من سوء حظ السياسة والاستراتيجيا معا، أن موازين القوى لا تسمح بمساءلة رؤاها الخاطئة التي تسببت في زعزعة الاستقرار في المنطقة العربية. ومن ذلك الاستراتيجيات الأمريكية الثلاث المتعاقبة التي جرى تطبيقها على المنطقة العربية. البداية كانت مع استراتيجية مكافحة الإرهاب التي انطلقت مع الحرب الأمريكية على أفغانستان، فيما يسمى ب"معركة القلوب والأفكار" ، إذ حاولت هذه الاستراتيجية في مرحلة متأخرة أن تزاوج بين الحرب على الإرهاب ونشر أجندة الحرية على المقاس الأمريكي، ثم جاءت استراتيجية أوباما لترقية الديمقراطية في المنطقة العربية، على أنقاض استراتيجية إدارة بوش الابن، التي لم تزد الوضع إلا استفحالا، حيث أيقن صناع القرار الاستراتيجي الأمريكي أن أفضل خيار لمكافحة الإرهاب وتحصين المصالح الأمريكية في المنطقة هو دعم تجربة التحول السياسي في المنطقة العربية، والتي صادفت الحراك الديمقراطي وأثمرت ربيع الشعوب الديمقراطية، لكن الإدارة الأمريكية لم تتحمل كلفته وتداعياته، وبشكل أخص صعود الإسلاميين في مناطق التماس الاستراتيجية، وبدأت بالتدريج الانعطافة إلى الخيارات السابقة، وإعادة إنتاج الأنظمة السلطوية، وكانت البداية بمصر. اليوم، يبدو أن المتغيرات التي حصلت على الساحة السورية والعراقية أربكت كل الحسابات، بحيث لم تستطع الولاياتالمتحدةالأمريكية أن ترسو على رؤية واحدة، فوقع لها ارتباك البوصلة بين حرب نظام بشار الدموي، وبين حرب تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق، فأعلنت أول أمس عناوين استراتيجيتها لمحاربة الإرهاب دون أن تقدم أجوبة نهائية حول أولوياتها في المنطقة وشكل تعاطيها مع المكونات الأخرى، إذ باستثناء الحديث عن مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في كل البقاع وبشتى الوسائل، وتشجيع المصالحات، لا يظهر بالتحديد ما الذي ستقوم به الولاياتالمتحدة وحلفائها مع النظام السوري وحلفائه، وما جوابها عن القوى الأخرى التي تحارب على جبهتين، ضد النظام وضد تنظيم الدولة الإسلامية، وهل تعني بالمصالحة عودة الوضع إلى ما كان عليه قبل حراك الثورة السورية؟ أم خلق وضع جديد لا وجود فيه للنظام السوري الدموي؟ وكذلك الأمر في العراق، إذ لم تقدم الاستراتيجية الأمريكية أي جواب عن حراك أهل السنة الثوري الذين يحاربون على ثلاث جبهات: ضد الحكم الذي توافقت عليه القوى الإقليمية بدون مشاورتهم، وضد الميليشيات الشيعية التي تقوم بحملة تطهير عرقي في المنطقة، وضد تنظيم داعش الذي يتوسع في المنطقة ويمارس أعمالا وحشية باسم "الجهاد". لا نتسرع بالقول بأن هناك خرائط تقسيم قادمة لكل من سورياوالعراق رغم أن مؤشرات ذلك قد برزت، والحاجة إلى تأمين منظومة الأمن الإسرائيلي في سوريا صارت تفرض سلطة حليفة على الحدود السورية الصهيونية، كما الحاجة إلى إحداث دولة توقف تمدد الهلال الشيعي الإيراني في المنطقة. لكن، عدم التسرع في الحكم قبل نضج المؤشرات واطرادها لا يمنع من تسجيل ملاحظة مهمة تتعلق بتقييم هذه الاستراتيجيات الأمريكية المتعاقبة، إذ لم تنجح أي واحدة منها في تحقيق أهدافها، فلا استراتيجية مكافحة الإرهاب وأجندة الحرية التي رسمت خطوطها إدارة بوش أوقفت تناسل التنظيمات الإرهابية، ولا الإدارة الأمريكية امتلكت طول النفس لاختبار استراتيجية ترقية الديمقراطية، إذ اضطرت إلى أن تجهض مسارها كما حدث في مصر، والنتيجة، أنه بسبب الخوف من كلفة الديمقراطية وثمنها، اضطرت الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تلعب أو تسمح باللعب بالمحظور، وذلك حين شجعت دخول المقاتلين الأجانب وتسليحهم لمحاربة نظام بشار، فاضطرت في عملية الترجيح بين الخيارات في نهاية المطاف – بعد أن نزلت إيران ونظام بشار وحلفائه بكل ثقلهم- إلى اختيار محاربة الإرهاب والإبقاء على شعرة معاوية مع نظام بشار. ولم لا إحداث مقايضة مع نظام بشار من جهة عنوانها البقاء مقابل الترويض، ومع روسيا عنوانها السكوت على جرائم بشار وحمايته مقابل تخفيف وطأة التوتر معها على الجبهة الأكروانية، وترتيب خارطة جديدة في المنطقة تحدث فيها ثغرات في خطوط التمدد الامتداد الإيراني مقابل إنشاء حلفاء موثوقين لحماية منظومة الأمن الإسرائيلي. أمامنا اليوم تجربتان لتقييم استراتيجيات محاربة الإرهاب، التجربة الإصلاحية الديمقراطية في المغرب وتونس، اللتان نجحتا في الفوز بوضعية الاستثناء العربي في إحداث التحول السياسي المرتكز على التوافقات المجتمعية والتطلع نحو التنمية ونشر ثقافة الوسطية والاعتدال، والاستراتيجية التي يتم التعبئة والحشد لتنزيلها على الأرض في سورياوالعراق، فالنتائج التي ستظهر هنا وهناك ستكون حاسمة في اختبار اي الخيارات أنجع لمحاربة الإرهاب.