صدر أخيرا تقرير الحرية الدينية السابع الذي دأبت الخارجية الأمريكية على وضعه سنويا لترتيب البلدان بحسب درجة الحريات الدينية الموجودة فيها، وفق رؤية كتابة الدولة الأمريكية في الخارجية، والذي يعتبر في ذات الوقت بمثابةلائحة سوداء بالدول التي تتهمها الإدارة الأمريكية بخرق الحريات الدينية وتستصدر بالموازاة معها لائحة شرف بالبلدان التي تحترم هذه الحريات، ومن هذه الزاوية فإن تقرير الحرية الدينية لا يتميز كثيرا عن التقارير الأمريكية الأخرى مثل تقارير الإرهاب في العالم التي تضع فيه الإدارة الأمريكية سنويا قائمة بالدول الأقل أمنا والدول الأكثر دعما للإرهاب. ويوضع تقرير الحرية الدينية بناء على معلومات تستقيها لجنة مكونة من أعضاء يعينهم الرئيس والكونغريس الأمريكيان. تقرير الحرية الدينية الجديد للعام الجاري، الذي عمم يوم 9 نوفمبر الحالي، ينتقد أوضاع الحريات الدينية في ثماني دول هي: المملكة العربية السعودية والسودان والصين وبرمانيا وكوبا وكوريا الجنوبية وفيتنام وإريتيريا وإيران، حيث اتهم التقرير حكوماتها بمعاداة ديانات الأقليات أو الديانات غير المسموح بها، وهذه البلدان تظل مهددة بفرض عقوبات على حكوماتها بعد 180 يوما من صدور التقرير في حال لم تبادر إلى إصلاح أوضاعها ذات الارتباط بقضية الحريات الدينية. ولوحظ أن التقرير الجديد أسقط ثلاث دول كانت في العام الماضي ضمنالقائمة السوداء، هي الباكستان وأوزبكستان وتركمانستان. حسابات سياسية المتأمل في التقرير لا يمكن أن يستبعد من ذهنه بعض الاستفهامات وعلامات التعجب التي قد تنتصب أمامه لدى كل فقرة من فقرات التقرير. إذ لا شك أن تقرير الحريات الدينية أصبح منذ إصداره الأول قبل سبع سنوات بمثابة وسيلة ابتزاز بيد الإدارة الأمريكية اتجاه البلدان العربية والإسلامية على وجه الخصوص، والتحق بنظيره الآخر الخاص بحقوق الإنسان في العالم الذي دأبت الخارجية الأمريكية على إخراجه كل عام لوضع قوائم بالدول التي تحظى بالرضا الأمريكي وتمييزها عن تلك التي تنصب عليها لعنة الإدارة الأمريكية، حتى بتنا حيال حكومة موازية للحكومات في العالم، أو منظمة دولية فوق منظمة الأممالمتحدة. ومن المعروف أن التقارير التي تصدرها الخارجية الأمريكية هي عبارة عن تجميع للمعلومات التي تتلقاها من مصادر عدة، تبدأ من المنظمات غير الحكومية المحلية وتقارير الحكومات وتنتهي عند القنوات الاستخبارية التي يسيطر عليها في الغالب الأعم هاجس الأمن أو تصفية الحسابات أو رغبة التوريط السياسي لبعض الأنظمة المحلية لانتزاع مواقف مقابلة، ومن تم يمكن وصف هذه التقارير بأنها جزء منلعبة الأمم التي تنهجها الولاياتالمتحدةالأمريكية، خاصة في مرحلة ما بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001, حيث يصح القول بأن الاستراتيجية الخارجية الأمريكية قد أحدتث انقلابا دراماتيكيا في طبيعة تعاطيها مع الشأن الدولي، وأدخلت جرعة كبرى من الاهتمام بالشأن الديني والثقافي في المحيط العربي والإسلامي غير مسبوقة. وكنموذج لتصفية الحسابات على الصعيد الدولي يمكن هنا الاستدلال بما ورد في التقرير مثلا عن فرنساوبلجيكا. فقد انتقد التقرير الأولى بسبب عدم إقدام الحكومة على إلغاء لائحة باسم 189 فرقة دينية أو صرعة كان البرلمان البلجيكي قد صادق عليها عام 1997, واتهم فرنسا بكونها لا تتسامح مع بعض الملل والفرق الدينية(الصرعات الاجتماعية) الصغيرة منذ صدور قانون أبوت بيكار عام 2001 الذي يدعو إلى حل هذه الفرق، مع أن القانون المشار إليه صودق عليه داخل البرلمان الفرنسي بالغالبية، وهي مفارقة عجيبة في التقاليد الأمريكية، لأن المشروعية الديمقراطية في هذه الحالة يتوجب التضحية بها. ولو أننا شئنا البحث عن تفسير مقنع لهذا النقد الأمريكي القوي الموجه للبلدين الأوروبيين المشار إليهما، لوجدنا جذوره في سياسات كل من بروكسيل وباريس. ففي بلجيكا أثيرت في العام الماضي قضية محاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون ووزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر بسبب الجرائم ضد الإنسانية، أما باريس فقد كانت إحدى أكثر البلدان الأوروبية التي واجهت الإدارة الأمريكية داخل أروقة الأممالمتحدة في موضوع الحرب ضد العراق عام 2003, وتزعمت مع ألمانيا جبهة أوروبية لتقوية النفوذ الأوروبي في وجه النفوذ الأمريكي المتزايد، وكانت قبل أسابيع قليلة أكثر الدول الأوروبية التي وقفت في وجه محاولة الهيمنة الثقافية الأمريكية داخل منظمة اليونسكو رافعة شعار التعددية الثقافية أو مبدأالاستثناء الثقافي. ومن هنا ليس من المنطق أن نستبعد من أذهاننا حضور هاجس تصفية الحسابات بين القوى الكبرى على مستوى موضوع الحريات الدينية، مع ضرورة التنبيه إلى أن الاتحاد الأوروبي قد سن هو الآخر تقليد وضع تقارير حول الحريات الدينية وحقوق الإنسان في العالم، وهو ما قد يتحول في يوم ما إلى مشهد كاريكاتوري، حيث تتكاثر التقارير الصادرة عن الجهات التي تلوم فيها كل جهة الجهة الأخرى وتبرئ نفسها، في سلسلة مضحكة وغير متناهية. المغرب: إعادة هيكلة الحقل الديني وبخصوص المغرب، أكد تقرير الحريات الدينية أن عدد اليهود المقيمين به يناهز خمسة آلاف يتركزون بالخصوص في الدارالبيضاء والرباط، وقدر عدد المسيحيين الممارسين لطقوس دياناتهم، كاثوليكا وبروتيستانت، بنفس الحجم، فيما قدر عدد المسيحيين بشكل عام بنحو 25 ألفا، أما البهائيون الموجودون في المغرب فقد قدر التقرير حجمهم بين 350 و400 شخصا. وقال التقرير إن المغرب يواصل تشجيع قيم التسامح والاحترام المتبادل والحوار بين الأديان، وأن الدستور المغربي يضمن للجميع حرية ممارسة الشعائر، مشيرا إلى أن الأجانب يحضرون إلى مراكزهم الدينية من دون أي قيد أو خوف، وأن روابط الصداقة القائمة بين مختلف الديانات داخل المجتمع المغربي تساهم في ترسيخ مناخ الحرية الدينية الذي تعرفه البلاد، مستدلا في هذا الصدد بمهرجان الموسيقى الروحية الذي يقام بمدينة فاس كل عام بحضور مسلمين ويهود ومسيحيين وبوذيين وهندوس وأتباع الطوائف الأخرى في العالم، وإحداث مرصد دولي للديانات بالمغرب، وهو هيئة تضم باحثين دوليين وتهدف إلى ترسيخ التسامح والتفاهم بين الديانات، والدروس الدينية التي تقم كل شهر رمضان أمام جلالة الملك وتتطرق لعدد من المواضيع، من بينها سبل تعزيز التسامح والاحترام المتبادل بين المسلمين وبين الإسلام وباقي الديانات، مبرزا أن امرأة ألقت، للعام الثاني على التوالي، أحد هذه الدروس، مذكرا كذلك بأن امرأة توجد بين أعضاء المجلس الأعلى للعلماء . كما ذكر التقريرأن المغرب احتضن خلال شهر أبريل من هذا العام الحوار الإسلامي اليهودي (اجتماع للجنة الدائمة اليهودية الإسلامية المحدثة عقب المؤتمر العالمي الأول للأئمة والحاخامات من أجل السلام المنعقد في يناير الماضي ببروكسيل)، موضحا بأن المغرب هو البلد العربي الوحيد الذي يتوفر على متحف يهودي . وأكد التقرير أن الدولة المغربية تقدم تسهيلات ضريبية وتسهيلات أخرى بالنسبة للأنشطة الدينية، وأشار إلى الجهود التي يبذلها المغرب من أجل الدفاع عن الإسلام المعتدل، بإعلان الملك محمد السادس، كأعلى سلطة دينية في البلاد، عن مشاريع لإعادة هيكلة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بهدف إعطاء دفعة للحقل الديني ووقاية المملكة من التطرف الديني، خلال شهر أبريل2004. وفي إطار الإشارة إلى التسامح الذي يبديه المغرب حيال الأقليات الدينية، أشاد التقرير بالحرية التي تتحرك في إطارها جمعية مسيحية أجنبية لمزاولة نشاطاتها في مجالات التطبيب والخدمات الاجتماعية والمدارسبدون قيود حكومية، لكنه أشار إلى إقدام السلطات المغربية في ماي 2004 باعتقال سبعة مبشرين مسيحيين لساعات قبل إطلاق سراحهم فيما بعد، وطرد أحد المبشرين المنحدرين من جنوب إفريقيا من مدينة مراكش، وطرح سؤال من طرف نائب استقلالي بمجلس النواب حول تنظيم مهرجان للموسيقى المسيحية بمراكش بناء على تقارير صحافية منشورة في التجديد ولوجورنال. حق يراد به باطل من المؤكد أن تقرير الحريات الدينية الأمريكي تحكمه في البدء والختام الحسابات السياسية الخاصة بالإدارة الأمريكية. إنه تقرير سنوي مليئ بالمغالطات وحالات التحيز والتواطؤ ولي عنق الحقائق بقصد التضييق على بعض الأنظمة أو تشجيع أخرى على التقدم في خطواتها أكثر، والهدف من وراء ذلك كله هو حشر هذه البلدان في المنظور الأمريكي لمفهوم الحرية الدينية، وإكراهها على استيرادالعين الأمريكية العوراء لتحديد الزوايا ومناطق الظل والظلمة. وإذا علمنا أن المشرف على التقرير، وهو السفير الأمريكي المتجول هانوفر، يقوم بالإدلاء بشهادته في الموضوع أمام الكونغرس الأمريكي، نكون هنا أمام حقائق سياسية واضحة، بمعنى أن التقرير يظل مرشحا ليكون منطلقا لاستصدار عقوبات معينة ضد البلدان التي يضعها التقرير ضمن القائمة السوداء، وبالتالي تسويغ اللجوء إلى استعمال عصا القانون الدولي أو الأمريكي. غير أن ما يلاحظ، سواء من صيغة التقرير ومنهجيته أوالفلسفة الكامنة خلفه، هو أن الأهداف الأمريكية غير محدودة بسقف ضمان ما يدعوه التقرير بالحريات الدينية وهي حق يراد به باطل في التقرير بل هناك غايات أوسع تمتد إلى تمييع المجال الديني في العالم العربي والإسلامي، والعودة إلى السياسات الاستعمارية الفرنسية والبريطانية في المشرق والمغرب العربيين في النصف الأول من القرن الماضي، سياسات التفرقة الداخلية وبث النعرات الطائفية وتوظيف الأقليات الدينية لأهداف استعمارية، وضرب مقومات الوحدة المذهبية لكل بلد بما يصب في النهاية في قناة تكريس الهيمنة الأمريكية وفتح الثقوب في جدار الوحدة الوطنية يتسلل منها الاستعمار الجديد المقنع.