تتوالى التسريبات الصحافية الواردة من أروقة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي ومداولات لجانه الخاصة قبل أيام من صدور تقريره الاستراتيجي حول حالة التعليم المغربي الذي من المفترض أن يجيب على انتظارات المغاربة من المدرسة الوطنية ومستقبل أبنائهم في ظل التحولات العميقة التي تشهدها المعرفة الكونية. وبنبرة التفاؤل عبر رئيس المجلس في أكثر من مناسبة ان "الرؤية الاستراتيجية لن تكون مخططا للإصلاح، ولا برنامجا له، ولا جردا لإجراءات يتعين اتخاذها، وإنما رؤية شمولية لمستقبل المنظومة التربوية، التي تستحقها بدلانا اليوم، تستمد توجهاتها الكبرى من الدستور، ومن الخطب الملكية السامية، ومن الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وكذا من المواد الوازنة، التي استخلصها المجلس من خلال تفعيل المقاربة التشاركية". وكأن المقصود ألا تكون الرؤية المنتظرة مجرد أجندة إجراءات وبرمجة للمقتضيات العملية الواجب تنزيلها وإنما هي مراجعة للفلسفة المؤطرة للعملية التربوية المغربية. وحتى لا تكون اللحظة المتاحة مناسبة لاجترار الفشل واستهلاك الزمن في إعادة السيناريوهات المتآكلة نعتقد أن الرؤية ينبغي أن تستند لأطر إشكالية مرجعية: الإشكال المبدئي: هل المنظومة التعليمية في حاجة إلى رؤية استراتيجية أم إلى فعالية إجرائية؟ فتاريخ المنظومة التربوية المغربية هو تاريخ المشاريع الإصلاحية التي منيت بالفشلوأعادت المدرسة إلى نقطة البداية.منذ الاستقلال إلى حد الآن، توالت على المنظومة التربوية المغربية مجموعة من الإصلاحات والمناظرات واللجن:اللجنة الرسمية لإصلاح التعليم (1957)، واللجنة العليا لإصلاح التعليم (1958)، ومناظرة المعمورة(1964)، ومشروع إصلاح التعليم بإفران (1980) واللجنة الوطنية المختصة بقضايا التعليم (1994)، والميثاق الوطني للتربية والتكوين(2000/2010)، ثم البرنامج الاستعجالي (2009/2012 ). إذن فلا نبالغ إن وسمنا تاريخ المدرسة المغربية بأنه تاريخ مشاريع إصلاح تتعثر عند أول اصطدامها بالواقع، مما أنتج ضعفا تحصيليا أثبته تقرير التنمية البشرية لعام 2013، الذي كشف عن معدلات مرتفعة من الأمية والهدر المدرسي مقارنة مع المعدلات المسجلة من طرف الدول ذات المستوى الاقتصادي المماثل لبلادنا. فهل نحن في حاجة إلى رؤية أو تشخيص أم إلى إرادة سياسية حقيقية تؤمن بالإصلاح بعيدا عن العناوين والشعارات؟ وألم تعد مقررات الميثاق قادرة على نقلنا إلى مستوى التنزيل بدل الانحسار في مستوى التشخيص والتنظير؟ إن قضية التعليم هي قضية مجتمع ويكفينا الاستدلال بالنموذج الأمريكي حين دق الرئيس ريغان ناقوس الخطر في التقرير "الأُمة في خطر: أمر إلزامي لإصلاح التعليم" الذي أشار إلى تدني التحصيل الأكاديمي على الصعيدين الوطني والدولي مما استفز القيادة الأمريكية لإحداث النقلة النوعية في النظام التعليمي المشهود بها لحد الآن. وكان التوصيف على العديد من المستويات: المحتوى والمعايير والتوقعات والوقت والتعليم والقيادة والدعم المالي. ولأن الأمر أكبر من الاختلاف الحزبي فقد ظ?? ا?????ا???أ??رت التقرير منعقدة حتى نهاية القرن العشرين ومهدت لخطوة بوش في 1990 المعنونة "أمريكا سنة 2000 استراتيجية للتعليم" والتي تضمنت الكثير من توصيات سلفه. فالقضية ليست قضية تشخيص بقدر ما ينبغي أن تتحول إلى قرار سياسي حقيقي يرتفع عن الاصطفافات الإيديولوجية والولاءات الثقافية. بمعنى أوضح الحاجة ليست إلى تصور أو رؤية بل إلى قرار سياسي تاريخي يحسم الخيارات الوطنية. تتفنن العديد من الدراسات والتقييمات في وصف حالة التعليم المغربي بالأزمة. لكن السؤال الذي يطرح هو: هل هناك أزمة حقيقية يعانيها القطاع أم حديث الأزمة تصوير نمطي يراد تسويقه وفرضه على المخيال الجماعي؟وهل الأمر يتعلق بكارثة وطنية تجعلنا على حافة الهاوية أو السكتة القلبية أم نحن أمام اختلالات يمكن حلها لو أعطي التشخيص الحقيقي والعلاج الشافي؟فإن وضعنا الحالة المغربية في سياقها العالمي يمكن التأكيد أن التعليم يمر بمشاكل في العالم كله منذ عقود، تستوي فيها الدول المتقدمة وغير المتقدمة، وإن اختلفت آثارها فيها، ونحننتذكر تقرير البنك الدولي "التعليم العالي: الدروس المستقاة من التجارب"، الذي خلُص إلى أن القيود المفروضة على الموارد، وعدم الكفاءة الإدارية أدت إلى ضعف الكوادر الإدارية والتعليمية، وإلى تدهور البنى التحتية، وإلى سوء معايير القبول في الجامعات، وارتفاع في معدلات تسرب الطلاب، وانخفاض نواتج البحوث العلمية.وللحالة المغربية خصوصيتها من الإشكالات التي تعرقل جودة وحكامة المنظومة التعليمية من موارد بشرية ومالية ومناهج دراسية إضافة إلى الإشكال المحوري الإشكال اللغوي. فالحكم على واقع التعليم ينبغي أن يتأسس على مخرجاته التي جعلت مثقفينا يتسيدون الفضاء الثقافي والعلمي العربي كما بدا ذلك في مختلف الجوائز العربية. هناك اختلالات ينبغي أن تعالج في مظانها، لكن تصوير الأمر على أنه نهاية التعليم المغربي فيه الكثير من الجناية على جهود وخبرات وطنية أثبتت كفاءتها وجدارتها بغية فرض نماذج فوقية وإسقاط مشاريع جاهزة على المتلقي المغربي. عندما انتقدنا التشكيلة المقترحة للمجلس كنا على وعي بوجود فضلاء لا يمكن الشك في مصداقيتهم وعلمهم لكن في الوقت نفسه وجود بعض الأصوات النشاز التي تتفنن في التسويق للشعبوية والسطحية يمكنها تحريف مسار النقاش. وأثبت مسار المداولات أن السؤال اللغوي هو الإشكال الحقيقي للمدرسة المغربية ومختلف المشاكل الأخرى معلقة به، لأن الأمر يتعلق بالنموذج المفترض في مغربي المستقبل معرفيا وتنمويا.فاختيار لغة التدريس ليس اختيارا عفويا أو نابعا من قناعة ذاتية لمسؤول كيفما كانت مؤهلاته وتصوراته، ولا هي هوى شخصي لمسوق إعلانات يشتغل من أجل مصالح شركته، بل تحكمه جملة من المقتضيات المعرفية والمنهجية: 1. اختيارُ لغة التعليم هو جزء من تصور شامل للتنمية بمختلف جوانبها القيمية والمصلحية. لذا فالذي ينافح عن التعليم بلغة الاستعمار يروم فرض النموذج الكولونيالي في التنمية تصورا وتنزيلاوالذي يرتكز على أن تمدين الأهالي في المستعمرات القديمة/ الجديدة، لا يتحقق إلا بواسطة اللغات الأجنبية. وهذا يشبه حلم زميل عبد الكبير الخطيبي في القسم الذي سأله عن المهنة التي يود ممارستها في المستقبل فقال: ان أغدو فرنسيا. وعلق كيليطو على الحلم بالقول: "إنه حلم بالمسخ، بالتبدل الأنطلوجي". 2. من أهم أهداف التعليم التنشئةُ على نفس القيم دفعاً للتشظي وتفكيك الجماعة الوطنية، "ولا ينجح النظامُ التربوي في تَوَخِّيهِ للتماسك الاجتماعي إذا نشَّأَ على قيم حضارية متدافعة، أو توسَّل في التدريس بلغاتٍ متنافسة على الانفراد بالاستعمال في نفس المجال". 3. ليست هناك دولة متقدمة واحدة تدرس بلغة أجنبية. فالدول الأوروبية والأمريكية وكذلك المجموعة الأسيوية التي تستخدم فقط اللغات الوطنية الأكثر انتشارا هي الدول المتقدمة. أما الدول التي تدرس بلغة المستعمر أو يوجد بها تعليم مزدوج فواقعها الاقتصادي يشهد أنها ليست من الدول المتقدمة. وهذا يبين بالأرقام أن التدريس باللغة الوطنية الأكثر استعمالا شرط ضروري لأي تنمية. 4. وجود لغة مشتركة أهم من وجود عملة مشتركة كما يقول اقتصاديو اللغة.فوجود لغة جامعة وموحدة في المدرسة يساهم في رفع مستوى دخل أفراد أي مجتمع. وهذا لن يتأتى بدون أن تكون هذه اللغة هي لغة التدريس كما هو الشأن في الدول المتقدمة. اعتبارا لهذه المقتضيات المنهجية وللأطر المرجعية التي بنى عليها رئيس المجلس تقديمه للرؤية الاستراتيجية المنتظرة (الدستور/الخطب الملكية/ الميثاق الوطني للتربية والتكوين) يمكن التأكيد أن الحسم في الخيار اللغوي هو جوهر تصحيح اختلالات المنظومة التربوية وذلك عبراستكمال تعريب الأسلاك الجامعية والعليا باعتباراللغة العربية لغة رسمية أسوة بمعظم دول العالم التي لا ترضى بغير لغتها الرسمية بديلا، وعملا بمقتضيات النتائج المتوصل إليها بأن تقدم أي بلد رهين بتوحيد لغة التدريس. ودون ذلك العودة إلى نقطة البداية وتكرار تجارب الفشل.