تخوض الحكومة السودانية هذه الأيام مفاوضات عسيرة مع المنشقين المسيحيين من أبناء الجنوب السوداني، وهي مفاوضات لجأت إليها الحكومة مضطرة غير مختارة، لأنها لم تجد سبيلا إلى السيطرة على الوضع في الجنوب المسيحي والقضاء على حرب الاستنزاف التي يشنها أبناء الجنوب على الحكومة المركزية وجيشها وشعبها منذ عشرين سنة أو تزيد إلا بإعلان الهدنة والدعوة إلى التفاوض مع المنشقين، وهي دعوة بادر إليها من قبل مرشد الثورة السودانية الشيخ حسن الترابي، فأصابه من جرائها ما أصابه من طلبته وبني فكره، ثم لم يجدوا بعد استبعاده من قيادة الدولة ووضعه في السجن بديلا من السير في نفس الطريق الذي أراد أن يسير فيه، وذلك لأن المنشقين المسيحيين يجدون سندا ومددا لا ينقطع من إخوانهم في إفريقيا وفي العالم المسيحي كله وعلى رأسه أم الدنيا في هذا العصر الولاياتالمتحدةالأمريكية التي وجهت في الأسبوع الماضي تحذيرا إلى الحكومة السودانية تدعوها إلى المفاوضات (بنية طيبة) مع المنشقين وإلا أنزلت بها عقوبات اقتصادية وعسكرية... الخ. الأقليات المسيحية قنبلة موقوتة بالدول الاسلامية عانت نيجيريا الدولة الإسلامية الكبرى في إفريقيا من نفس المشكل خلال السبعينات حيث كان إقليم البيافرا المسيحي يطالب بالانفصال عن الدولة، وأشعل من أجل ذلك حربا على الحكومة النيجيرية استغرقت عدة سنوات، وكان الغرب كله يساند المنشقين في نيجيريا بالمال والإعلام والإيواء، ومصر هي الأخرى يوجعها نوع من هذا الإشكال، حيث يشكل الأقباط فيها أقلية مسيحية تعتبر نقطة ضعف في السياسة المصرية، فهي بمنزلة قنبلة موقوتة بين ظهراني الشعب المصري يحركها الغرب متى دعت حاجته إلى تحريكها أو إثارتها ليزعج الحكومة المصرية ويتحكم في سياستها الداخلية أو الخارجية، تحت قناع الدفاع عن حقوق الأقلية المسيحية وحمايتها من الظلم والاضطهاد. وهكذا تتخذ دول الطغيان من الأقليات المسيحية في مختلف البلاد الإسلامية مطية تستعلي بها على من تشاء من الدول الإسلامية، وتتدخل بسببها في شؤونها الداخلية وتملي عليها إرادتها في سياستها الخارجية، وإن خرجت عن الطاعة والامتثال لما يراد منها، أقامت عليها الدنيا واستعدت عليها الأممالمتحدة ومجلس الأمن ليصدر في النهاية قرارا بإنزال العقوبات الدولية بالبلد الذي يضطهد الأقلية المسيحية ولا يحترم (حقوق الإنسان) ولم يغب عن الأذهان بعد ما حل بأندونيسيا من فصل تيمور الشرقية عن البلاد وهي قطعة من أندونيسيا، لكن سكان المنطقة المسيحيين طالبوا بالانفصال عن وطنهم أندونيسيا فوقف الغرب إلى جانبهم فكان لهم ما أرادوا وانفصلت تيمور الشرقية عن أندونيسيا وصارت دولة مستقلة ولم يجاوز عدد سكانها نصف مليون، بينما يبلغ سكان أندونيسيا أكثر من مائة مليون نسمة. المغرب المسلم وورقة التنصير والمغرب ليس بآمن من التردي في هذا الوضع، فقد لا يمضي وقت طويل ليجد المغرب نفسه مطالبا هو الآخر من الدول الغربية باحترام حقوق الأقلية المسيحية من أبناء بلاده، ورفع المضايقة والاضطهاد الذي يلاحقهم في وطنهم المغرب، فلم يعد خافيا على أحد ما يقوم به دعاة التنصير في بلادنا من سعي حثيث وجهد مستميت من أجل جر الشباب ذكورا وإناثا إلى الدخول في دين النصارى وفصلهم عن وطنهم وأصولهم، وفرزهم من أمتهم ليصبحوا جسما غريبا في نسيج الشعب المسلم، وعنصرا متنكرا لهويته ومعدنه، وتلك بذرة الشر ونبتة السوء التي تنذر البلاد بالويل والثبور. فقد زارني خلال السنين الأخيرة عدة من الشباب الذين غرتهم حملة التنصير فانجرفوا معها ثم أدركتهم هداية الله فرجعوا إلى الحق واستقاموا على دينهم، فكان كل من زارني منهم يشرح لي خطة (التبشير) في المغرب ويبين لي بالوثائق والصور ما يدبره دعاة التنصير في بلادنا من مكر كبير وكيد عظيم لاستهواء الشباب واستمالة قلوبهم إلى دعوة التنصير، وزارني قبل سنة تقريبا أربعة من الشباب، من هؤلاء المذكورين، قدموا من مدينة سلا، كما قالوا وأطلعوني على عدة ملفات ووثائق وصور لحفلات وولائم نظمتها أسر من المغاربة النصارى يظهر فيها رجال ونساء وأطفال، وذكروا لي أن في الرباط كنيسة مغربية تسمى (الصخرة) كما ذكروا أن في كبريات مدن المغرب كنائس يتولاها رهبان مغاربة ويرتادها نصارى مغاربة ليس فيهم أجنبي، كما ذكروا لي أن عدد المغاربة المتنصرين يجاوز العشرين ألفا، وهؤلاء الأربعة يرون أن دعاة التنصير يعملون في المغرب بحرية وانطلاق دون خوف أو أخذ حذر، مما يعني أنهم محميون ومسندون من جهة ما، داخل المغرب أو خارجه، والحديث في هذا الموضوع طويل الذيل عريض المنكب، والمقصود أن حملة التنصير في المغرب خطر كبير يهدد البلاد بشر مستطير، فإذا تنامى عدد النصارى من المغاربة وبلغوا مائة ألف مثلا أو أكثر فسيشكلون ولا ريب نقطة ضعف في سياسة الدولة الداخلية والخارجية، وسيجعل منهم الغرب (مسمار جحا) يتدخل به في شؤون البلاد ويتحكم باسمه في تسيير أوضاع الشعب وتوجيه سياسة الدولة، وهو ما تعاني من مرارته وضغطه عدة دول إسلامية ذكرنا بعضها آنفا، والعاقل من يتعظ بغيره، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. إشكال له حل ومن أهل الإسلام من يقول: لماذا نقبل الدعوة إلى الإسلام في بلاد الغرب ولا نقبل دعوة التنصير في البلاد الإسلامية، والجواب عن هذا التساؤل ليس بعسير على الفهم ولا مستعص على الإدراك، فالمسلمون لا يقومون بالدعوة إلى الإسلام في أوساط الشعوب الغربية كما يفعل (المبشرون) في البلاد الإسلامية، وإنما يقيمون مساجد ومؤسسات تعليمية وثقافية لأبنائهم وإخوانهم في تلك البلاد فيرتادها أبناء الأرض تلقائيا دون دعوة ولا إغراء من أحد فيدخلون في الإسلام طائعين غير مضطرين ولا كارهين، بينما (التبشير) يغزو البلاد الإسلامية بكل الطرق والأساليب، يغري الشباب بالمال وبالعمل، وينشئ مؤسسات تعليمية واجتماعية لهذا الغرض، أما المسلمون فلا يفعلون شيئا من ذلك في البلاد الغربية، والدول الغربية تقدم على أمور كثيرة تؤذي بها أهل الإسلام، بينما المسلمون لا يفعلون مثل ذلك بالنسبة للغرب. فلا يمر يوم في العالم الغربي دون أن ينال إعلامه بصحفه وإذاعاته وأقلامه من الإسلام ويستهين بحرماته ومقدساته، وهو صنيع لا يجرؤ المسلمون على فعله، لأن دينهم يفرض عليهم احترام ما سواه من الأديان والأنبياء. والدول الغربية تتدخل في شؤون الشعوب الإسلامية، وتحارب أبناء الإسلام في بلادهم وتحول بينهم وبين التمسك الصحيح بتعاليم دينهم، وخذ مثلا على ذلك من تركيا والجزائر والسودان وإيران وغيرها مما لا يجهل ولا يخفى على أحد. وفي الغرب دول لا تعترف إلى اليوم بالإسلام ولا تسمح للأقلية الإسلامية عندها بتعليم أبنائها في مؤسسات تعليمية خاصة، كما لا تسمح لهم بغير ذلك من الحقوق الدينية التي تسمح بمثلها لليهود مثلا . والآذان بالأبواق ممنوع في كافة الدول الغربية، فلا يؤذن المؤذن هناك إلا داخل المسجد بين ظهراني المصلين. كما أن دول الغرب أجمعت كلها بدون منازع ولا مخالف على منع إقامة دولة إسلامية في البوسنة والهرسك، وهي أرض أوروبية يسكنها شعب مسلم، فحالوا بينه وبين حقه في تقرير مصيره، وهو مبدأ من المبادئ التي قررها ميثاق الأممالمتحدة، والذي طالما اتخذه الغرب مرجعا وسندا للتسلط على الدول الضعيفة. ودول أخرى في الغرب منعت الفتيات المسلمات من ارتداء الخمار في المدارس والجامعات، وهو خرق صارخ لحقوق الإنسان وللحرية الشخصية، ومس بحرمة الدين الإسلامي، زد على ذلك كله أن التعليم في الغرب يقدم الإسلام إلى الطلبة والتلاميذ في المؤسسات التعليمية مشوها بالكذب والتضليل، ومحرفا بالأباطيل والتزوير، مما يغرس في نفوسهم كراهية الإسلام والنفور منه والحقد على أهله، فالغرب لا يعامل المسلمين بالعدل والحق الذي ينادي به في المحافل الدولية، فكيف يعاب على المسلمين ما لا يعاب على غيرهم من الظلم والخروج عن المعروف. تعايش الأديان ضرورة واقعية وقد كنت شاركت منذ سنتين في مؤتمر شعبي للتقارب بين الأديان نظمته إحدى المؤسسات الإيطالية بمدينة اليرمو في منطقة صقلية، وكانت لي فيه كلمة أرى من المناسب لهذا الموضوع أن أوجزها في هذا المقام، ومضمونها يقول: لا يستطيع دين في هذا العصر ولا في غيره من العصور مهما قويت شوكته واشتد بأسه أن يستقل بالوجود في الأرض، والأديان الثلاثة مجتمعة لا تستوعب إلا ثلث سكان الأرض في هذا العصر، وهذه الحقيقة تفرض على الأديان المذكورة أن تتعايش في هذا العالم وتتعاون فيما بينها وتتضامن لخدمة مقاصدها الكبرى، وغاياتها السامية، المتمثلة في إسعاد البشرية وإنقاذها من الشقاء ونشر العدل والرحمة بين كافة الناس، (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) والإسلام من جهته قد سار في هذا الطريق بالفعل فوضع من التشريعات والتوجيهات ما يحقق التعايش والتقارب بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان الأخرى، ولا سيما أهل الكتاب منهم على الخصوص، ومن تلك التشريعات، وجوب الإىمان بجميع الرسل وبكل ما أنزل الله من الكتب، وأن أهل الأديان الثلاثة إخوة في العبودية لله عز وجل. (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا...الخ). وأن لا إكراه في الدين، فلا يكره أحد من أهل الكتاب أو غيرهم على ترك دينه والدخول في الإسلام، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر) وإطلاق وصف الكفر على اليهود والنصارى وأمثالهم لا يعد لمزا لهم ولا انتقاصا من أقدارهم في منطق اللغة والعرف، ولكنه وصف ينطبق على واقعهم الذي يعترفون به ولا ينكرونه، فالكافر في منطق الشرع هو الذي لا يومن بالإسلام، وأهل الكتاب لا يومنون بالقرآن ولا بنبي الإسلام ويعلنون ذلك ولا ينكرونه ولا يستخفون به، فوصفهم بالكفر إخبار عن واقعهم المشاهد، والمسلم أيضا يوصف بكونه كافرا لأنه لا يومن بالطاغوت وبما يعبد من دون الله، يقول الله عز وجل: (فمن يكفر بالطاغوت ويومن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها). القرآن الكريم والسنة المطهرة يؤكدان شرعية التعايش احترام أهل الكتاب والاعتراف بفضل ذوي الفضل منهم مسألة تجد شرعيتها من الكتاب والسنة، فمن القرآن الكربم قوله تعالى (ومن أهل الكتاب من إن تامنه بقنطار يرده إليك.. الآية). وقوله عز من قائل(وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه أي عيسى عليه السلام رأفة ورحمة...) (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد... الآية) وسمح الدين الاسلامي للمسلمين بالاختلاط بأهل الكتاب ومعاملتهم بالحسنى ومشاركتهم في الأموال والأولاد والأعمال وفي مختلف الأحوال، يقول سبحانه: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) ويقول عز وجل: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المومنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم...الآية). وكان أهل الكتاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعيشون في المدينة كغيرهم من المسلمين سواء بسواء، فكانوا يزورون النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده وكان نساؤهم يدخلن على أزواجه في بيوتهن، حتى إن مالكا روى في الموطأ أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها أي تعالجها بالرقية فقال لها أبو بكر رقيها بكتاب الله، فلم ينكر على عائشة أن ترقيها يهودية، واستناد إلى هذه الواقعة ذهب جمهور العلماء إلى القول بجواز رقية الكتابي للمسلم. ودعت النبي صلى الله عليه وسلم يهودية إلى طعام فأجابها إليه في بيتها، وهي واقعة معروفة. ومات صلى الله عليه وسلم وعليه دين لأحد من اليهود، (رواه البخاري). وتزوج صلى الله عليه وسلم امرأة من اليهود وهي صفية فأسلمت عنده. وهذه التشريعات هي القواعد الثابتة في التعايش مع أهل الكتاب وغيرهم من الملل في الأحوال العادية والحياة الطبيعية، أما الجهاد فإنه مشروع في الإسلام للأحوال الاستثنائية والظروف الطارئة، والإسلام دين وأمة وكيان، وكل كيان له وزارة دفاع وقوانين حرب وجيش وعدة وسلاح ينفق عليه باستمرار أخذا للحذر واستعدادا للطوارئ، ومن أجل ذلك قال عز وجل: (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) عبد الباري الزمزمي