في اللقاء الذي جمعنا بالكاتبة والروائية المغربية خناتة بنونة في بيتها بالدار البيضاء بداية الأسبوع الماضي، بدت صاحبة «ليسقط الصمت» «والنار والاختيار»و»الغد والغضب»...بجديتها ووضوحها وصفاء لغتها، صورة ناطقة لما تتردد أصداؤه في كل كتاباتها منذ أن عشقت القلم رفيقا لدربها..كاتبة مناضلة، لها اختياراتها التي لم تتنازل عنها، وطنية وقومية، ومبدعة اختارت في زمن لم تكن فيه المرأة تختار «الموقف والكلمة». تحدثت بحماس ل«التجديد» عن جائزة «القدس» التي أشرقت منذ فترة قصيرة في مسارها الإبداعي والنضالي و الإنساني الذي يمتد لأكثر من 40 سنة، وقالت إنها ستقدم قيمتها المادية لمؤسسة «بيت مال القدس»، وحكت بحماس وفخر عن تبرعها بكل ما تملك من أجل نصرة القضايا الإسلامية والانسانية، وعن المدرسة الانسانية التي تخرجت منها في هذا التوجه. وفي قراءتها للمشهد السياسي بالمغرب، قدمت المناضلة والكاتبة بنونة، كل الامتنان للملك الحكيم لكونه جنب المغرب التطاحنات التي نراها في الساحات العربية، وشددت على ضرورة إعطاء الفرصة كاملة للمسؤولين الآن، نظرا لتراكم الفساد منذ عقود.مؤكدة على أن هناك إرادة عليا للإصلاح وإرادة شعبية للتغيير، لأن الوطن ومستقبله يجب أن يكون فوق الجميع : فوق الأحزاب ، فوق الكراسي، فوق تجار الديمقراطيات، فوق كل شيء - تضيف خناتة بنونة أول قاصة امرأة بالمغرب-. وعن توقعاتها بشأن سيناريو ما بعد انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة، عبرت المناضلة التي تقول دائما أنها ليست استقلالية بل علالية (نسبة إلى علال الفاسي)في دعوة ضمنية موجهة للجميع، (عبرت) بالقول «آمل خيرا، وأتمنى أن يعرف بعضنا الرشد وحسن التصرف وقراءة الواقع الداخلي والخارجي، وما تسمح به الظروف الداخلية والخارجية أيضا..»... أعلن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب عن فوزك بجائزة «القدس»، ما ذا تشكل لك هذه الجائزة في مسارك الإبداعي الحافل ؟ هي تتويج لمساري الإبداعي والنضالي و الإنساني الذي يمتد لأكثر من 40 سنة، وهو في عمقه يشكل عمري الزمني والإبداعي. أنا التي لم تعرف طفولة ولا مراهقة ولا شبابا ولا كهولة فكأنما خلقت من أجل هذا المسار. فالجائزة بالنسبة لي أكبر من أية جائزة أخرى ويكفيني منها أنها جائزة «القدس»، لذلك فأنا أضعها تاجا على رأسي امتنانا واعترافا، وأقدمها هدية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس الذي خصني برسالة تهنئة ، والذي أكن له محبة وتقديرا استثنائيين ، وللشعب المغربي الذي أنا منه وإليه ولكل الأقلام العربية والإسلامية والإنسانية المخلصة ذات المواقف والمبادئ الفاعلة. أما القيمة المادية للجائزة والتي كانت ستعوضني عما فات في مساري الأدبي ، الذي لم يسبق لي أن أخذت تعويضا ماديا عنه ابتداء من مجلة «شروق» وانتهاء بكتابي الأخير «الذاكرة المسترجعة». فقد أعلنت منذ إبلاغي بفوزي بالجائزة أنني سأقدمها لمؤسسة «بيت مال القدس».هاته المؤسسة التي يرأسها صاحب الجلالة، وتعد مفخرة للمغرب وللمغاربة دون بقية الدول العربية للأسف . كما استغل الفرصة لأقدم شكري لكل من اتصل بي مهنئا :رئيس الحكومة السيد عبد الإله بن كيران والسيد وزير الثقافة الأستاذ الصبيحي والدكتور هاني الفاسي مدير مؤسسة علال الفاسي وغيرهم من عموم شرائح المجتمع... قدمت رواية «النار والاختيار» هدية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأوقفت خزانتك على مؤسسة علال الفاسي وعلى الخزانة العامة بالرباط، والآن تتبرعين بقيمة جائزة «القدس». فمن أين ينبع هذا التوجه ؟ من إيماني أولا بأن الفكر يجب أن يسير في تكامل مع العمل، ومن افتراض أن الوعي المشكل لمنطلق أي كاتب يفرض عليه استشراف واستقراء الزمن : ماضيه ومستقبله ، واستقراء اللحظة وخفاياها وأبعادها من أجل بناء الإنسان والواقع. وكذلك من قراءتي لتاريخ الرجال الأفذاذ منذ الطفولة الذين كانوا مدرسة ولا يزالون .بالإضافة إلى بصمات الأبطال على مراهقتي : جمال عبد الناصر وعلال الفاسي ورئيس جيش التحرير عبد القادر شطاطو وغيرهم رحمهم الله . كما أن الممارسة الفعلية من أسرتي، قد فتحت عيني على أم تبرعت هي وأخواها بأراضيهم كلها لجيش التحرير. وهي أراضي كانت قد أهدتها بعض القبائل التي كانوا «يزططون» (يحمون) قوافلها من قطاع الطرق، بصفتهم شرفاء أدارسة، فكونوا إقطاعا كانت تسكن به حوالي 84 أسرة. أما والدي فكان يعتبر في مدينة فاس، أبا للمساكين و الأيامى والأرامل والأيتام والمرضى والعجزة، وقد ورثنا منهما هذا، أنا و إخوتي رحمهم الله الذين كانوا يفوقونني في هذا الميدان . ليس بالضرورة أن يمر كل مبدع بمثل هذه الظروف ليكون قلمه في خدمة القضايا الوطنية والقومية وغيرهما، إذ الوعي والمواطنة واستيعاب الواقع والتاريخ يفرض أن كل ذلك في خدمة ما يحمي ويبني الوطن والمواطنين : فكر ا وفعلا و إبداعا... استحقاق جائزة «القدس» كان على الأعمال الإبداعية التي تفاعلت مع القضية الفلسطينية. القضية التي شكلت هاجسا قويا في كافة إبداعاتك. كيف تشكل لديك هذا الوعي وتبلور عبر نتاجاتك الروائية والقصصية؟ يعود بي الزمن إلى البدء، وأنا ابنة عشر سنوات، حيث كنت مهووسة بالكتب كأنها هي لعبي وملعبي، وأذكر أنني كنت أذهب لبعض المكتبات الشعبية بحي الصبطرين» بفاس، الواقعة قرب القرويين، فوجدت بها صدفة كتابا اسمه «بروتوكولات حكماء صهيون»، لست أدري كيف وقع اختياري على هذا الكتاب. ولكنني منذ أن قرأته تشكل لدي وعي نضالي قومي، لا يكتفي بالنضال المادي والفكري. من أجل الدفاع عن الهوية والدين والتاريخ والحضارة وعن الماضي والحاضر والمستقبل هذا من جهة. ومن جهة أخرى لكوني فتحت عيني على أسرة تراكم نضالا منذ العهد الأندلسي إلى الآن. ومن جهة أخرى، مشاهدة معاناة الفلسطينين التي حركت كياني اتجاه هذه القضية. في أعقاب رحلة الحج التي كان قد أخذني إليها والدي قبل أحداث 1967 بقليل . وبالمناسبة زرنا القدس الشريف، ومدنا أخرى... وهناك رأيت كيف أن الإنسان الفلسطيني مشتت بين لفحات الصحراء وهجير الشمس في خيام ممزقة تعبث بها الرمال. هذه الأحداث رسخت لدي قناعة بأن هناك محاولة لإبادة شعب بأكمله، وإبادة تاريخ وحضارة وهوية...وعلى خلفية مشاهداتي ومعايشتي لهذا الواقع ببيت «صفافة» التي أبيدت في حرب 67، كتبت أول مجموعة قصصية لي بعنوان «ليسقط الصمت». وليس بالضرورة أن يمر كل مبدع بمثل هذه الظروف ليكون قلمه في خدمة القضايا الوطنية والقومية وغير هما ، إذ الوعي والمواطنة واستيعاب الواقع والتاريخ يفرض أن كل ذلك في خدمة ما يحمي ويبني الوطن والمواطنين : فكر ا وفعلا و إبداعا... «ليسقط الصمت» كان عنوان أول عمل أدبي تصدره كاتبة في المغرب. وبعد إثراء المشهد الثقافي بأعمال إبداعية أخرى، خلد هذا القلم الجرئ إلى الصمت، لماذا اعتزلت أو توقفت عن الكتابة؟ ليس هناك من اعتزال أو توقف. سبق وأن قلت بأنني «عبارة عن قلم يكتب وذات تنكتب باستمرار.و قد تأتي لحظات يهتز فيها الاهتمام بهذا الحقل نظرا لظروف قد تكون أكبر وأفظع . كتبت مرة موضوعا تحت عنوان «حوار» لعله نشر في كتابي «الحب الرسمي»، قلت فيه إذا كانت الزوابع والعواصف والزلازل تحدث تغييرات في الجغرافية، فما الذي يحدث هذه التغييرات في التاريخ ؟ هي بلا شك الأحداث السياسية الكبرى. لكن هذا القلم إذا لم يكن يحس بهذه الزلازل التي تحدث في الواقع ، وفي الأمة وفي الوطن وفي الإنسان، فهذا القلم ميت يجب أن يعيد النظر فيما يكتب وفي هذه الذات الكاتبة. وهكذا تمر مراحل بالإنسان الكاتب لا أقول سلبا ولا إيجابا ولكن أقول تفاعلا يأخذ أحيانا أشكالا مختلفة وهكذا.. ألم يكن ممكنا التعبير عن هذا التفاعل من خلال أعمال أدبية أخرى، مثلما فعلت في زمن عنفوان الكتابة؟ الكاتب ليس حرا في اختيار ما يفعل، فهو ليس مهندسا أو باحثا أو دارسا، ليتحكم في لحظة الخلق لأن الإبداع شيء منفلت يحكمك دون أن تحكمه. فأنا لا أكتب إراديا ولا أخط الكلمات الميتة. عبرت عن إيمانك بأن الكتابة أداة وفعل لتغيير الواقع، ألم يعد الأمر كذلك الآن؟ _ في أول استجواب صحفي لي، بعد صدور مجلة «شروق» وهي تعتبر أول مجلة ثقافية في المغرب وثاني مجلة في العالم العربي بعد «روز اليوسف»، أو بعد صدور «ليسقط الصمت». قلت حينها : «لا المدح يغريني ولا الذم يوقفني»، وإنما أنتمي لهذا الحقل ، من أجل تبرير الوجود على الصعيد الذاتي، والمساهمة في تغيير الواقع على المستوى الموضوعي. وأذكر أن الروائي العراقي الدكتور عبد الرحمن مجيد الربيعي، في دراسة له عن أعمالي: أن كتاباتي مغايرة عن كتابات جل النساء الكاتبات العربيات، لأنها متحررة من الجسد ومن الأنوثة، مع أنني أنثى «وأفتخر». وأضاف تعليقا على ما قال : «لأن قلمها ينغمس في القضايا المصيرية والساخنة والخطيرة» وكذلك كان الأمر منذ أن حملت القلم. هي الكتابة إذن «قوة ناعمة» تفعل فعلها طال الزمن أو قصر، كما قيل وكتب عن روايتي «الغد و الغضب» ، وجل كتاباتي أنها ترهص بكل ما هو مستقبلي فكرا وعملا . كيف تقييمين دور المثقف في التفاعل مع القضايا المجتمعية اليوم ؟ أنا مؤمنة بالمثقف الفاعل في مجتمعه، والمتفاعل مع قضايا وطنه ومجتمعه. ولقد اكتويت بهذا الرأي منذ انطلاقتي، وكنت أحارب وتستخدم ضدي شعارات الرجعية، الفاسية، البورجوازية..، وكأنني أخون الوطن. كل ذلك لأنني أكتب بلغة إبداعية راقية في زمن الماركسية واللينينية والاشتراكية العربية المزيفة. وأنا أساسا كاتبة ذات مواقف وقيم ومبادئ تعكسها كتاباتي وحياتي. وأذكر أن سجالا ونقاشا دار بيني وبين د. محمد برادة الذي كان رئيسا لاتحاد كتاب المغرب، في مؤتمر بالقاهرة ، جمع الروائيين المغاربة والمصريين، دعا إلى أن يأخذ الكاتب كل الحرية فيما يكتب، فاعترضت : هل نحن في زمن الإشباع والديمقراطيات والحريات حتى ندعو إلى ذلك. لأن المفروض في الكاتب أن يعكس ويحمل هموم و أحلام و متطلبات اللحظة التاريخية . أنت كاتبة قومية تحركها القضايا الوطنية والعربية والقومية، ألم يحركك ما يقع في الساحة العربية ويدعوك للكتابة؟ لا يحركني فحسب بل يبكيني وعلى أية حال فهناك استفهام عملاق الآن على «الربيع العربي»، هل هو كذلك أم خريف أم جحيم أم مخطط صهيوني أمريكي مع قيادات عربية خائنة ؟.. لكن هذا الربيع أحدث تغييرات قبل أن يتم الانقلاب عليها؟ نعم . لكن ما يقع بمصر تحديدا وسوريا وغيرهما من الدول، هو مخطط صهيوني يأخذ أشكالا متعددة. فبالأمس كانت جيوشهم تغزونا وأسلحتهم تقاتلنا، أما الآن فلا ضرورة لذلك لأنه صار البعض منا يقاتل البعض الآخر، هم يحركوننا ك «الكراكيز» من أجل نسف هذه الأمة التي ستظل صامدة، ومؤمنة بالحياة. فمنذ قرنين وأمتنا كلما حاولت الوقوف و الدخول في عصر النهضة إلا وأجهضت محاولاتها في المهد، ولكنني أقول في كل منبر و كل مناسبة : لسنا بهنود حمر فما أن نحرق حتى نقوم من رمادنا من جديد، لأن لنا من الحمولة التاريخية والعراقة والأصالة والحضارة ما يحفظ وجودنا على الرغم من كل ذلك. كمناضلة وكاتبة ما هي قراءتك للمشهد السياسي بالمغرب ؟ أقدم كل الامتنان للملك الحكيم الذي جنب المغرب التطاحنات التي نراها في الساحات العربية، لكن يدا واحدة لا تصفق. ومع ذلك، أقول لابد أن نعطي للمسؤولين الآن الفرصة الكافية، نظرا لتراكم الفساد منذ عقود. أنا متفائلة ومتشائمة، لأن هناك إرادة عليا للإصلاح وإرادة شعبية للتغيير، لأن الوطن ومستقبله يجب أن يكون فوق الجميع : فوق الأحزاب ، فوق الكراسي ، فوق تجار الديمقراطيات ، فوق كل شيء ما هي توقعاتك بشأن سيناريو ما بعد انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة؟ نحن ننتظر، وآمل خيرا، وأتمنى أن يعرف بعضنا الرشد وحسن التصرف وقراءة الواقع الداخلي والخارجي، وما تسمح به الظروف الداخلية والخارجية أيضا... هذه الدعوة الضمنية لمن توجهينها؟ للجميع .. كيف تعيشين تجربة اعتزالك أو بمعنى أدق استراحتك في سن 73 من عمرك؟ هذه الفترة ليست اعتزالا ولا استراحة محارب، وإن كنت أتمنى أن تكون استراحة محارب في المستقبل. أما الآن فهي فترة اشتغال على بعض الكتب، أرجو الله أن يسعفني بالعمر والعافية لتظهر للوجود، لأنها ليست ملكي وإنما هي ملك للجميع.