في الثامن عشر من شهر نونبر من كل عام نحتفل بعيد الاستقلال. عيد يعيد ذاكرتنا إلى أيام الاستعمار ولياليه السوداء، لننظر من جديد إلى مشاهد الاحتلال ومراحله المتتالية وأسبابه وشروطه، وموقع ذاتنا وأحوالنا وثقافتنا وأنظمتنا في العملية الاستعمارية كلها، وكيف احتل ذلك موقع الصدارة في السقوط والخضوع لإرادة الغربي الأجنبي. ثم ما تلى ذلك من مقاومة وحرب تحرير شاملة، توجت بعودة الملك محمد الخامس رحمه الله رفقة عائلته من المنفى إلى أرض الوطن، وحصول المغرب على استقلال تم في مفاوضات لا تزال موضوع دراسة ومراجعة، عام 1955. في التاريخ القريب والبعيد دروس وخلاصات لا تنتهي للأجيال اللاحقة، ولقد كان في قصص الاستعمار والدول الخاضعة عبرة لأولى الألباب، وما كان لنا أن نقرأها دون أن نتذكر ونعتبر، ولعل في عيد الاستقلال مناسبة لذلك لا تتكرر إلا مرة في السنة. فكما أن الاستعمار لم يستكمل هيمنته وسيطرته إلا بعد عقود وقرون، ولم تطأ أقدامه العسكرية النجسة أرضنا وديارنا ولم تلمس أيديه الطائشة أموالنا وأبناءنا ونساءنا إلا بعد هوان وفراغ وضعف فينا ومنا، كذلك الاستقلال الكامل التام، لن نذوق طعمه وحلاوته إلا بعد زمن قد يطول ويمتد، وبعد استرجاع القوة والعزة والكرامة الذاتية. ما أشبه الليلة بالبارحة، ففي كل مرة يريد فيها الغزاة وضع يدهم على مقاليد الأمور، واغتصاب التراب والتراث والإنسان، فإنهم يفتعلون لذلك سببا مباشرا قريبا، بعد أسباب بعيدة وقريبة متراكمة. ويوم أرادت فرنسا افتتاح مشروعها التوسعي بأرض الجزائر الشقيقة، دخل القنصل الفرنسي "دوفال" على داي الجزائر التابع للدولة التركية يهنئه بعيد الفطر في أول شوال 1243/30 أبريل 1827، وحدثه عن خطاب وجهه إلى عاهل فرنسا دون أن يتلقى ردا، فأجابه القنصل بأن ملك فرنسا لا يجيب من دونه إلا بواسطة دبلوماسية. فأغضب ذلك الداي الذي لطمه بمروحية كانت في يده، وطالبت الحكومة الفرنسية بأن يقدم الداي اعتذاره، ورفض هو الاعتذار، وغادر القنصل الفرنسي، التراب الجزائري، ومعه الجالية الفرنسية، ثم بدأت فرنسا على الفور تهيئ لغزو الجزائر، حتى دخلتها يوم 13 محرم 1346 موافق 5 يوليوز 1830. انطلاقا من مبدإ التناصر والتضامن والتداعي الإسلامي فإن استعمار فرنسا للجزائر كان في الوقت ذاته للمغرب ولتونس ولكافة الأقطار العربية الإسلامية، وبالفعل تساقطت الدول الباقية تحت سنابك خيلها ورجالها الغاصبين، وأكلنا يوم أكل الثور الأبيض ومانزال.. فالغزاة الفرنسيون لم يستعمروا المغرب الأقصى عام 1912، ولكنهم دخلوه يوم دخلوا الجزائر عام 1938. ودخولهم للمغرب العربي الكبير لم يكن عابرا، وإنما تفتحت شهيتهم لالتهامه أبد الآبدين. هكذا كانوا يخططون ويظنون. ثم قامت المقاومة.. واشتعلت وامتدت في المدن والقرى.. وسلك الاستعمار مسالك شتى لإيقافها وإجهاضها والتحايل عليها، ولإفراغها من محتواها بعمل سياسي هجين. ولما أدرك ألا مقام لجنده الظالمين، آثر إخراجهم، وتعويضهم بجنود أخفياء آخرين، وبمستعمرات أخرى ما تزال تقوم بعملها المرسوم لها، ألا وهو الإلحاق الثقافي والاقتصادي والإعلامي والفني.. ودخل بعد ذلك في المنافسة علينا وعلى ميراثنا آخرون على رأسهم الصهاينة والولايات المتحدةالأمريكية. وسلكوا في ذلك مسالك شتى. ويوم نستكمل الاستقلال بإبداع ذاتي خالص، مستلهم من تاريخنا وحاضرنا نصنع به قوتنا وذاتنا ومستقبلنا، ويوم تغلق المستوطنات الثقافية المبثوثة بين ظهرانينا، ويوم يتعامل معنا الآخرون تعامل الأنداد، يحق لنا أن نجعل ذلك اليوم عيدا لأولنا ولآخرنا، وآية من الله، تعيد لنا عزتنا وكرامتنا وشهادتنا على الدنيا والناس. حسن السرات