من عوامل تحطيم جسور الود والمحبة بين الأفراد بل وتحطيم الأفراد أنفسهم، إصرار المسلم على أن رأيه دائما هو الصحيح ولا خطأ فيه وأنه دائما على صواب. وثقة الإنسان بقراراته وآرائه ضروري حتى لا يكون شخصية مهزوزة، أو مترددة وفاشلة، فالأصل أن نظن في رأينا الصواب، ولكن تظل دائما هناك شعرة رقيقة بين الثقة بالنفس والاعتزاز بالرأي، وبين العناد وانغلاق الأفق ورفض رأي الآخر ولو ثبت صوابه. والمعتد برأيه هو ذلك الإنسان الذي غطى هواه عقله، فهو لا يرى غير رأيه، بل ويسفه آراء الآخرين أحيانا. وقلما يعترف بخطأ، بل يكثر الرد ويسعى لحماية نفسه وما يخصه، و يدافع عن رأيه دون الالتفات إلى آراء من حوله. قال الشاعر: "دع الجدال ولا تحفل به أبدا...فإنه سبب للبغض ما وجداَ"، ومن الاعتداد بالرأي إصرار الإنسان على كسب الحوار بنسبة مئة بالمائة مما يثير التعصب عند الطرف الآخر، وأقبح ما في الأمر أن يكون هَمّ المحاور إسقاط صاحبه وتتبع هفواته والتحايل عليه رغبة في تحقير رأيه. وإن ذلك كان دأب المكذبين للرسل، يقول جل وعلا: "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى انفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون" سورة البقرة: 86 فهم يقبلون القول إذا جاء موافقا لهواهم، ويردونه إن خالفهم. وهذا يشعر إخوانك بحاجز كبير بينك وبينهم، ويؤدي إلى انقباضهم عنك في الحديث، وربما عد بعضهم ذلك منك كبرا... فتتولد كراهيته لك في نفسه حتى لا يطيق صحبتك بعد ذلك... فاحذر من انتقاص أفكار إخوانك، و تجاهل آرائهم واقتراحاتهم. المطاوعة في حقيقتها هي استعداد من كل طرف للتنازل للطرف الآخر، إذا وقع اختلاف على أمر ما، وليس المقصود بهذا التنازل الرجوع عن حق صريح واضح، وإنما هو لين جانب حينما يكون الاختلاف بين الحسن والأحسن، أو إرجاء المناظرة في الأمر المختلف فيه؛ إبقاء على المودة، وإيثاراً لصفاء القلب، فكل منهما طيّع في يد أخيه، يتنازل هذا تارة، ويتنازل ذاك أخرى. إن اختلاف الآراء حول أمور الدين والدنيا، صغيرها وكبيرها وارد بسبب اختلاف عقول الناس وأفهامهم وطبائعهم وثقافتهم، يقول سبحانه وتعالى: "كان الناس امة وحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" سورة البقرة: 211. ومن ثم فالنقاش والحوار واختلاف وجهات النظر يجب أن لا يذهب بالمودة والمحبة، أو أن يدفع الإنسان إلى الاعتداد برأيه وتخطيء من سواه ومن ثم فتح الباب أمام العداء والخصومة والنزاع. قال صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم"(رواه الامام أحمد). أي في زرع العداوات والخصومات بينهم. فالتطاوع يثبت المحبة، والتعصب للمواقف والآراء يرفعها ويشتِّت شمل الأخوة ويشحن النفوس بالبغضاء. قال الله تعالى: "وأطيعوا الله ورسوله ولا تنزعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين"سورة الأنفال: 47 وفي الآية إشارة إلى أن عدم التنازع يَلزَم لتحقيقه الصبر على قبول ما لا يراه المرء راجحاً أو صواباً وهذا من أسرار ختم الآية بالوصية بالصبر وقد أشار إلى هذا المعنى عدد من المفسرين كالقاسمي والطاهر بن عاشور عند تفسير هذه الآية. وكلما كان المسلمون أقرب إلى قطف الثمرة كانوا أحوج إلى تقديم مصلحة الأمة على الأهواء الشخصية، فلا بد أن يتنازل أحد الأطراف المختلفة؛ ليطاوع الطرف الآخر، مؤثرا رضا الله، وجلب الخير العميم، ودفع الشر العظيم.