشكل بين بعد أحداث 11 شتنبر وبداية حملة الولاياتالمتحدةالأمريكية ضد ما تسميه إرهابا، زاعمة أيضا أن هؤلاء الشباب يسهمون من جانبهم بشكل كبير في تصحيح صورة العربي المسلم لدى الشعب الأمريكي. الاختراق السمعي البصري يمكن القول إن الاختراق الإعلامي الأمريكي المسموع للجسم العربي الإسلامي أشبه ما يكون في توجهه وصياغته بنسخة ثانية لمجلة هاي، لكنها هذه المرة مبثوتة عبر أمواج الإذاعة. هذا الاختراق ممثل في ما يطلق عليه براديو سوا، الذي رخصت له كثير من الدول العربية من المحيط إلى الخليج، مثلما رخص له المغرب على الموجات الترددية إف إم، حتى قبل أن يتم إعمال القانون المنهي لاحتكار الدولة للفضاء الإعلامي المغربي وتشكيل الهيأة العليا للإعلام السمعي البصري. تعمل إذاعة سوا على بث نشرات إخبارية، يتناوب فيها جنسا الموجز والمفصل، كل نصف ساعة، تفرد حيزا هاما منها لسياسة وجهود الإدارة الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط بالخصوص، ثم بعدها بقية دول العالم، وغالبا ما تعتمد هذه النشرات على بث تصاريح حية لمسؤولين أمريكيين كبار قبل أن تتم ترجمتها إلى اللغة العربية، ثم بعدها تعود الإذاعة إلى برمجة الموسيقى الراقصة وأغاني البوب العربية والأجنبية، التي تشغل وحدها ما يربو عن نسبة 85 بالمائة من إجمالي الإرسال، فيما تحتل الأخبار المعبرة عن السياسة الأمريكية نسبة 15 بالمائة. هذه السياسة التي تظهر جليا من الخط التحريري لهذه النشرات، حيث تعتبر أعمال المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي في العراق عمليات تخريبية يقوم بها إرهابيون، مثلما ترى في العمليات الجهادية بفلسطين المحتلة إرهابا يعرقل عملية السلام في الشرق الأوسط. وتعتمد إذاعة سوا على الإيقاع السريع في أدائها الإعلامي، مستندة في شعاراتها على خطابات تعمل جاهدة على الإمساك بالمستمع العربي طوال الوقت، من قبيل ابق على تواصل مع العالم.. استمعوا لنا ونحن نستمع إليكم.. 24 ساعة، سبعة أيام في الأسبوع. وفضلا عن الأخبار والموسيقى تبث الإذاعة بين الفينة والأخرى برامج قصيرة تدعم سياسة الإدارة الأمريكية بالمنطقة العربية الإسلامية، عبر تسويق وجهات النظر الأمريكية مبطنة بين الأغاني والسطور، بعيدا عن أسلوب الدعاية الواضح والساذج. وإلى جانب إذاعة سوا، ارتأت الولاياتالمتحدةالأمريكية اقتحام الفضاء التلفزي العربي هذه المرة بإطلاقها قريبا أول قناة أمريكية موجهة إلى العرب بلغتهم، بصيغة لن تخرج في الغالب عن الصيغة المعتمدة كتابة عبر مجلة هاي أو صوتا عبر سبيل إذاعة سوا. الاختراق الإعلامي الأمريكي للجسم العربي المسلم بات خيارا استراتيجيا تنهجه الولاياتالمتحدةالأمريكية للتأثير على شعوب المنطقة العربية على المديين المتوسط والطويل إعمالا لسياستها في احتواء هذه الشعوب وتذويب قيمه في قالب النموذج الأمريكي، ذلك انطلاقا من وعيها بأهمية التوجه الإعلامي للمنطقة العربية بنية إحداث تغيير جوهري في العقلية العربية، التي تبدو في غالبها كارهة لتوجه الإدارة الأمريكية في المنطقة، بل تنصبها العدو الأول لها حاضرا. ويبقى الدور منوطا على هذه الشعوب المستهدفة في الوعي بخطورة هذا الاختراق والعمل على مقاطعة منتوجاته، سواء المكتوبة منها أو السمعية البصرية، مثلما تبقى المسؤولية قائمة على عاتق أصحاب الشأن بالمنطقة العربية الإسلامية لتشجيع المنتوج الإعلامي الوطني دفاعا عن القيم العربية الإسلامية وتحصينا لها. يونس البضيوي