في أقل من سنتين، عرف المغرب على الأقل أربع مبادرات مهمة بخصوص المسألة اللغوية: مبادرة رسمية مثلها المجلس الأعلى للتعليم، وثلاث مبادرات ما بين مؤسسية جمعوية وجامعية ونقابية. ورغم الاختلاف البين في شكل تعاطي هذه المبادرات مع الأسئلة التي يطرحها الوضع اللغوي في المغرب، إلا أنها في مجموعها تؤشر على وجود أزمة حقيقية، أو على الأقل تؤشر على وجود وعي لدى المهتمين والمعنيين بوجود أزمة في السياسية اللغوية المعتمدة أو غياب هذه السياسة بالمرة. يمكن أن نلاحظ بعض الاشتراك بين هذه المبادرات في تشخيص الواقع اللغوي، إذ هناك شبه إجماع على أن المغرب يعرف فوضى لغوية عارمة، أو هناك على الأقل اتفاق على أن السياسة اللغوية المعتمدة أصبحت عاجزة عن مسايرة متطلبات التنمية، بل أصبحت عاجزة عن أداء مهمة الانفتاح سواء منه الاقتصادي أو العلمي والأكاديمي. المبادرة الأولى: ندوة المجلس الأعلى للتعليم ويتعلق الأمر بندوة '' تدريس اللغات وتعلمها في منظومات التربية والتكوين: مقاربات تشخيصية واستشرافية'' والتي نظمها المجلس الأعلى للتعليم يومي 20 خ 21 أكتوبر 2009 بالمدرسة المحمدية للمهندسين في سياق محاولته لمقاربة الوضع الإشكال اللغوي في سياق تطوير المنظومة التربوية، وتوفير مجال للتفكير والمناقشة وتبادل الخبرات الوطنية والدولية والمؤسسات والهيئات المعنية والمهتمة لتهييء أرضية علمية وبيداغوجية وأيضا تشاركية لاعتماد سياسية لغوية في مجال التعليم تكون قادرة على بلورة حلول متوافق حولها بخصوص إشكالية لغة التدريس وتدريس اللغات في المنظومة التربوية خلال سنة .2010 وقد شملت الندوة دراسات تشخيصية وموضوعاتية، واستطلاع للرأي، وأعمال الورشات المتخصصة حسب اللغات المُدرَّسة في المغرب، بالإضافة إلى ورشة التكوين المهني والورشة الأفقية للغات، والدراسة المقارنة لنماذج من التجارب الدولية. وإذا كان ما يميز هذه المبادرة أنها انطلقت من مبادئ مرجعية تضمنها ميثاق التربية والتكوين من قبيل الاستناد إلى الخيار اللغوي الذي رسمه واعتباره الإطار المرجعي للإصلاح التربوي والعمل بمبدإ التنوع والانفتاح اللغوي والتربوي على نحو تدريجي في مختلف المستويات والأسلاك التعليمية والتكوينية؛ وترسيخ مبدإ السلم اللغوي القائم على علاقات التفاعل بين اللغات وتكاملها، واستعمالها ضمن مقاربات بيداغوجية متنوعة، وفي إطار مدرسة متعددة الأساليب، فإن هذه المنطلقات لم تكن كافية لحسم الموقف وصوغ رؤية واضحة للسياسة اللغوية في المنظومة التربوية في المغرب، مما جعل المجلس يترك هذا الورش مفتوحا، وكان الأمر معروضا للحسم في سنة 2010 إلا أن شيئا من ذلك لم يتم، وبقيت هذه المبادرة مفتوحة. لكن، بشكل عام، لقد كانت هذه المبادرة محطة أساسية لمساهمة خبراء متخصصين، ولمناقشات علمية عالية المستوى، ولعرض تجارب عديدة، كما سمحت بمناقشة مقاربات متعددة، وعرض سيناريوهات استشرافية مهمة، والأهم من ذلك كله، هو النتيجة التي تواطأت عليها العديد من المداخلات، وهي أهمية ترشيد السياسة اللغوية من جهة، وعقلنة التنوع اللغوي في المؤسسة التربوية من جهة أخرى، وهو ما دفع هذه المبادرة إلى التركيز على جملة من الضوابط الأساسية التي تحكم عملية الترشيد والعقلنة هذه، ويتعلق الأمر ب: - المحافظة على الهوية المغربية. - تأمين الاكتساب التدريجي للمعرفة بمختلف أصنافها. - الانفتاح على اللغات الأجنبية وثقافاتها. - ضرورة الوعي بالصعوبات والإكراهات التربوية والثقافية والاقتصادية الثقافية والتربوية والكلفة المالية التي يطرحها تدبير التنوع اللغوي. وبقدر ما كانت هذه المبادرة مهمة، لكن يبدو أنه لم يكن مطلوبا منها أن تتوصل إلى قرارات ولا حتى أن تحسم في الرؤية التي يمكن لها أن تؤطر السياسة اللغوية التي ستعتمد في المنظومة التربوية، فالواضح أن السقف الذي وضع لهذه المبادرة لم يتعد توفير فضاء للنقاش العلمي بقصد تهيئة شروط إنتاج رؤية تنزل الخيار اللغوي المعتمد في الميثاق، وتحقق الأهداف التي وضعها تقرير المجلس الأعلى للتعليم بخصوص الارتقاء بتدريس اللغات والتحكم في كفاياتها تربويا ومعرفيا وتواصليا. ولذلك، لم تخرج خلاصات هذه المبادرة عن تلك الأهداف، لاسيما ما يتعلق بالأهداف الآتية: - التحكم في الكفايات اللغوية وجودة تدريسها يعتبر مسألة محورية لتحقيق تكافؤ الفرص والولوج إلى مجتمع المعرفة والتكنولوجيا وتحقيق التنمية الشاملة بمختلف أبعادها ومستوياتها. - التمكن من الكفايات اللغوية مرتهن، علاوة على السياسة التربوية اللازمة لذلك، بضمان جودة التدريس وجودة منظومة التربية والتكوين بكافة مكوناتها. - ضرورة استحضار نتائج البحث العلمي والبيداغوجي في وضع أي سياسة تربوية وتكوينية للنهوض بتدريس اللغات وتعلمها - تفعيل أكاديمية محمد السادس للغة العربية لتنهض بإعداد الخطط الإستراتيجية وبرامج العمل لتجديد اللغة العربية وتأهيلها وتطوير سبل تدريسها والتحكم في كفاياتها ووظائفها. - ضرورة وضع إطار واضح ومنسجم لتدريس اللغة الأمازيغية وثقافتها، ودعم المجهود الذي يقوم به بتنسيق مع المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في هذا الشأن. - إرساء إطار مؤسساتي يضطلع بوضع البرامج الكفيلة بالارتقاء بتدريس اللغات الأجنبية وضمان التحكم في كفاياتها واستعمالاتها، واستثمار التعاون الثقافي والعلمي في هذا المجال. - وضع مخطط للترجمة من جميع اللغات الحية المعاصرة، لإغناء اللغة العربية وثقافتها بالمستجدات العلمية والتكنولوجية وغيرها، وللارتقاء ببرامج التكوين والتأطير. المبادرة الثانية : ندوة مؤسسة زاكورة للتربية وتتعلق المبادرة الثانية بالندوة الدولية التي نظمتها مؤسسة في الدارالبيضاء بتاريخ 11 و 12 يونيو ,2010 والتي اندرجت في إطار محاولة الإجابة عن التحديات التي يواجهها المغرب في مجال التربية والتكوين ومحاربة الأمية والفشل المدرسي، وتكافؤ الفرص بالنسبة إلى الجميع عبر دمقرطة الحق في الوصول إلى المعرفة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاندماج والانفتاح على العالم. إذ حرصت الندوة أن تناقش الإشكالية التي يطرحا الوضع اللغوي في المغرب ضمن هذا الإطار العام، وليس فقط ضمن المقاربة التربوية كما فعل المجلس الأعلى للتعليم. وقد كان الهدف الرئيس لهذه الندوة الدولية هو طرح الوسائل الناجعة الكفيلة بجعل التعليم في المغرب تعليما فاعلا يستجيب للتحديات التي تطرحها المجالات السابقة ويقدم الجواب عنها. وضمن هذا السياق، ناقشت الندوة قضية اللغات الوطنية (اللغة العربية الفصحى، والدارجة، اللغة الأمازيغية) كما ناقشت مسألة تدريس اللغات لكن بارتباط مع رهانات الانفتاح الدولي. ورغم أن الندوة حاولت أن تناقش اللغات ووضعها في المغرب، وأن تدعم بشكل كبير مقولة تجسير العلاقة بين الدارجة واللغة العربية الفصحى، إلا أنها ركزت من خلال غالبية المتدخلين فيها على اعتبار اللغة العربية مكتسبا غير قابل للنقاش أو المراجعة. ولقد عرفت هذه المبادرة خ مثل سابقتها- حضور نقاش علمي متخصص، كما عرفت عرض تجارب مهمة، ومناقشة سيناريوهات متوقعة في حال اعتماد هذا الخيار أو ذاك، لكن المهم أكثر في هذه الندوة أنها انتهت إلى رؤية معنية لمعالجة الارتباك والفوضى التي يعرفها الوضع اللغوي في المغرب، رؤية تلخصت عناصرها في المنطلقات الآتية: - فعلى مستوى اللغات الوطنية، لم تأت الندوة بأي جديد بخصوص اللغة الأمازيغية، إذ اكتفت بتثمين مسار تدريسها وجهود المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في دعم هذا المسار الذي اعتمدته وزارة التربية والوطنية والدعوة إلى تحسيس المغاربة بضرورة تعلم هذه اللغة. وإنما كان الجديد في تركيز هذه الرؤية على العلاقة بين اللغة العربية والدارجة، واختيار صيغة معيرة الدارجة وتجسير العلاقة بينها وبين اللغة العربية في أفق الوصول إلى ما اصطلحت عليه الندوة ب''اللغة العربية الحديثة''. - أما على مستوى اللغات الأجنبية، فرغم انطلاق هذه الرؤية من مبدأ ضرورة تقوية تعليم اللغات الأجنبية منذ التعليم الأساسي وتعزيز تعددها وركزت على الأهداف التقليدية التي تذكر في كل المبادرات من قبيل تحسين جودة تدريس اللغات الأجنبية ، إلا أنها حسمت في رؤيتها في ثلاث قضايا إشكالية : - تتعلق الأولى بالموقف من التعريب، إذ دعت إلى وضع حد للوضعية الحالية التي يتم فيها تدريس المواد العلمية باللغة العربية في التعليم الثانوي ويتم تدريسها باللغة الفرنسية في التعليم الجامعي، ودعت إلى ما أسمته بالاستمرارية اللغوية في جميع المناهج الدراسية من الثانوية في التعليم العالي وحسمت خيارها من خلال دعوتها إلى التركيز على اللغة الدولية للإنتاج العلمي : الفرنسية وبشكل خاص الانكليزية . - وتتعلق الثانية بالطرح الضمني المحتشم لمسألة اللغة الأجنبية الأولى، إذ كان من الواضح أن الندوة لم تستطع أن ترتقي إلى درجة الجرأة التي تتيح لها الدعوة إلى مراجعة الاختيار اللغوي الذي بمقتضاه جعلت اللغة الفرنسية اللغة الأجنبية الأولى، ولهذا اكتفت بالتلميح لضرورة هذه المراجعة من خلال طرح هدف تطوير الاهتمام باللغة الإنجليزية بشكل مواز مع اللغة الفرنسية لأنها كما وضحت توصيات الندوة أصبحت تمثل لغة الانفتاح الدولي أكثر مما تمثله اللغة الفرنسية نفسها. - أما المسألة الثالثة، فتتعلق بما أسمته الندوة بزيادة العرض بالنسبة إلى اللغات الأجنبية من اللغات العالمية في المستقبل: الصينية والهندية والبرتغالية والتركية، الخ. وإن كان من خلاصة تقييمية لهذه المبادرة في خلاصاتها وتوصياتها هو أنها لم تول المسألة اللغوية بأبعادها ما تستحق من التعاطي وإن حرصت على أن تتضمن نقاشات علمية وعرض لتجارب غنية (التجربة السينغالية والعبرية والتركية واليونانية) إذ كان تركيزها أكثر على تجسير العلاقة بين اللغة العربية الفصحى والدارجة، كما ولو كان هذا هو المحدد الأساسي للأزمة اللغوية في المغرب، إذ كان تعاطيها مع اللغة الأمازيغية محدودا وضعيفا مع ما يطرح تدريس هذه اللغة من إشكالات سياسية وتربوية وديداكتيكية لا زالت إلى اليوم محط تدافع سياسي ونقاش علمي وتربوي، كما أن معالجتها لمسألة اللغات الأجنبية كان محكوما بمنطق النقد الحذر والمحتشم لأهم مظهر من مظاهر الأزمة اللغوية في المغرب والمتمثل تحديدا في هيمنة اللسان الفرنسي على كل المجالات، إذ حرصت الندوة على عدم المس بهذا ''الثابت اللغوي'' وفضلت الالتفاف عليه من خلال الإشارة إلى أهمية اللغة الإنجليزية كلغة للبحث العلمي والانفتاح الدولي. ويبدو أن المبادرة كانت تتحرك ضمن سقف سياسي لم يكن متاحا لها أن تتعداه بالنحو الذي تجعل فيه الهيمنة اللغوية الفرنسية محط مساءلة بله المراجعة. المبادرة الثالثة: الأيام البيداغوجية الثامنة وتتعلق المبادرة الثالثة بالأيام البيداغوجية الثامنة التي نظمها المنتدى الوطني للتعليم العالي والبحث العلمي فرع مراكش يومي الأربعاء والخميس 17 و 18 ذي الحجة 1431ه الموافق ل 24 و 25 نوفمبر 2010 بشراكة مع جامعة القاضي عياض بمراكش، وتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي في موضوع ''لغة التدريس وتدريس اللغات بالتعليم الجامعي ''. وقد كانت هذه الأيام محطة لمدارسة علمية للعديد من القضايا المتعلقة بالمسألة اللغوية في ارتباط مع التعليم الجامعي ورهانات إصلاحه، وقد كان هدف الأيام هو المساهمة في بلورة رؤية واضحة للغة التدريس بالجامعة المغربية ومعالجة الخيارات الممكنة لقضية اللغات الأجنبية وعلاقات ذلك كله بقضايا التنمية والانفتاح الدولي. كما كانت محطة لطرح إشكالات أخرى كانت غائبة في المبادرات الأولى من قبيل ''السن الملائمة لتعلم اللغات الأجنبية'' والتي تم فيها عرض خبرة علمية دولية ( الدكتور علي القاسمي)، قدمت نتائج البحوث النظرية والتطبيقية المتعلقة بهذا المجال وقارنت بينها ، ورجحت رأي الداعين إلى تعليم اللغات الأجنبية في سن مبكرة وفق ضوابط تحفظ للغة الوطنية قوتها عند المتعلم، كما ناقشت الأيام أيضا- وفي سياق متخصص إشكالية ''ازدواجية لغة التدريس والحياة العامة'' من خلال طرح معياري الكلفة والمردودية'' وطرحت للنقاش، وبشكل جريء، خيار تدريس العلوم اللغة العربية في الجامعة العربية، داعية إلى خوض هذه التجربة ووضعها محط الدراسة والتقييم ما دام ميثاق التربية والتكوين ينص على إمكانية فتح مسالك اختيارية بالجامعة مخصصة لتدريس مواد علمية باللغة العربية. وقد أكدت بعض المداخلات في هذه الأيام أن تدريس المواد العلمية بالجامعة المغربية أمر ممكن، واستدلت بنجاح التجربة في بعض الجامعات العربية، معتبرة أن إيقاف مسار التعريب إلى مستوى بالباكلوريا هو قرار سياسي لا علاقة له بالبيداغوجيا، ولا بقدرة اللغة العربية على خوض غمار تدريس العلوم بالجامعة. كما تعرضت الأيام لتدريس اللغة الأمازيغية مستعرضة تجربة تدريس اللغة الأمازيغية بالمنظومة الوطنية للتربية والتكوين ومركزة على واقع هذه التجربة بالوقوف على أهم المكتسبات، وآفاقها المستقبلية. ومما كان لافتا في هذه الأيام هو طرح إشكالية أخرى تتعلق ب'' تعليم اللغة الفرنسية بالفرنسية،'' إذ تناولت إحدى التدخلات هذا الموضوع بشكل متخصص ونبهت في خلاصاتها على الإشكال الذي يطرحه تدريس اللغة بنفس اللغة مؤكدة على أن التدريس يتطلب أشكالا ولا يتطلب معلومات، وهذا الأمر يختلف من مجال إلى مجال آخر مشيرة إلى الصعوبة في التصريف وفي التعريف وفي تحديد الدلالة. وبشكل عام، لقد عرفت هذه الأيام نقاشات علمية حاولت أن تغطي كل القضايا المطروحة عادة في هذا المجال (اللغة العربية في ارتباط مع قضية الهوية والانتماء، اللغة وعلاقتها بالتنمية، لغة التدريس وضمنه مناقشة خيار حصر التعريب في مستويات التعليم ما قبل الجامعي، تدريس اللغة باللغة العربية، تدريس اللغات الأجنبية في ارتباط بقضايا التنمية والانفتاح مع طرح قضية الكلفة والمردودية)هذا مع طرحها لإشكالات أخرى متخصصة لا تقل أهمية ضمن الرؤية المفترض أن تؤطر السياسية اللغوية الراشدة المرجوة. وبالقدر الذي تميزت فيه هذه المبادرة بطرح هذه القضايا في إطار علمي متخصص مع عرض تجارب متعددة في الموضوع، بالقدر الذي توجهت فيه خلاصاتها وتوصياتها إلى القضايا الإجرائية تفعيلا للمقتضيات التي نص عليها ميثاق التربية والتكوين لاسيما ما يتعلق بفتح مسالك علمية بالجامعة تعتمد اللغة العربية في تدريس المواد العلمية مما يعكس نوع الرؤية التي اختارتها هذه الأيام والتي ترتكز على اعتبار اللغة العربية لغة البحث العلمي القادرة على تحقيق نتائج إيجابية من غير كلفة مالية كبيرة، ومما يعكس أكثر هذا التوجه تأكيد الأيام البيداغوجية الثامنة في توصياتها على ضرورة تنفيذ القرارات المتراكمة فيما يخص موضوع التعريب، ووضع الإجراءات اللازمة لتحسين الوضع اللغوي لدى الطالب، والانفتاح بهذا الخصوص على أهل الاختصاص من خارج المغرب من أجل تعميم التجارب والدعوة إلى تسريع إخراج أكاديمية اللغة العربية. التي ينص عليها الميثاق الوطني للتربية والتكوين إلى حيز الوجود لتقوم بدورها في تدعيم البحث الأكاديمي النظري والتطبيقي في مجال اللغة العربية . ويبقى أهم ما دعت إليه هذه المبادرة هو ضرورة اعتماد استراتيجية واضحة في مجال سياسات التخطيط اللغوي وفتح نقاش أكاديمي حول المسألة اللغوية بالجامعة ومنح الطالب حق اختيار لغة الدراسة والبحث العلمي وتكافؤ فرص الخريجين.والملاحظ لهذه الخيارات التي دعت إليها هذه المبادرة يخلص إلى أن الوعي وإن كان حاصلا لدى القائمين على هذه المبادرة بكون اللغة العربية تمتلك المؤهلات العلمية والتواصلية التي تؤهلها لمسايرة التنمية بحكم تأكيد الدراسات المتخصصة وكذا تجارب العديد من البلدان على الارتباط الوثيق بين اختيار اللغة الوطنية والتنمية من جهة، وبحكم دور اللغة العربية في الدفع بسيرورة التكامل الاقتصادي العربي من جهة أخرى، إلا أنها فيما يخص تدريس اللغات الأجنبية ، فقد حرصت على وضع معايير تتعلق بالمصلحة الوطنية والنجاعة الاقتصادية والنهوض بالبحث العلمي والقدرة على التحقيق الأمثل لهدف الانفتاح فيما يخص تدريس اللغات الأجنبية. المبادرة الرابعة: الائتلاف الوطني لترشيد الحقل التربوي ويتعلق باليوم الدراسي الذي نظمته جمعية المسار حول ''المسألة اللغوية : الورش الوطني الكبير'' وذلك يوم الثلاثاء 11 يناير 2011 بمقر مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية الدارالبيضاء، والذي حضرته عدد كبير من الجمعيات والشخصيات الوطنية، وتم الإعلان في ختامه عن ميلاد ائتلاف وطني لترشيد الحقل اللغوي في المغرب. وقد كان هدف اليوم الدراسي هو الدعوة إلى إعادة النظر في السياسة اللغوية التي عرفتها البلاد منذ الاستقلال والتي ظلت محكومة، حسب تشخيص أرضية الندوة، بمنطق التقلبات الظرفية والحسابات السياسية الضيقة، في غياب رؤيا واضحة وسياسة جريئة فحسب القائمين على هذه المبادرة فإن هدف هذه المبادرة هو ''ترشيد الحقل اللغوي والمساهمة في تجاوز الفوضى العارمة التي يعرفها الوضع اللغوي في المغرب وجعل السياسة اللغوية مستجيبة لمتطلبات المسيرة التنموية التي يعرفها المغرب. وقد كانت المبادرة حريصة منذ منطلقها إلى تبني رؤية لا تموقع نفسها مع أي لغة ضد أي لغة أخرى . لكن مع التأكيد على ضرورة إعادة الاعتبار للغتين الوطنيتين بما يعزز تقاربهما وتكاملهما، واعتماد تصور موضوعي لممارسة اللغات الأجنبية بالنحو الذي تحقق فيه السياسة اللغوية مصلحة المواطن والوطن وضمن هذه الرؤية رسمت المبادرة اختياراتها في ثلاث عناصر أساسية. - من حيث التشخيص تم التأكيد على صلة الفوضى اللغوية بواقع الهيمنة اللغوية الأجنبية وطرح المسألة اللغوية في سياق استكمال مسيرة الاستقلال وخدمة قضايا التنمية، إذ تم التأكيد في المحورين التشخيصي والنقدي من أرضية الائتلاف على واقع الهيمنة الفرنكفونية والخسارة التي يتكبدها المغرب على الصعيد العلمي والاقتصادي والثقافي من جراء الارتهان إلى اللغة الفرنسية التي أصبحت عاجزة عن القيام بوظيفة الانفتاح الدولي، كما تمت الإشارة على المستوى الإداري إلى وجود فوضى لغوية مصدرها ثنائية لغوية غير متوازنة ولا منفعة منها سببت ''أضراراً نفسية واجتماعية واقتصادية للغالبية العظمى من المواطنين الذين لا يعرفون أو لا يجيدون اللسان الفرنسي'' وكان أثرها أكثر سواءا على مستوى المقاولات والقطاع الخاص، بسبب ما أسمته الوثيقة بانقلاب'' الثنائية اللغوية العرجاء إلى هيمنة شبه مطلقة للغة الفرنسية''تجاوزت ميدان العمل إلى المجال العام من خلال'' العلامات التجارية ولوحات الإشهار المكتوبة بالفرنسية وحدها في انتهاك لمقتضيات القانون'' - تأكيد ما خلصت إليه المبادرات السابقة بخصوص ضرورة تفعيل هذا الورش الوطني، واستفادته من التشخيص العلمي والتحليل الأكاديمي، وكذا تشجيع المبادرات الميدانية والملموسة ذات الصلة، والانفتاح في هذا السياق على كل الطاقات داخل وخارج المغرب. - تأكيد القناعات التي تتقاسمهما مكونات الائتلاف والمتمثلة في كون اللغة هي الفضاء الذي يعبر فيه وبه الإنسان عن تصوره للعالم والحياة وعن الأفكار والقيم. وأن الأمن اللغوي يصب في مصلحة البلاد الاقتصادية والتنموية، وضرورة بلورة مشروع وطني متكامل لترشيد الحقل اللغوي. وبشكل عام، يمكن أن نقول بأن المبادرة الرابعة هي خلاصات للمبادرات السابقة وجديدها برز على أربع مستويات: - المستوى الأول: يتعلق بحدود الفعل المدني وقدرته على تعديل الوضعية اللغوية التي أسمتها أرضية اليوم الدراسي ب''الفوضى العارمة'' إذ لا يتعلق الأمر فقط بمطارحة أفكار تشخص الوضع اللغوي أو تنتقده أو تطرح الخيارات الممكنة لمعالجته، وإنما يتعلق بتوافق حول رؤية ومقاربة لمنهجية التعاطي مع المشكل اللغوي في المغرب، وانطلاق حراك مجتمعي في اتجاه تعديله. - المستوى الثاني: ويتعلق بنوع الرؤية التي يحملها هذا الائتلاف، فهو خلافا، لمؤتمر مؤسسة زاكورة للتربية، لا يكتفي بطرح أحد أبعاد الأزمة اللغوية في المغرب (العلاقة بين العربية الفصحى والعربية الشفوية)، ولكنه يطرح الأزمة اللغوية في عمقها بجميع أبعادها بما في ذلك العلاقة بين اللغة العربية واللغة الأمازيغية، ومسألة الممارسة اللغوية الأجنبية بالمغرب، وعلاقة المسألة اللغوية بالتنمية، وحساب الربح والخسارة، والكلفة والمصلحة من الارتهان اللغوي. - المستوى الثالث: ويتعلق بالإطار الذي يتم فيه التعاطي مع الفوضى العارمة، إذ فضلت المبادرة الجديدة أن تسيج أداءها داخل السقف الوطني ، وتتجنب حمى النقاش الإيديولوجي حول أزمة الوضعية اللغوية في المغرب، إذ برز هذا المنحى أولا في طبيعة المشاركين وتعدد الرؤى التي يعبرون عنها، وثانيا في طرحها لخيار التكامل بين اللغتين الوطنيتين العربية والأمازيغية، وهو ما يعني دمج المكون الأمازيغي ضمن فعاليات الائتلاف، ومحاولة سد الطريق على السياسات اللغوية الفرنكفونية التي تفتعل الصراع بين اللغتين الوطنيتين لخلق شروط استمرار الهيمنة، ويبرز هذا المنحى أكثر من خلال الرؤية التي يطرحها الائتلاف في التعاطي مع المسألة اللغوية، والتي تشترط اعتماد المعيار الوطني في تجسير العلاقة بين الأمازيغية واللغة العربية، وفي اعتماد معيار المصلحة الوطنية فيما يخص اللغات الأجنبية ومدى الكسب الذي يمكن أن يحققه المغرب من هذه اللغات أخذا بعين الاعتبار قدرة هذه اللغات اليوم على الوفاء بوظيفة الانفتاح الدولي ومواكبة متطلبات البحث العلمي. ولعل في تزامن الإعلان عن الائتلاف مع ذكرى تقديم وثيقة الاستقلال أكثر من دلالة رمزية، إذ لا ينفك استكمال حلقات الاستقلال عن حل المعضلة اللغوية في المغرب والتي تعتبر الهيمنة الفرنكفونية أحد عناوينها الرئيسة. - المستوى الرابع: ويؤطره المعيار البراغماتي في التعامل مع اللغات الأجنبية وربط الاختيار اللغوي في هذا الموضوع بقضية المردودية والكلفة بالنظر إلى الجانب الاقتصادي والعلمي والأكاديمي بكلمة، يمكن أن نعتبر المبادرات الأربع علامة على تحول النقاش حول الوضع اللغوي في المغرب إلى مجراه العلمي الطبيعي، وهو مؤشر إيجابي يؤكد انحسار وفشل الطرح الإيديولوجي وعدم قدرته على المسايرة، كما يمكن أن نعتبرها جميعا مؤكدة للحاجة إلى قرار سياسي حاسم ما دام الوعي حاصلا لدى الجميع بخطورة استمرار الأزمة. لكن يبقى ما يميز هذه المبادرة الرابعة، هو أنها تجاوزت سقف المطارحة العلمية إلى مجال الفعل المدني، وهو ما سيكون له أثره على المدى القريب أو المتوسط - إن كان الحراك مطردا - في إقناع صناع القرار السياسي بأن الوضع اللغوي في المغرب وصل إلى درجة من الفوضى لم يعد قادرا بعدها على الاستمرار بهذه الشروط، وأن الحاجة أضحت ملحة لسماع نبض الشارع والنخب الممثلة له لتبني سياسة لغوية وطنية تستجيب لمتطلبات التنمية والانفتاح.