عكس التقرير السنوي لإدارة الشؤون الدينية الأمريكية عن الحرية الدينية في المغرب في بدايته رؤية إيجابية، فتحدث عن حالة الأمن والاستقرار التي يعيشها يهود المغرب وأقليات دينية أخرى في كل أرجاء البلاد، بيد أن التقرير عاد، في جزء منه، ليقول إن قلق المواطنين اليهود تزايد بتردي الأوضاع في الشرق الأوسط خلال العام .2002 والغريب أن التقرير تلقى دعاوى واهية من جهات استئصالية داخلية معروفة ظلت تردد تهمة الكراهية في مرحلة ما بعد هجمات 16 ماي الهمجية، وربط التقرير حزب العدالة والتنمية في سياق معين بتلك التهمة. فكيف جاء ذلك؟ وفي أي سياق يأتي؟ وما مصداقية فحوى التقرير؟ موقف إيجابي من الحرية الدينية، لكن... ذكر التقرير -رقم خمسة في سلسلة التقارير التي تصدر من هذا النوع عن الخارجية الأمريكية في أعقاب تدشين الرئيس الأمريكي السابق كلينتون عام 1998 لإدارة جديدة للشؤون الدينية في الخارجية الأمريكية- بمكانة الحرية الدينية التي يضمنها الدستور المغربي، الذي يقر حسب ما يشير التقرير، بأن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للبلاد، وجهود الدولة المغربية وحكومتها في الاستمرار في حفظ ممارسة هذا الحق لغير المسلمين خلال المدة التي يغطيها التقرير، غير أنه أشار إلى عمل الحكومة على وضع بعض القيود على مواد دينية مسيحية وتبشيرية، بالإضافة إلى السماح لعدد من الأقليات الدينية مع قيود رسمية بدرجات مختلفة. وتحدث تقرير الخارجية الأمريكية في موضع آخر عن الفصل220 المجرم لأي عمل يرمي إلى زعزعة عقيدة المسلم، وقال بصراحة إن عمل المبشرين الأجانب يتكيف مع هذا الفصل بقصر جهودهم في أوساط غير المسلمين أو التحرك بعملهم التبشيري (بطبيعة الحال في أوساط المسلمين) بشكل غير مثير. وفي سياق الحديث عن التوزيع السكاني للمغاربة حسب العقيدة، حدد التقرير عدد اليهود والمسيحيين في 10000 فرد، بنسب متساوية. بيد أن التقرير ذهب إلى القول إن عدد المسيحييين القاطنيين بالمغرب قد يصل 25000 من المسيحيين، أي إنه يفوق العدد المصرح به ألا وهو .5000 وحدد عدد البهائيين في ما بين 350 و400 فرد!!. وفي إطار الحديث عن الجهود العامة للدولة لمحاربة الأمية بما يؤهل الأرضية لنشر ثقافة التسامح، تكلم التقرير عن القدرات المالية والبشرية التي رصدت لتلك الجهود، وبموازاة ذلك أشار إلى الميزانية السنوية المخصصة للإرشاد الديني في المدارس العامة الخاصة باليهود، وكذا تمويل الحكومة لعدد من الجهود لدراسة التراث الثقافي والفني والأدبي والعلمي لليهود المغاربة، ومن ضمن ذلك خلقها كرسي علمي بجامعة الرباط لدراسة مقارنة الأديان، ومنها دراسة اللغتين اللاتينية والعبرية. وأما عن البهائيين، فقد قارن التقرير وضعهم السابق بوضعهم الحالي، فقال إنه ليست هناك تقارير تفيد بوقوع مضايقات كانت تقع من وزارة الداخلية من قبل. وفي ما يتعلق بتنزيل القانون من خلال المحاكم سواء تلك الخاصة بالمسلمين أو تلك الخاصة باليهود، امتدح التقرير بشكل غير مباشر حقيقة أن لا شيء من النص القرآني المرتبط بالشريعة الإسلامية في ما يخص الأحوال الشخصية يطبق على غير المسلمين وغير اليهود. إقحام حزب العدالة والتنمية في سياق الكراهية إذا كان هذا التقرير يمضي، وفق رؤية الخارجية الأمريكية، في طريق الحوار من أجل تشجيع ثقافة التسامح الديني، لماذا تروج المغالطات من صنف وعيار تلك التي ربطت، في التقرير، عند الكلام عن حالة الأمن واللأ من التي يعيشها يهود المغرب في كل أرجاء البلاد، بين الإمام والخطيب الأستاذ عبد الباري الزمزمي وحزب العدالة والتنمية، إذ اعتبر التقرير الشيخ مرتبطا بالحزب ومنتسبا له، على اعتبار أن الحزب معروف كحزب إسلامي وأن تصريحات عبدالباري الزمزمي بخصوص اليهود في عمومها هي معادية للسامية. ومعلوم أن الشيخ ليس عضوا في العدالة والتنمية ولا في الحركة (حركة التوحيد والإصلاح) التي تدعمه (أي الحزب)، ومعلوم أيضا أن الشيخ عبد الباري الزمزمي شرح مواقفه أمام السلطات المختصة عندما استدعته للتحقيق في الأمر، حيث نفى التهم الموجهة إليه، والتي لم يُتابع بأي منها. وفي هذا المنحى استمر التقرير يذكر بهجمات 16 ماي الإجرامية والأماكن التي استهدفها، ومنها أماكن تعود لليهود (كالمقبرة)، والتعزيزات الأمنية الجارية لحد الآن في الأماكن التي تخص اليهود المغاربة. فما هي أهداف هذا الربط بين العدالة والتنمية من خلال حكاية الأستاذ عبدالباري الزمزمي بتهمة معادة السامية، في السياق المذكور؟ ثم، أولا أو أخيرا، ما حجم مصداقية حديث الولاياتالمتحدة عن وضع الحرية الدينية، كتمثّل للكرامة البشرية، في المغرب والعالم؟ عار غواتانامو عمق الانقسامات بين أصحاب العقائد لقد تزامن صدور تقرير الخارجية الأمريكية مع صدور تقرير منظمة العفو الدولي السنوي، والذي أكد ازدواجية المعايير عند الولاياتالمتحدة في قضايا أساسية تتعلق بحقوق الإنسان، وهي حقيقة تأكدت على لسان مندوبة منظمة هيومان رايتس ووتش لدى الأممالمتحدة جوانا ويشلر بقولها إن الولاياتالمتحدة تتعرض لانتقادات واسعة من قبل الدول الغربية والدول النامية بسبب ازدواجية المعاييرفي الكثير من القضايا. وقد وجهت منظمة العفو أعنف انتقادات لسياسات الإدارة الأميركية، وقالت إن محاولة القضاء على ما يسمى الإرهاب في أعقاب هجمات 11 شتنبر2001 جاءت بنتائج عكسية، عمقت الانقسامات بين الشعوب من أصحاب العقائد والأصول المختلفة، وغرست بذور المزيد من النزاع. فالذي يقع باسم أمريكا لمسلمين حُوّلوا إلى معتقلات غواتانامو وفي غير تلك المعتقلات، لمجرد الشك فيهم ولأن الضربة الاستباقية قضت بذلك، لم يكن ذلك إلا بسبب عقيدتهم. فأمريكا تواصل عدم الاعتراف بحقوق المسلمين الذين اعتقلهم بحجة الحرب على الإرهاب في أفغانستان أيام الحرب عليها، وخارج أفغانستان، ولا يزال منهم حوالي 600 معتقل في معسكر بالقاعدة البحرية الأمريكية في غوانتانامو في كوبا في ظروف جد سيئة ومهينة، في أقفاص عارية دون توجيه اتهامات لهم ودون تقديمهم للمحاكمة، ودون الاعتراف بهم كأسرى حرب أو منحهم أية حقوق استناداً للقانون الدولي. فأين كلام السفير المتجول للحرية الدينية الدولية بالخارجية الأمريكية جون هانفورد السنة الماضية من هذا، لدى حديثه عن أهداف إدارته من وراء تلك التقارير السنوية، أن جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوون في الكرامة والحقوق؟ وما مصداقية تقرير الإدارة الأمريكية حول الحرية الدينية في المغرب، البلد الذي كان آمنا، حتى هب عليه وسواس الإرهاب. أليست الولاياتالمتحدة هي التي دفعت دولا كثيرة للانخراط في حملات على الإرهاب على حساب حقوق البشر وضدا على قانون حقوق الانسان الدولي، وكان المستهدف هو المسلم، لأن مبدأ الحملة والضربة الوقائية لن يفرق بين الجاني والبريء؟ الحملة على المؤسسات الإسلامية الخيرية ثم ألا تدخل الحملة التي استهدفت المؤسسات الخيرية الإسلامية دون غيرها في أمريكا أو بطلب منها خارج حدود أمريكا، في باب العدوان على الحرية عند أصحاب عقيدة، ما دامت الحملة لا تميز من الكل إلا صفة إسلامية؟ والجميع يعلم الممارسات المجحفة بحق تلك المؤسسات، كالإغلاق أو تجميد الأرصدة أو المصادرة أو التشهير أو الاتهام. بل وصل الأمر بعد إخفاق محاولات إيقاف أو تجميد بعض المؤسسات بحجة دعم الإرهاب إلى إغلاقها لأسباب أخرى، فالإغلاق هو الهدف والسبب يسهل تدبيره، كما حدث لمكتب مؤسسة الحرمين في البوسنة والهرسك، فقد جرت محاولات الإقفال لمكتبها هناك بدعوى دعمها للإرهاب، وبعد الإخفاق في إدانتها بهذه التهمة، أغلق المكتب أخيراً بسبب توظيف أجانب من دون ترخيص. وكذلك ما حدث في مصر في رمضان المنصرم الموافق نونبر من عام 2002م، حيث طالب السفير الأمريكي بإغلاق خمس وعشرين جمعية دينية محلية دفعة واحدة، وبعد خمسة عشر شهراً من أحداث تفجير الحادي عشر من شتنبر وذلك بتهمة الاشتباه في علاقتها بتنظيم القاعدة! والسبب الحقيقي، حسب الملاحظين، أن تلك الجمعيات لعبت دوراً قوياً في تفعيل المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الأمريكية، أو لأنها تقوم بما تقوم به هيئات مساعدات دولية لفائدة الشعب الفلسطيني. ومن جملة المؤسسات التي مستها الحملة الأمريكية في الداخل الأمريكي، مؤسسة الأرض المقدسة للإغاثة والتنمية Holy Land Foundation في ريتشارديسون بولاية تكساس وفروعها في كاليفورنيا ونيوجريسي وألينيوي، وإهي أكبر مؤسسة إسلامية على الساحة الأمريكية تقوم بدعم المحتاجين في فلسطين مع تجميد ممتلكاتها، وحدث مثل ذلك لمؤسسة النجدة الإسلامية Global Relief Foundation ولنفس الأسباب، كما انتقلت الحملة إلى فلسطين حيث تم إقفال مجموعتي التمويل وهما (بنك الأقصى العالمي، ومجموعة بيت المال الاستثمارية)، وتبع ذلك إقفال بعض المؤسسات المعنية بدعم الفلسطينيين في أوروبا وغيرها مثل ما حدث ل (جمعية الأقصى الخيرية) في آخن بألمانيا، وأصبح بذلك أكثر من 60% من الشعب الفلسطيني تحت خط الفقر بسبب الحصار العالمي على المؤسسات الخيرية المعنية بالشعب الفلسطيني، كما تشير إلى ذلك بعض التقارير الرسمية والأهلية. مرة أخرى نتساءل هنا، أليس هذا مناقضا ومخالفا لما تتغني به الخارجية الأمريكية من خلال دعوة إدارتها في شؤون الحرية الدينية إلى حفظ حرية أهل العقائد والأديان الأخرى. فمن الأولى بأن يرصد ويتكلم عن اضطهاد الحريات الدينية من يحفظها أم من يضيعها؟ حرية العقيدة أم الفوضى الدينية؟ من جهة أخرى، عندما نتحدث، نحن والولاياتالمتحدة، عن الإرهاب والحرب على الإرهاب نرجع جذور ذلك بالأساس إلى دخول تيارات دينية دخيلة على الإسلام، كدين يؤمن به أهله على أساس أنه عقيدة الوسطية والاعتدال، لا إكراه فيه، ويضمن لأصحاب الديانات الأخرى حرياتهم، ويطالبهم بواجباتهم في إطار الوطن والواجب الوطني، دون السماح بخلق فوضى دينية تشجع استنبات عقائد مستوردة لا لقناعات عند أهلها وإنما لأغراض مفضوحة، ترمي إلى بلقنة الخريطة الدينية وزرع مزيد من بذور الشقاق. فكيف يتناسى تقرير الخارجية الأمريكية كل هذا ويعتمد رؤية أمريكية وحالة دولة علمانية كالولاياتالمتحدة أو الغرب عموما في الحديث عن حق التبشير مثلا وما أسماه عمل الحكومة في وضع بعض القيود على مواد دينية مسيحية وتبشيرية. ضمن الفقرة الخاصة بالموقف المجتمعي، وهي الجزء الثالث من تقرير الحرية الدينية ,2003 أشار تقرير إدارة الشؤون الدينية الأمريكية في ما يتعلق بالمتحولين من المغاربة إلى المسيحية ، إلى مشاعر النبذ التي يتعرضون لها من طرف المجتمع، وهي الحالة نفسها التي تعاني منها المجموعة الصغيرة من البهائيين الذين يراهم المجتمع كمارقيين من الدين وفق ما جاء في التقرير. ومعروف أن طائفة البهائيين تقوم على أسس منحرفة، فهي حركة نشأت سنة 1844 برعاية من الاستعمار الروسي والصهيونية العالمية والاستعمار الإنجليزي، وذلك بهدف إفساد العقيدة الإسلامية وتفكيك وحدة المسلمين وصرفهم عن قضاياهم الأساسية. وقد أسس البهائية المراز محمد رضا الشيرازي، وأعلن أنه الباب سنة ,1260 ويعتقد البهائيون أن الباب هو الذي خلق كل شيء بكلمته، ويقولون بالتناسخ وخلود الكائنات، ويقولون بنبوة بوذا وكنفوشيوس وزرادشت، ويوافقون القول بصلب المسيح، وينكرون معجزات الأنبياء، وحقيقة الملائكة والجن، كما ينكرون الجنة والنار، ويحرمون الحجاب على المرأة، ويقولون إن دين الباب ناسخ لدين محمد صلى الله عليه وسلم. فما هي الدوافع وراء الحديث عن حرية استنبات عقائد غريبة على الشعب المغربي والتلويح بضرورة حق السماح بامتدادها ورعاية هذا الحق وخلطه بحق احترام العقائد؟ خاتمة نؤكد أخيرا وليس آخرا خطورة المغالطة التي جاءت تربط بين حزب العدالة والتنمية ومن ورائه الحركة الإسلامية بتهمة معادة السامية، في سياق تناول آفة الإرهاب، رغم أن الإسلام وأهل عقيدة الإٌسلام هم الذين ضمنوا لليهود حريتهم وحقوقهم، وباعتراف شرفائهم وأحرارهم حتى يومنا هذا، ثم ما الدوافع الكامنة وراء ذلك، وما مصداقية التقرير خاصة إذا علمنا أنه اعتمد ما يكتب في تقارير بعض الصحف المسماة وطنية والتي تحمل عداء لحزب العدالة والتنمية والحركة الإسلامية؟ ثم نؤكد بناء على ذلك أن الولاياتالمتحدة لن يستقيم لها كلام عن الحرية الدينية وحقوق الإنسان والكرامة البشرية في المغرب وغير المغرب ما دامت سياساتها تتناقض تجاه قضايا المسلمين كلها. عبدالرحمان الهرتازي