إذا استعرنا من الخيال برهة، وقف فيها كل شخوص أموات مقبرة الشهداء، واصطفوا أمامنا بلباس زمانهم وثقافة محيطهم وطابع مجالهم ، لوقفنا مشدوهين أمام ملحمة من تاريخ الأمجاد، ضاربة في التنوع والعمق، مختلفة في مكوناتها، موحدة في هويتها ، مكتملة في ألوانها ، متناسقة متناغمة مع غنى وطن، عسكريون ومثقفون، فنانون وعلماء، أشراف وأعلام، مؤرخون وبناة حمى وطن ودين، رجالات دولة، وشهداء تدافع وحرب حدود وسيادة، ورجال حل وعقد وقيادة، وصناع مجد ونجاح وريادة.. وإذا جاز أن نسمي المقابر معالم من تاريخ الأمم، نقول إن مقبرة الشهداء معلمة تاريخية شاهدة وشهادة على ملحمة وطن صنعها أموات تآخوا سواسية تحت الأرض، وإن اختلفت بياناتهم وتنوعت مقاماتهم فوق الأرض. وكما تطعّم المقبرة التاريخ شهودا، تتقاطع مع الحاضر فعلا وتفاعلا ، تقتطع من العاصمة الإدارية للمملكة موقعا استرتيجيا، وتمتد على اتساع هضبة "العرض" بين حي المحيط وقصبة الأوداية والمدينة القديمة للرباط، وتطل على المحيط الأطلسي شامخة، وكأنها ترقب حدود المدينة وتحميها من شر قادم من المجهول، تماما كما اشتغل جيرانها مجاهدوا قصبة الاوداية قديما بمراقبة البحر وحماية الحدود. تفتح "الشهداء" ذراعيها عبر أبوابها المتعددة للأحياء قبل الأموات، في تعايش تمتزج فيه رهبة الموت برغبة العيش، وتشكل مركز رزق لغرباء وعابري سبيل ومشردين ، وملاذا للفارين والعابثين، وتزدهر بحواشيها تجارة وبيع وتسول، وتعاني في أجزاء منها من إهمال و تسيب، وتشكو كما مقابر الوطن من اكتظاظ ودفن بالممرات، يغيب عنها الأمن، وتفتقر للمرافق وتدنس في نكران. بمقبرة الشهداء يمتزج جلال الموت وقوته برهبة المكان، ويختلط الدمع وألم فقد القريب بالعبرة والسؤال ، وتقدم المقبرة لزائرها دروسا للحياة بنهاية الحل والترحال، وتهمس له "كن ما تشاء، هنا مكانك وهنا المآل". تاريخ وشهرة إلى جانب عدة مقابروأضرحة تأوي الموتى بالرباط، تنتصب مقبرة "الشهداء" معلمة مميزة ، في كبرها وقدمها وامتدادها، وتعتبر "الشهداء" أشهر مقبرة بالرباط لكونها مرقدا لعدد من الشخصيات التي بصمت تاريخ المغرب الحديث بإسهامها في مختلف المجالات. ففي الجزء الموجود خلف المسجد المعروف باسم مسجد الشهداء يوجد جثمان أمير شهداء الوطن الشهيد علال بن عبد الله، الفدائي الذي قدم روحه فداء للوطن وقدم للعالم درسا في الوطنية الحقة وفي الشجاعة ، في عملية فدائية شكلت انطلاقة ثورة الملك والشعب التي أعادت الشرعية والاستقلال للمغرب، ويروى أن جثمانه استقدم لمقبرة الشهداء بعد الاستقلال ، وبمحاداته نجد قبر علال الفاسي السياسي والأديب المغربي، مؤسس حزب الاستقلال وزعيم الحركة الوطنية المغربية، وأحد أعلام الحركة الإسلامية الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين، يروى ان علال الفاسي طلب أن يوارى جثمانه بمحاداة علال ابن عبد الله، وغير بعيد عنهما يوجد قبر المختار السوسي المؤرخ والأديب والداعية والمجاهد المغربي المعروف. مقبرتان وإسمان! لا يخفى على زائر مقبرة الشهداء أن المقبرة مقبرتان ، مقبرة قديمة، وتعتبر أقدم مقبرة بالرباط ، سماها الرباطيون مقبرة "لعلو" تمتد بين قصبة الأوداية ، وشارع لعلو ، يحدها السور الموحدي وتمتد لتصل إلى حدود المحيط، وبعد أشغال التهيئة ، بقي جزء منها معزول بين مصب نهر أبي رقراق ، والممر الأرضي بالاوداية. ورغم أن هناك من يعتبر المقبرة مقبرتان منفصلتان غير أن أغلب الروايات تتفق على أنها مقبرة واحدة باسمان، ينفتح جزءها العلوي الشمالي ، على السفلي الجنوبي . وحسب ما وجدناه في موقع "علم وعمران" عن تاريخ المقبرة، "ولاشك أن أول مقبرة بالرباط هي مقبرة (لعلو) في (جبل العرض) الممتدة من قصبة المرابطين إلى سور الموحدين وقد حمل المهاجرون الأندلسيون 200 تابوت من أثاث علمائهم وأوليائهم لدفنهم بهذه المقبرة العتيقة"، ولا زال من الرباطيين ذوي الأصول الموريسكية من يفضل أن يدفن في الجزء العلوي من المقبرة المطل على قصبة الأوداية". ويروي المؤرخون أن الجزء المتواجد خارج السور الموحدي من المقبرة أحدث بعد الاستقلال في أرض حبسها المحسن "صندل" وهي ما يعرف اليوم بمقبرة الشهداء ، أو المجال الخاص "المحفوظ" المخصص لمشاهير الوطن، وهذا الجزء أيضا مر عبره شارع حديث قسم المقبرة إلى جزئين جزء ألحق به مسجد في التسعينيات من القرن الماضي ويحمل نفس إسم المقبرة، وجزء ثاني بين الشارع والسور الموحدي خلف الباب الكبير الذي يحمل إسم مقبرة "الشهداء ". بالمجال المحفوظ ترقد جثامين أعلام ومشاهير ورجالات دولة وفنانين ومؤرخين ممن بصموا التاريخ الحديث للمغرب، تمتزج عند الزائر والواقف عند قبورهم رهبة الموت، وجلال سلطانها ، وكيف تطوي تحت الثرى كل خلق الرحمان. وفي المدخل بعد الباب الكبير، تصطف قبور شهداء الحدث التاريخي الذي سمي "انقلاب الصخيرات"، وقد نصب بالمدخل على اليسار نصب تاريخي يحمل أسماءهم ويؤرخ لدفاعهم عن ثوابت الوطن ، ويخبر التاريخ وزوار المقبرة أنهم هنا ضيوف في حضرة "الشهداء ". ويقال أن هذا الجزء من المقبرة سمي بالشهداء نسبة إلى شهداء الاستعمار الذين استقدم رفاتهم وجمعوا بمجال خاص خصص حافظا لأسمائهم ومجمعا لها. ومعلوم أن الدفن بهذا المجال يحتاج إلى رخصة خاصة من الولاية على خلاف مجال "العوام". الحياة في المقبرة! في بطن أرض المقبرتين صغار وكبار رجال ونساء وامهات وعزاب وأجداد وأخوال وأعمام، اختلف عيشهم ووحدت الأرض عظامهم وطوتهم رفاة تحت الثرى. على جنبات الممرات ملائكة الرحمان صغارا يصطفون في شكل قبور بمساحات صغيرة في العرض والطول ، تصطف متوازية تخبر الزائرين ، وتطمئن قلبوهم أن لستم الوحيدين من فقد غاليا ، تحت هذه الأرض أطفال في عمر الزهور. تمتد المقبرة مجتمعة على مقربة من الأحياء السكنية "المحيط ، وباب لعلو، والمدينة القديمة ، الأوداية.." ، وهو ما يعكس ثقافة عند المغاربة تمتاز بالرغبة في القرب من أمواتهم ، فلا زال بعضهم يدفن بزوايا تحمل اسم العائلة وتوجد وسط المساكن. وحسب المجلس البلدي المكلف بتدبير مجالات المقابر بالرباط ، فإن السكان يفضلون أن تكون مقابرهم قريبة ويرفضون إبعادها عن المدار الحضاري، وهذا ما خلق أزمة اكتظاظ لا تكاد تخلو منها مقبرة بالمدينة وغيرها. وفي إطار تداخل بين الأموات والأحياء، تشكل مقبرة الشهداء فضاء يعج بالأحياء، تنتعش فيها مهن ترتبط بالموت وطقوس الموت، تبدو غير منظمة وعشوائية ، وتحيط بالمقبرة تجارة وبيع وشراء ، ويقصدها المتشردون والفارون ، وتكتظ ممراتها بالمتسولين. أمام باب المقبرة يصطف بائعو ماء زهر ورياحين، وبجوارها توجد مهن كالكتابة على الرخام ، ونقش أسماء المفقودين ، وحتى نحث زينة قبور حسب الراغبين. ما إن تطأ قدماك المقبرة حتى يحيط بك شباب من مختلف الأعمار ، يحملون الماء ويعرضون خدمات متنوعة في ظاهرها تقديم الخدمة وفي باطنها تسول واضح " باش ما قدرك الله" ومدخلهم فيه " الله يرحم المرحوم ويوسع عليه ". دعوات سخية تتلقاها وانت تعبر المقبرة ، في استرزاق على ألم الموت ، واقتناص لرهفة قلب، ورفرفة روح قد لا توجد خارج هذا الفضاء. من ضمن ما قد تصادفهم شباب من دول إفريقيا جنوب الصحراء مفتولي السواعد حلمو بفردوس الأرض، يقول "أمادو" لم أكن أتصور يوما انني سأعمل في خدمة "الأموات"، متمنيا أن تسهم بركة هذا العمل الذي يقوم به في التعجيل بملف قبول إقامته. سألناه "هل يتخذ من المقبرة ملاذا للإختباء؟"، قال "أحاول جاهدا أن أجد عملا ، وكثيرا ما يطرودننا من هنا ، لكن يوم الجمعة ، يوم بركة ، يحمل بين يديه مكنسة صغيرة ، تبدو عليه آثار التشرد والتعب ، رث الملابس ، وعرقه يتصبب ، ويقترب من زوار القبر، ينطق كلمات متقطعة من "دارجة" حفظ منها ما يلزم ليوصل للزبنون الزائر ما يريد "خالتي شي بركة"، وينحني على القبر المزار ينظفه من الشوائب والشوك وحتى الأزبال. أما "علي" الشاب الصغير القادم من مدينة سلا للعمل بالمقبرة يقول، "رزقنا مع الجواد بحال وجهكم"، يحمل الماء ويرش القبر ، ويزرع إن طلب منه خضرة فوق القبور ، وينزع الشوك وينظف ، ويساعد ويبيع الماء الذي يقول إنه يشتريه بدرهم لخمسة لتر من الشركة المكلفة بحفر القبور وبنائها، ويعيد بيعه "باللي كتاب، وحده الأدنى فيه درهمان"، حركاته متسارعة كمن يرقب كل المحيط ، تنكسر الحياة في محياه على عتبة الموت، نظراته شاردة ترقب عدد الدرهمات التي سيجود بها الزائر، يأويه الموت حين عز المعيل ، ويقتات على الحسنات حين غاب الأهل وقل البديل. من غينيا ، حلم بالمغرب منذ صغره ، قال كان حلم طفولته ان يصل للمغرب ، له ثلاثة اطفال ، وزوجة ، يحمل بيده سطل جير ، ويرقب كل شخص جاء ليزور قبر قريب، وقال إنه يعيش مع زوار المقبرة. كان جبينه يتصبب عرقا وعيناه تحملان تحد، مؤمنا بضرورة العمل لكسب لقمة العيش، قال "بحثت عن العمل بين الأحياء ولم أجده"، على العكس من الكثيرين الذين ينتشرون في المقبرة يمتهنون التسول ويدعون بالرحمة والمغفرة على الأموات، يقصدون كل زائر ويلتفون حول القبر. "الطبقية" وفي المجال الخاص المحفوظ يبدو بعض النظام بمدخل المقبرة حيث تبدو الممرات معزولة ، والقبور مصطفة ونظيفة، والممرات واسعة ، لكن ما إن تبتعد قليلا عن المدخل الرئيسي حتى يصيبك الذهول، مشردين وفارين من دوريات المصالح الاجتماعية ، وقبور منسية مهجورة ، بعضها محطم، وبعضها يبدو عليه القدم ، وبعضها تعرض للتكسير والتدنيس. أخبرنا شباب بالمقبرة أن بالمكان يحدث ما لا يخطر على بال (مخدرات، وتسيب ، وانتشال وتهديد..) خصوصا في الجزء العلوي من المقبرة من جهة الباب المنفتحة على شارع لعلو، وكان هذا الجانب قد شهد في وقت سابق عبثا بالقبور، وشوهدت به قارورات للخمر وبقايا انحلال خلقي ، وقد وصل الحد في وقت سابق إلى العبث بالجثث لأغراض مشينة. ولاحظنا عند زياراتنا المتكررة للمقبرة ، أن القبور التي يدفع أهلها مقابل العناية بها تبقى مصانة، لكن ما إن يغيب أهل الميت حتى يهمل القبر ويصبح قفارا، تتراكم فوقه الأشواك والأزبال. خدمات متنوعة لا تنفرد مقبرة الشهداء عن نظيرتها في مسألة الاكتظاظ. يقول أحد العاملين بالمقبرة هناك قبور قديمة أعيد استعمالها لمرات، وتطرح المقبرة ضيق المجال المخصص للدفن ، خصوصا أنها تعرف إقبالا إذ يصل معدل الجنازات اليومي بها حسب الحارس ، بين 4 و5 جنائز، وفي بعض الأيام تسجل أزيد 12 جنازة، ويعمل "حفار" بالمقبرة على توفير أماكن بين الممرات، وتغيب عن المقبرة المرافق الصحية ، وفي جزء كبير منها الإنارة، وتفتقر للحراسة . وقد أخبرنا حارس المقبرة أن المقبرة تشغل ثلاثة أفراد فقط، اثنين منهم كبار السن، فيما يعج المكان بمن يسترزق العيش من زوار الموتى. ويدبر مجال الحفر وبناء زينة القبور شركة خاصة تستغل الامتياز. هي من تحدد مكان القبر وسومة "القبر وطوب ولحجر ". تختلف الأثمان ولا تخضع لمعيار محدد، يحددها الحفار "الوزاني" في 350 درهم لمكان القبر ويتبع العرض بجملة "ومعانا خمسة ديال الحفارة ، وأنت وجودك"، وأحيانا كثيرة يتم حفر قبور على الممرات وتكون سومتها أكبر من الأماكن المخصصة، ويعلل الحفار هذا الفارق بقوله "حفرنا في الضس". كما أن زينة المقابر "البَنية" تختلف باختلاف اختيار المعني بالقبر بين الرخام والحجر المنقوش والطوب، وتعرض هذه الخدمة داخل المقبرة، وتتراوح أثمنتها بين 800 درهم و5 ألاف درهم.
دراسة تُعري الحالة السيئة للمقابر وسبق للمجلس الوطني لحقوق الانسان أن أصدر دراسة حول «حالة مقابر المسلمين بالمغرب» أعدها جمال بامي مدير وحدة العلم والعمران بالربابطة المحمدية أبرز من خلالها ضرورة إشراك جميع الأطراف المعنية في قضية وضعية المقابر، كما شددت على القطع مع اعتبار المقابر مجالا "ميتا" لمجرد أنه يأوي الموتى، بل دعت إلى اعتباره جزءا من المشهد العام للمدن والبوادي. وتؤكد الدراسة على الحالة السيئة للمقابر، حيث يتم الدفن في معظمها، بما فيها المتواجدة بالعاصمة الرباط، بدون نظام دقيق، كما أن العديد منها لا تتوفر على سجلات للدفن ولا على نظام حراسة، وهو ما يتطلب إشراك جميع الفرقاء من مجالس منتخبة وسلطات محلية ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للتداول في الموضوع وتحديد معايير للعناية بالمقابر والنهوض بتدبيرها، حسب الدراسة. وتداول مجلس مدينة الرباط اكثر من مرة في مشكل مقابر العاصمة بما فيها مقبرة الشهداء، وتدارسوا عدة مقترحات حتى لا يعبث بالمقابر المشردون، والسكارى وقطاع الطرق، واللصوص، ويتم احترام قدسية المكان، وحرمته، وجاء من المقترحات التعاقد مع شركات نظافة وحراسة، وكذا بناء مقبرة بمواصفات عصرية، تليق بتكريم الموتى. وطرحت عدة مقترحات بلغت لحد افتراض طريقة دفن الموتى بشكل عمودي، و الترخيص لإعادة استعمال المقابر بعد مضي ثلاثين عاما عوض الأربعين عاما المعمول بها حاليا، كما يشهد المجال كثرة المتدخلين ، حسب دراسة مجلس حقوق الانسان .