النشأة والتطور والوصول إلى الحكم بالبيت الأبيض من هم الإنجيليون والمحافظون الجدد بالولاياتالمتحدة؟ وكيف استطاعوا الوصول إلى أعلى قمة في البيت الأبيض والتأثير في القرار الداخلي والخارجي؟ هل هم حزب واحد وجماعة واحدة، أم أحزاب وجماعات؟ وما هي وسائلهم ومناهج عملهم، التي خولت لهم أن يصبحوا قوة ضاغطة مؤثرة؟ وأي أفكار ومعتقدات يحملون في قلوبهم وكيف يلتزمون بها؟ وما موقفهم من الدين والسياسة؟ هل يومنون بالعلمانية فيفصلون بينهما، أم لا فرق لديهم بين المجالين فيصلون الأول بالثاني ويردون الثاني إلى الأول؟ أسئلة كبيرة تلقي الضوء على الوجه الديني للولايات المتحدةالأمريكية، وتأثير ضغط اللوبي المسيحي على الإدارة الأمريكية والجماعات المحلية والولايات الفيدرالية أيضا، وتمنحنا الفرصة لفهم الواقع السياسي والديني الدولي الذي جعل من واشنطن قوة استعمارية مهيمنة تتضاءل أمامها القارة العتيقة أوروبا، لتغض هذه الأخيرة الطرف عن الاحتلال العسكري المباشر للعراق من لدن "روماالجديدة" و"صقورها" بالبيت الأبيض، وذلك بعدما استوطن الصهاينة فلسطينالمحتلة و[1]أصبحوا قاعدة عسكرية وسياسية للولايات المتحدة منذ عدة عقود. كما يقفز إلى الذهن أسئلة ضخمة أخرى مثل محاربة الولاياتالمتحدة للتوجهات الدينية الرسمية ولشعبية في العالم الإسلامي، وكيف تفهم الحركات الإسلامية وحكومات الدول الإسلامية صيرورة العلو الإنجيلي اليميني وتوحده في ظل واقع التجزئة والتمزق الداخلي بين الفصائل الإسلامية من جهة، وبينها وبين باقي الهيئات المدنية السياسية الرسمية وغير الرسمية. على مدى ربع قرن عندما اقتنعت حركة "التحالف المسيحي" بالتحول إلى جماعة تأثير وضغط، شقت منعطفا جديدا في حياتها السياسية وأدركت بذلك نجاعة أرقى فنون العمل السياسي في القرن الواحد والعشرين، ألا وهو اللوبي القوي الكفيل بإسماع الصوت دون ضوضاء ولا استعراض للعضلات. وبهذه الخطوة انضاف لوبي المسيحيين الإنجيليين إلى لوبيات المزارعين، وأرباب الصناعة والموظفين والإسبانيين والسود والنسوانيين والشواذ... مشهد التنوع والتدافع السياسي بالولاياتالمتحدة استوعبه الوجه الصاعد "رالف ريد" وأدرك أن الحضور المؤثر يقتضي فهم الواقع وساحة المعركة، لذلك أفصح لأصدقائه قائلا: "علينا أن نعترف بأن المجال العام ليس كنيسة، صحيح أن فيه أبرارا ومخطئين كما هو الحال في الكنيسة، ولكن الوضع مختلف تماما، المجال العام لا يخضع لمقتضيات الإيمان. ولكن إذا سلم المتدينون أن الدين يمكن استغلاله، وإذا سلم غير المتدينين أن الدين يمكن استثماره، يمكننا جميعا في هذه الحال أن نتقدم إلى الأمام." الخطاب السياسي الجديد للحركة الدينية المسيحية دفع بها لأن تصبح أشبه ما يكون بالمظلة الواسعة وبالجماعة الملهمة لذوي القرار السياسي والثقافي بالولاياتالمتحدة، ورغم أن هذه الحركة ساندت الحزب الجمهوري دائما، ويعتبر رالف ريد اليوم نجما صاعدا من نجوم الحزب الجمهوري، إلا أنها لا تستثني أن تصوت لصالح الحزب الديمقراطي، إذ تبني أفكارها ومشاريعها، وذلك ما فعله بيل كلينتون في السنوات الأخيرة من ولايته، وما فعله المرشح الديمقراطي "آل غور" أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية ضد جورج بوش الأصغر حتى التبس الأمر على الناخبين بين المرشحين الإثنيين والحزبيين معا. تأثير حاضر قوي، وعلى الأمد المتوسط والبعيد، هذا هو عين ما يبغيه هؤلاء، كما يجلي ذلك رالف ريد نفسه بالقول: "وعينا بالتاريخ أساسي جدا، ففي الوقت الذي لا يتجاوز فيه تفكير السياسيين سنتين، نفكر نحن على مدى ربع قرن." مساندة "إسرائيل" قبيل انتخابات مجلس الشيوخ بثلاثة أسابيع، ويوم الجمعة 11 أكتوبر 2002 بالضبط نظم المسيحيون الأمريكيون الإنجيليون مظاهرة أمام البيت الأبيض للإعلان عن مساندتهم للكيان الصهيوني "إسرائيل". ورفعوا شعارات مثل "لا لدولة فلسطينية".. "على بوش أن يساند إسرائيل". وكان من بين المتحدثين "إيهود أولميرت" عمدة القدسالمحتلة، وزعيم الحزب الجمهوري في غرفة المستشارين "توم دولاي" والسيناتور جيم إنهوف (ولاية أوكلاهوما) والسيناتور "مسام براونباك" (ولاية كنساس)، والزعيم الإنجيلي الشهير جيري فالويل. والقس بات روبرتسون. وجميعهم جاءوا من أجل هدف واحد هو تجاوز جورج بوش الأصغر رغم أنه هو نفسه من أشد المتعاطفين مع الإنجيليين ومن المعتقدين بالرسالة التاريخية للولايات المتحدة، وأنه جمع في فريقه بالبيت الأبيض خليطا متميزا من اليهود المحافظين الجدد والمسيحيين الإنجيليين المساندين للكيان الصهيوني. متصهينون أكثر من الصهاينة حماية "إسرائيل" وضمان أمنها وبقائها، والعمل على توسعها وتفوقها على الدول العربية والإسلامية المحيطة بها، ومقاومة المقاومة الإسلامية الشعبية، وكبح جماح الصحوة الإسلامية قضايا مشتركة، التقت عليها كل من الصهيونية اليهودية والإنجيلية المسيحية الأمريكية، وسارع البيت الأيض إلى الالتقاء مع التيارين نتيجة الضغط الدائم والاعتقاد الجازم معا. ضغط من التيارين القويين، واعتقاد بأن "إسرائيل" ضرورة واقعية وفريضة سياسية ودينية للولايات المتحدةالأمريكية. لذلك أصبحت هذه القضية حماية "إسرائيل" من القضايا الكبرى التي تحظى باهتمام الناخبين الإنجيليين البالغين الآن حوالي 50 إلى 70 مليون شخص. وكثيرا ما يظهر هؤلاء اهتماما وحماسا لهذه القضية أكثر من اليهود الصهاينة الأمريكيين أنفسهم، إذ أنهم "يومنون" تدينا أن قيام الدولة العبرية منذ 1948 هو تحقيق لنبوءة إنجيلية. وكلما شعروا بأدنى تردد من لدن البيت الأبيض في إسناد ظهر السفاح أرييل شارون، سارعوا إلى الضغط بكثافة وبمختلف الأساليب على الإدارة الأمريكية لتعود إلى "جادة الصواب" والالتزام الأخلاقي والديني مع الكيان الغاصب. ومن زاوية نظر دينية خالصة يصنفون رجال الإدارة الأمريكية في خانتين اثنتين لا ثالث لهما: مؤيد للمسيح ومناهض له. فكولن باول مثلا من الصنف الثاني رغم وقوفه الدائم مع المساندة المستمرة لدولة بني صهيون، وإلى جانبه يحشر الإنجيليون كل الموظفين ذي الأصول العربية أو المتعاطفين العرب. قال رئيس الفريق الجمهوري في غرفة المستشارين ديم أرميه القادم من التكساس (ولاية آل بوش) في فصل الربيع من السنة الماضية في مناقشة متلفزة إنه يرفض أن يرى "إسرائيل" وهي تتخلى عن مقدار أصبع واحد من أرض الضفة الغربية لدولة فلسطين. ثم أضاف مفصلا أكثر: "ليس لدي أدنى اعتراض على إقامة دولة فلسطينية. هناك الملايين من الكيلومترات المربعة على امتداد الدول العربية. وبما أن لديهم الأرض والوسائل والإرادة فيمكنهم بناء دولتهم هناك." ولا يخفى على ذي لب وفطنة أن معنى ذلك هو ترحيل الفلسطينيين من الأرض المحتلة إلى البلدان العربية، وتفريقهم بينها والانتهاء من أمرهم. ولما سأله الصحافي كريس مايثوس عن ذلك قال "ولم لا، إن سكان الدولة العبرية قدموا من مناطق متفرقة، ويمكن للفلسطينيين أن يفعلوا مثلهم." ورغم أن "أرميد" تراجع عن أقواله لاحقا كما تنقل الصحافية الصهيونية "آن إليزابيت موثيت" إلا أن مسؤولين مسيحيين آخرين مثل القس جيري فالويل وجانيه بارشال، سجلوا ملاحظات وتصريحات لا تقل صراحة وجرأة عن هذه. غزل وتقارب.. فتحالف ظل أغلب اليهود الأمريكيين يصوتون في الانتخابات الرئاسية الأمريكية من الحزب الديمقراطي، وقليلا ما وجهوا أصواتهم جهة الجمهوريين، كما أن أموالهم تذهب حيث تذهب الأصوات. ولكن، منذ عهد ولاية ريغان بدأت الأصوات اليهودية تميل شيئا فشيئا جهة اليمين الجمهوري، وبدأت كلمات الغزل والتقارب والتحالف تجد مكانها في الصفحات الأولى والأعمدة الرئيسية في الصحافة اليهودية الأمريكية والصحافة المسيحية الإنجيلية. كلمات بسطها كتاب لامعون ورموز التيارين الأمريكيين في المنابر الإعلامية الشهيرة. ففي الموقع الإلكتروني اليهودي المخصص لكبار الكتاب في التيار الأمريكي المحافظ، يصرح كل من اليهود والمسيحيون بضرورة التعاون والتحالف. فهذا الصحافي اليهودي المتدين بنيامين ل. جولكوفسكي كاتب صحافي سابق في ووستريت جورنال، ومن مؤسسي الموقع المذكور سلفا كتب يقول: "لدي نقط مشتركة مع المسيحي الملتزم لدينه أكثر مما هي مع يهودي علماني لا أتقاسم معه أي قيمة على الإطلاق<، وويليام كريستول (المدير النافذ للأسبوعية الأمريكية الشهيرة "ويكلي ستاندار" في واشنطن، وابن إيريفينغ كريستول المثقف اليهودي المحافظ الكبير) له صلات حميمية قوية منذ سنوات مع الناشط الجمهوري المسيحي غاري باوير، حيث التقاه في إدارة الرئيس ريغان عندما كانا يشتغلان معا في مكتب وزير التربية ويليام بينيت. قال باوير "مساندتي لإسرائيلي دينية وإيديولوجية، الإنجيل واضح جدا بخصوص بلد التحالف: إن الله وعد هذه الأرض لليهود. ولكني أعتبر أن إسرائيل والولاياتالمتحدة حليفان طبيعيان ومتبادلان في الصراع الدائر بين الأصولية الإسلامية والديمقراطيات الغربية". وكان رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق مناحم بيغن أول من اعترف بإمكانية التقارب والتحالف مع المسيحيين الأمريكيين، وما أن وصل إلى سدة الحكم عام 1977 حتى شرع في توطيد العلاقة مع زعماء التيار الإنجيلي جيري فالويل وبيل غراهام وبات روبرتسون: بيغن قدم لفالويل "جائزة جابوتنسكي" اعترافا بخدماته لدولة إسرائيل" وهدايا خاصة وثمينة صنعت في الكيان المحتل. وعندما قام الكيان الصهيوني بتدمير المفاعل النووي العراقي تموز عام 1981 اتصل بيغن بجيري فالويل قبل أن يتصل بريغان، وطلب منه أن يبين للجمهور الجمهوري الأمريكي أسباب القصف وغاياته. التحية المقدمة من بيغن إلى رموز الإنجيليين المسيحيين الأمريكيين ردت بمثلها أو بأحسن منها، وتناسلت بعد ذلك صور التعاون المتبادل بين اليهود الصهاينة والمسيحيين الإنجيليين، وكل من أعلن من المسيحيين عن مشاعر الاستياء أو الكراهية الدينية سرعانما يتراجع عن ذلك إما بالضغط عليه، أو بتنظيم رحلات دينية إلى الكيان المحتل، كما حدث عام 1980 للقس بايلي سميث الذي صرح في مهرجان خطابي إنجيلي أمام 15000 مشارك بدالاس أن "الله لا يستمع إلى صلوات اليهود". نظمت له رحلة إلى "إسرائيل" بعد ذلك بأسابيع، تراجع في نهايتها عن تصريحاته السابقة. في مارس 1985 وعد فالويل في خطاب بالجمعية الحبرية بميامي، بتعبئة 70 مليون مسيحي محافظ لصالح "إسرائيل" وضد اللاسامية. وعلى عهد ريغان تسارع التقارب بين الإنجيليين واليهود الصهاينة، والتحق بعض رموز اليهود الأمريكيين بالحزب الجمهوري مثل الأستاذ الجامعي جان كيزكباتريك الذي عينه ريغان سفيرا له في هيئة الأممالمتحدة بعد أن اطلع على مقال له في مجلة "كونتري"، (مجلة يصدرها المعهد الأمريكي اليهودي يديره نورمان بودهو ريتز). اليوم، وبعد صعود رالف ريد الوجه الإنجيلي المسيحي الجديد، تزايد التحالف والتعاون المتبادل بين الفريقين. وهكذا أصبح المسيحيون الإنجيليون يساندون الدولة الصهيونية بلا قيد أو شرط، في حين أصبح كثير من اليهود الأمريكيين يتولون الدفاع عن قضايا المسيحيين في العالم. وخاصة في الدول العربية والإسلامية، ولعل أبرز مثال على ذلك "مايكل ج. هورويتز" (المدير القانوني السابق لوزارة المالية في ولاية ريغان) الذي أخذ على عاتقه منذ 1995 في إطار معهد هودسون الدفاع عن المسيحيين "المضطهدين" في بلدان السعودية والصين وإثيوبيا ومصر والسودان. وفي سياق التعاون والتحالف، تأسست "جمعية الصداقة الدولية بين المسيحيين واليهود" في شيكاغو، وتولى رئاستها الحاخام الكندي ياشيل إكتاشتاين. وقد استطاعت هذه المنظمة جمع تبرعات ضخمة للكيان الصهيوني منها 60 مليون دولار في السنوات السبع الأخيرة داخل الكنائس والتجمعات الإنجيلية الأمريكية. وفي صيف 2002 جمع إنجيليون آخرون 2 مليون دولار لمساعدة 400 يهودي أمريكي وكندي. الشبكات التلفزية الأمريكية المسيحية نظمت سهرات "التيليثون" لمدة 5 ساعات لجمع تبرعات ضحايا العمليات الاستشهادية الفلسطينية في مارس 2002. في مقابل ذلك، وبعد طول امتناع وحذر، فتحت المنابر الإعلامية ضفحاتها للزعماء والكتاب الإنجيليين الجدد وعلى رأسهم رالف ريد. الصف المرصوص صعود الإنجيليين المسيحيين وتحولهم إلى جماعة ذات تأثير نافذ وضغط قوي على القرار السياسي في أعلى مستوياته، وعلى الجمهور العريض للمجتمع الأمريكي، وسعيهم المتواصل إلى توسيع الجبهة الدينية إلى أوسع مدى ممكن، وتقاربهم الأخير مع الصهيونية اليهودية والكيان الصهيوني ضد العالم الإسلامي دون تمييز بين القادة والقواعد، ولا بين الملتزمين والمتراخين، كل ذلك يطرح نفسه بحدة ويجثم على صدور جميع الهيئات الرسمية وغير الرسمية في بلدان العالم الإسلامي لإعادة النظر في الخريطة الجيوسياسية الدولية وانعكاساتها على الكرة الأرضية، وموقع الكيانات العربية الإسلامية فيها. وبغض النظر عن الحرية الواسعة في الولاياتالمتحدة، وهامشها الضيق في بلداننا بضغط وطلب من واشنطن، فإن كل ذلك لا يغني من حتمية التكتل والتجمع شيئا، وإلا فإن رصاصة الموت والتمزق التي أطلقت منذ زمان علينا، ستقضي على ما بقي فينا من حركة دبيبة، ولا خلاص من التهديد القادم إلا بصف مرصوص على أوسع نطاق ممكن. حسن السرات