لا ريب أن غزو حلفاء الإثم والعدوان للعراق واحتلالهم لأرضه وتحكمهم في رقاب أهله شر مستطير، وبلاء كبير، وهو مصيبة عظمى نزلت بالعراق خاصة وبالأمة الإسلامية عامة، وليس فرد من أهل الإسلام إلا وهو يحمل هما وحزنا مؤرقا من جراء ما يسمعه وما يشاهده من صور العدوان ومظاهر البغي والظلم الذي يعيش شعب العراق صباحا ومساء وليلا ونهارا خلال هذه الأيام، غير أن ما يدبره الأعداء للعراق، وما يتآمرون به على شعبه من تقطيعه أمما ودويلات صغيرة لإحكام قبضتهم عليه، وتمكنهم من السيطرة المطلقة على المنطقة بأسرها، هو أشد خطرا من الاحتلال وأكبر ضررا في الحرب، وأسوأ عاقبة من كل ما نزل بالعراق من محن وبلاء، وهذه حقيقة جلية لكل أحد من الناس، يستوي في معرفة مساوئها ومخاطرها الخاصة والعامة. المقاومة الشعبية بالعراق سلاح دمار للأعداء وإذا كانت الحكومات المجاورة للعراق عاجزة عن دفع هذا الخطر الداهم لكونها سعت في جلبه على البلاد وساهمت بجد وكد في جره على الأمة العربية أو كانت راضية به لكونه على غرار الحديث النبوي (حوالينا ولا علينا) فإن على الشعب العراقي أن يبادر بمقاومة العدو الجاثم على أرضه ويرد كيده في نحره ويفسد عليه مخططاته ويقطع عليه الطريق حتى لا يتمكن من إتمام مكره، وذلك بإعلان الجهاد لإعلاء كلمة الله في العراق وإخراج عدو الإسلام من بلاد المسلمين، فالآن وجب الجهاد في العراق، والآن وجب على كل مسلم صالح في العراق وفي غيره من بلاد الإسلام أن يجاهد عدو الله وعدو دينه بما يستطيع من ضروب الجهاد: بنفسه أو بماله أو بلسانه أو بقلمه وفكره وعلمه، فالمقاومة الشعبية الصامدة هي (سلاح الدمار الشامل) للعدو، وهي الأداة الناجعة في طرد الأجانب من البلاد ودحر الغزاة المعتدين من أرض الإسلام، فبالمقاومة الشعبية خرج الاستعمار من البلاد الإسلامية التي استعمرها عشرات السنين وظن أنه لن يخرج منها أبد الآبدين، وبالمقاومة الشعبية خلعت الشعوب حكامها الطغاة كما وقع في إيران وأندونيسيا وغيرهما وتخلصت من بطشهم واستبدادهم، فإنه لا سبيل للعراقيين إلى إخراج العدو من أرضهم وإحباط مؤامراته على مصيرهم إلا بالمقاومة المسلحة وإعلان الجهاد في سبيل الله. ركائز الجهاد بالعراق ولا يتم لأهل العراق جهادهم هذا ولا يبلغ غايته المطلوبة إلا إذا قام على أربعة عناصر. أحدها أن يقوم الشعب العراقي بإنشاء قيادة نابعة من أبنائه فردية أو جماعية فيبايعها ويلتزم طاعتها ويأتمر بأمرها وينتهي بنهيها ولا يختلف عليها، وهذه القيادة ضرورية لتنظيم المقاومة وتأطيرها وضمان استمرارها وصمودها للمعوقات التي ستعترض طريقها، فالجهاد والمقاومة دون قيادة ولا إمام محكوم عليها بالفشل والانهيار، ومن أجل ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: >إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقي به< (رواه البخاري). وثانيها التنكر للوجود الأجنبي في البلاد، وتحدي احتلاله، وذلك بمقاطعة حكومته وعدم التعامل مع إدارته وعصيان ما يصدر عن سلطته من أمر ونهي وقانون وتشريع، ولو أدى هذا العصيان إلى العقوبة والسجن والاضطهاد، فكل ذلك من المقاومة والنضال الذي يستلزم الصبر والمصابرة والصمود والعناد، ويدخل في هذا الباب تنظيم المسيرات الشعبية والتجمعات الجماهيرية للتنديد بالاحتلال ومطالبة المحتلين بالخروج من البلاد فكلها أعمال ومواقف تزعج الغزاة المعتدين وتزلزل الأرض تحت أقدامهم وتجعلهم يدركون أن وجودهم بالعراق يعود عليهم بالعذاب والشقاء قبل أن يعود بمثل ذلك على أهالي العراق. وثالثها أن يجتمع الشعب العراقي على كلمة سواء، ويوحد صفوفه، وينبذ الخلاف والتفرق بين فئاته وطوائفه، فالسنة والشيعة والأكراد وغيرهم من الفرق الأخرى يجب أن يكونوا على قلب رجل واحد في مواجهة عدوهم ومقاومته وطرده من بلادهم، لأنه يعول في كيده ومكره على تعدد فئات الشعب العراقي واختلاف عناصره ومذاهبه، فيريد أن يضرب بعضهم ببعض ويلقي بينهم العداوة والبغضاء ليتمكن من تقطيعهم وتمزيقهم إلى دويلات صغيرة وكيانات ضعيفة يسهل عليه تطويعها والسيطرة عليها، فهو عدو للشعب العراقي كله بسنته وشيعته وأكراده، ويريد أن يمكر بهم جميعا، ولن يفضل فئة على أخرى إلا لمصلحته وقضاء حاجته، فيجب عليهم كلهم أن يتخذوه عدوهم ويحذروا شره ومكره مصداقا لقول الله سبحانه: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين). ورابعها أن ينشر علماء العراق وأهل الفكر من أبنائه ثقافة الموت في الشعب العراقي، ويبثوا فيه روح التضحية بالنفس وحب الشهادة في سبيل الله، ذلك أن أقوى ما عند العدو من سلاح وأشد ما لديه من آلة الفتك والتدمير، يصير في أعين المجاهدين في سبيل الله والمسارعين إلى الشهادة أملا منشودا وأمنية مطلوبة. الاستشهاد سبيل العزة والحياة الخالدة وفي زيارتي منذ سنتين إلى بيروت للمشاركة في مؤتمر علماء الإسلام حول العمليات الاستشهادية في فلسطين، كان أحد علماء لبنان يتجول بنا نحو الزائرين في جنوب لبنان ويقف بنا على مواقع المستشهدين على حدود فلسطين، ذكر لنا أن أحدهم كان إخوانه يعدون سيارته لعملية استشهادية، فأخذوا يضعون القنابل في أحشائها فقال لهم ضعوا منها تحت مقعدي لتكون أسرع لشهادتي. والموت في رؤية الإسلام ليس هروبا من الحياة ولا إيثار للعدم على الوجود، ولكنه موت من أجل إنشاء حياة عزيزة كريمة، وتضحية الفرد من أجل الأمة، وانتقال من حياة قصيرة إلى حياة خالدة، فإذا كان الإقدام على الموت لا ينطلق من هذه المفاهيم ولا يرمي إلى هذه المقاصد، كان عبثا ضائعا وعملا باطلا غير مقبول في الإسلام، وكان من أقدم عليه مقترفا لأكبر الكبائر وأعظم الذنوب، مصداقا لقول الله عز وجل (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا)، وفي السنة عدة أحاديث في التحذير من الانتحار والوعيد عليه، بل حتى تمني الموت والدعاء به غير مقبول في الإسلام، ففي الحديث: >لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه أنه إذا مات انقطع عمله وأنه لا يزيد المؤمن عمره الأخير< (رواه أحمد ومسلم) وقال صلى الله عليه وسلم "خيركم من طال عمره وحسن عمله" (رواه أحمد والترمذي). أما الموت بخوض حياضه والدخول في معتركه إعلاء لكلمة الله ودفاعا عن البلاد والعباد فإنه سبيل إلى مرضاة الله ونيل الشهادة وبلوغ المنزلة العالية عند الله عز وجل، وهذا هو الموت الشريف الذي نالت الأمة الإسلامية بالإقدام عليه والتنافس فيه عزة في الأرض ورفعة بين الأمم في عصورها الزاهرة، وهو الموت الذي إذا كرهته الأمة وفرت من أسبابه ودواعيه ذهبت هيبتها وضاع سلطانها وتغلب عليها عدوها، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال >يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا أمن قلة بنا يومئذ قال أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل تنتزع المهابة من قلوب عدوكم ويلقى في قلوبكم الوهن قالوا وما الوهن قال حب الحياة وكراهية الموت< (رواه أحمد وأبو داود) وانطلاقا من هذا الحديث الذي هو حديث من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وانطلاقا من تاريخ الأمة وقرونها الفاضلة، واعتبارا بالعمليات الاستشهادية التي أرهبت عدو المسلمين في هذا العصر وأفقدته صوابه ورشده، فإنه لا سبيل للعراقيين إلى إخراج الغزاة المعتدين في بلادهم إلا بإيثار الموت في عزة وإباء على الحياة في ذلة وتبعية، وهذا الموت له في الإسلام ثقافته ومبادئه التي أراد الإسلام أن تنتشر بين المسلمين ليعيها كل فرد منهم فيحيى بها سعيدا أو يموت بها شهيدا أو حميدا. مبادئ ثقافة الموت في الإسلام ومن أول هذه المبادئ أن الموت حقيقة قائمة وأمر واقع لا سبيل إلى رده ولا مفر لأحد منه، وهذا المبدأ يفرض على المومن أن يعمل في حياته على اعتبار الموت ويدخله في حسابه ويتوقع حلوله في كل وقت وحين وفي ذلك يقول عز وجل (كل نفس ذائقة الموت) ويقول سبحانه: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا)، ويقول جل ذكره (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) ومن مبادئ هذه الثقافة أن الموت حافز على المسارعة إلى العمل الصالح وباعث على المسابقة والمنافسة في كل ما ينفع الإنسان في دنياه وآخرته، يقول تعالى (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ويقول (وانفقوا مما رزقناكم من قبل أن ياتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) وفي الحديث: >إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها< (رواه أحمد والبخاري في الأدب) والفسيلة: النخلة الصغيرة تزرع لتكبر. ومن هذه المبادئ أن ذكر الموت والتحدث به والتفكر في أمره يذهب هيبته ويقلل الرغبة في زينة الحياة ويضعف التعلق بزخرفها وشهواتها وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم >أكثروا من ذكر هادم اللذات يعني الموت < (رواه الترمذي والنسائي) وقال صلى الله عليه وسلم: >زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة ولتزدكم زيارتها خيرا< (رواه مسلم) ومن هذا القبيل أمر صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز وجعله من حق المسلم على أخيه. ومن مبادئ هذه الثقافة التنبيه إلى محاسن الموت والتذكير بما فيه من مزايا ومحامد، حتى لا يحسبه المرء شرا لا خير معه ونقمة لا نعمة معها، فالموت خير من الفتنة، وأهون من البلاء الذي لا يطاق، وكما تقول الحكمة السائرة: شر من الموت ما يتمنى الموت لأجله، وفي الحديث اثنتان يكرههما ابن آدم يكره الموت، والموت خير له من الفتنة ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب< (رواه أحمد) ويقول صلى الله عليه وسلم: >والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء< (رواه البخاري) وقد حدثنا القرآن الكريم عن مريم إذ قال: (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا). ومن مبادئ هذه الثقافة إن الموت ليس فناء محضا ولا ذهابا في الأرض ولكنه انتقال من حياة قصيرة إلى حياة خالدة أبدية، وتحول من معيشة شقاء وعناء إلى معيشة نعيم وسعادة، وفي ذلك يقول سبحانه: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين أي القتل في سبيل الله وهو شهادة أو النصر والغلبة ) ويقول عز وجل: (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما تجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) ويقول تعالى: (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى). ومن هذه المبادئ تقصير الأمل، ومبادرة المرء بالصالحات قبل حلوله، وتوقعه في كل ساعة وحين، وقد جعل الله عز وجل التعلق بالأمل والغرور بطول العمر من جهل الكفار وضلالهم فقال سبحانه: (ذرهم ياكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) وفي الحديث: >كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور< (رواه البخاري وأحمد). ومن هذه المبادئ ذكر الجنة والنار واعتبار أثرهما في حياة المسلم والعمل على الفوز بالجنة والنجاة من النار، مصدقا لقول الله سبحانه: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: >الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك< (رواه أحمد والبخاري) وطمع المومن في الجنة وخوفه من النار يقلل من شأن الدنيا في نفسه ويهون عليه نقمها ومحنها ويجعله مستخفا بنعيمها وملذاتها، لكونه يحتسب عند ربه ماهو خير منها وكما قال عبد الله بن عمر: >لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة لم يكن غائب أحب إلي من الموت، ولما مرض الحجاج مرضه الذي مات فيه أشاع الناس: إن الحجاج قد مات وهو لم يمت بعد فقال أخرجوني إلى الناس فاخرج حتى قعد على المنبر ثم قال: يقولون إن الحجاج قد مات، وهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت. إنها ثقافة الموت التي يجب أن يعيها المسلمون عامة وأهل العراق خاصة، في هذا العصر عصر الذلة والمسكنة التي ضربت على الأمة الإسلامية، لعلهم يؤسسون على مفاهيمها حياة كريمة وينشئون بها أمة عزيزة ومنيعة، والله غالب على أمره. عبد الباري الزمزمي