الوعظ تذكير للناس بما يلين قلوبهم ويبعدهم عن مهاوي الرذيلة والضلال، وهومسؤولية جسيمة تتجلى مظاهر خطورتها في كون الواعظ ينصب نفسه فقيها ومعلما للناس ونائبا عن الرسل في تبليغ الحق والهداية إليه، فكل حركة أو كلمة يقوم بها الواعظ تحسب له أو عليه: له بما علم الناس العلم ولم يكتمه، وعليه إذا لم يراع ضوابط الوعظ والإرشاد أو ابتغى منه الرياء والمباهاة. فالداعية الناجح في وعظه يجعل قلوب الناس تهفو إلى الحق وتتشوق إليه، وغيره يجر الشوك على الإسلام والمسلمين كما قال الإمام الغزالي رحمه الله بوصفه لأناس كثيري الحركة في خدمة الإسلام بدون فقه ودراية. وبغية استحضار ضوابط شروط الواعظ الناجح يقربنا الأستاذ أحمد الشافي من خلال هذا المقال: الواعظ الناجح. جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة: وعظ الوعظ، والعظة، والموعظة: النصح والتذكير بالعواقب. والوعظ هو: تذكيرك الإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب. وكلمة وعظ وردت في القرآن الكريم بصيغ مختلفة، وفي مواضع متعددة، منها: قوله تعالى في سورة البقرة(( ذلك يوعظ به من كان منكم يومن بالله واليوم الاخر...))1. وردت كلمة: يوعظ هنا بعد ذكر الطلاق وأحكامه، وحسن المعاشرة... وكذلك قوله تعالى في نفس السورة(( فمن جاءته موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله...))2. وردت كلمة: موعظة، بعد الحديث عن تحريم الربا. وجاء في سورة النساء قوله تعالى(( إن الله يامركم أن تودوا الامانات إلى أهلها ...إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا...فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا))3. ووردت كذلك في سورة يونس، والنحل، وسبأ، والمجادلة، والطلاق4. وفي السنة النبوية: روى الترمذي في سننه في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع: حدثنا بقية بن الوليد عن العرباض بن سارية، قال: (( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يارسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة...)).الحديث. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. المبحث الأول: الاجتهاد في التعلم والتعليم، والدعوة إلى العقل المتفتح. إن الواعظ الناجح الذي نذر نفسه ليقوم بتعليم الناس شؤون دينهم ودنياهم، ونصب نفسه لهذه الوظيفة التي هي في الحقيقة أمانة عظمى، ومسؤولية جسيمة، تعجز السماوات والأرض عن حملها، وحملها هو وتحملها. أقول: مسؤولية جسيمة لا يتحملها إلا من اصطفاهم الله لحملها، فالوعظ والإرشاد أو الدعوة إلى الله تعالى، إنما هي وظيفة الأنبياء والرسل. فالواعظ الداعي إلى الله تعالى، هو في الحقيقة ينوب عن صاحب الدعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقوم مقامه. فهو مبلغ عن الله وعن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو معلم، ومرب، وداعية في نفس الوقت. لذا عليه أن يراجع نفسه أولا ويحاسبها قبل الإقدام على هذا العمل، ويربيها ثانيا على حمل هذه الرسالة العظيمة، ويسلح نفسه بالإيمان، والتقوى، والورع، ثم العلم. الإيمان بما يدعو إليه، ويراقب الله تعالى في سره وعلانيته، وأن يكون عالما بما يدعو إليه. عليه بالعلم والتقوى. اللذان هما زاده وسلاحه في هذا الطريق الطويل والشاق في نفس الوقت. طريق يحتاج إلى زاد وافر، ويحتاج إلى نفس طويل، وهدف منشود، وخبرة بالمسالك والملاجئ. عليه بزاد العلم والمعرفة في شتى الفنون والمعارف، مع حسن الفهم والإدراك، وبعد النظر، والصدق، والأمانة، والفطانة. فالواعظ يطلب منه أن يكون ذا علم بالشرع حتى يتمكن من مواجهة التحديات التي تعترض طريقه، ودفع الشبهات، وإقناع مخاطبيه بالحجة والبرهان. قال تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: (( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين))5. أي على علم بما أدعو إليه، وبما أدعو به، وبالنتائج المترتبة على هذه الدعوة. فالواعظ عندما يجلس يدعو الناس إلى ما يصلح معاشهم ومعادهم، فهو يحتاج إلى علم. يحتاج إلى علم بالشرع، والشرع له علوم، وعلى رأس هذه العلوم: القرآن الكريم وعلومه، والسنة النبوية وعلومها، وكذا السيرة النبوية، لأنها تمثل شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، والتاريخ: تاريخ الدعوة والدعاة، ليتأسى بهم، والأدب، والفقه، والأصول. ويستحسن أن يلم بالعلوم الحديثة، وبخاصة منها: علم النفس، وعلم الاجتماع. لأنهما يساعدانه على رصد علل المجتمع بدقة، ثم يكون له نصيب من فقه الواقع. ففقه الكتب وحده لا يكفي. بل عليه بفقه الواقع، لأن فقه الواقع إذا انضاف إلى فقه الكتب، فإنهما يوسعان دائرة المعارف عند الواعظ، ومن ثم يصبح مؤهلا لهذا المنصب، منصب الدعوة إلى الله تعالى. فالواعظ الذي يرجو النجاح من وراء عمله، عليه أن يكون بصيرا بأحوال وعادات وتقاليد قومه وأمته، فقيها بشؤونهم وعاداتهم وتقاليدهم، وأحوالهم. فهو كالطبيب الحاذق، لا يصف الدواء إلا بعد معرفة وتشخيص الداء. فالواعظ الذي يرغب في صلاح وإصلاح الناس عليه أن يخالطهم، ويتعرف على أحوالهم، ويصبر على أذاهم. ومن ثم يأتي بالمواضيع التي تعالج تلك الأحوال معززة بالنصوص الشرعية، وأقوال الأئمة المشهود لهم بالعلم، مع التحليل الدقيق الذي يساعد على حل تلك المشاكل، ومعالجتها بالحكمة والموعظة الحسنة. أما الواعظ الذي يبتعد عن الناس ولا يخالطهم ولا يكون له فقه بواقعهم وأحوالهم، فهو كالطبيب المتهور الذي يصف الدواء دون أن يشخص الداء ويعرف أسبابه، فبدل أن يعالج مرضاه يزيدهم ألما على ألم. إذن، الواعظ الذي يرغب في الوصول إلى هدفه، ألا وهو صلاح قومه وأمته، عليه أن يراعي شؤون الناس وأحوالهم، ويستمع إلى أقوالهم وآرائهم، ويمحصها قبل إصدار الحكم عليها. ويفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم ويشاركهم همومهم، فهو طبيب روحي يعالج النفوس المنحرفة والعقول الحائرة التائهة. بل قد يحيي القلوب الميتة إذا وهبه الله تعالى التوفيق في أداء رسالته إن هو أخلص النية في عمله . فعليه إذن أن يتحلى بالحكمة ويربي مخاطبيه على الأمل والتفاؤل، ويكون شعاره دائما قوله تعالى(( قل يعبدي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم))6، دون إفراط أو تفريط،ويفتح أمامهم باب التوبة والإنابة ،ويحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم، ويبغض إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ويحارب فيهم داء اليأس والقنوط ، وعليه أن يحبب للناس الخير ويدعوهم إليه ،ويذكرهم بالثواب الذي ادخره الله تعالى للمحسنين المخلصين من عباده ،ويحذرهم من الشر وأهله، ويستعيذ بالله من ذلك. وقدوته في عمله هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم ولا يسأم من دعوتهم، رغم جحودهم وعنادهم. فعلى الواعظ البلاغ وعلى الله الحساب. المبحث الثاني: فهم روح العبادة وتفهيمها. الواعظ الحاذق، هو الذي يفقه دينه، يفقه أركان الإسلام وفروعه ،ويفهمها غيره ،يفهم الناس ويوضح لهم أن:الشهادتين معناهما تطهير قلب وعقل المسلم من كل نوع من أنواع الشرك والشبهات ، فالمسلم عندما ينطق بالشهادتين ،يجب عليه أن يفقه حقيقة النطق بهما ،فمعنى لا إله إلا الله . لا معبود في هذا الكون يستحق العبادة غير الله. لماذا، لأنه هو المالك الحقيقي لهذا الكون ،مالك لما فيه ومن فيه ، كل شيء بيده، لا راد لقضائه وقدره ولا معقب لحكمه . ومعنى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم :أن هذا النبي أرسله الله تعالى هدى ورحمة للعالمين، بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. فكل عمل تعبدي يقوم به العبد إذا لم يكن موافقا لسنته وصوابا، لا يقبله الله تعالى. ويفهم الناس أن الصلاة هي العبادة التي تربط العبد بربه طول يومه. ولها شروط وأركان وفرائض وسنن، ويجب أن يؤديها بركوعها وسجودها، كما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم .والهدف منها كما قلت :هو ذاك الرابط الذي يربط العبد بربه، فيقف أمامه في أوقات معلومة، وبكيفية مخصوصة، فيستحضر عظمة الله تعالى وجلاله وعزه وجبروته .ومن ثم يخضع لشرع الله فيطبقه في حياته، لا لهوى نفسه الأمارة بالسوء، ووساوس الشيطان. ثم الزكاة :يفهم الناس أن المال، إنما هو مال الله، وأن الإنسان مستخلف فيه ،فيبين لهم أن القصد من الزكاة، هو تطهير نفس المزكي من الشح، والبخل، وحب المال ،ثم التخفيف على الفقراء والمساكين وطأة الفقر والحاجة، بهدف نشر المحبة والألفة بين الفقراء والأغنياء لا الحقد والكراهية. أما الصيام :القصد منه هو تربية المسلم على الصبر، الصبر على البذل والتضحية وتحمل المشاق ومخالفة النفس .تحمل الجوع والعطش، حبس الأعضاء والجوارح عن ارتكاب المحرمات. فيصوم البطن، والفرج، واللسان، واليد، والرجل، إرضاء لرب العالمين . وأخيرا الحج :يفهم الواعظ الناس أن الحج عبادة مالية وبدنية. فالحاج يتقرب إلى الله تعالى بهذه العبادة ،فالحج يعوذ المسلم على التضحية، والبذل، والصبر، وتحمل المشاق ،فتسمو أخلاقه وترتفع. حتى إنه يكظم غيظه ،فلا يرفث، ولا يفسق، ولا يجادل، ما دام محرما .كل هذه التضحيات وهذه التنازلات يرجو من ورائها التقرب إلى الله تعالى، والفوز بالدرجات العلا. ويفهم الناس كذلك أن الغاية من إقامة الحدود، هي نشر الأمن والطمأنينة في الأمة. فيعم الرخاء والتقدم .وينتفي الخوف والرعب عن الأمة قال تعالى ((ولكم في القصاص حياة بآلي الألباب لعلكم تتقون))7.لا الانتقام من الناس . المبحث الثالث: أدب الاختلاف. إن الشرع الحكيم وأعني به القرآن الكريم والسنة المطهرة رسم المبادئ العامة للحياة .ودور الإنسان المسلم في التعامل مع الشرع الحكيم ومقاصده. إنما يتمثل في الاجتهاد في تحديد هذه المقاصد واكتشافها. لكن يبقى أن ما يصل إليه الإنسان مجرد رأي وليس دينا، بمعنى أن رأي المجتهد لا يكتسب صبغة القدسية . وكما هو معلوم، أن الرأي البشري معرض للخطأ والصواب ،لأنه يمثل فهم الشخص وقد يفهم إنسان آخر من خلال ما وهبه الله من الإمكانيات العقلية والفكرية، ثم الكسب المعرفي أو النظر إلى الموضوع من جوانب أخرى، فهما آخر فيما وراء النصوص. وخاصة أن بعض النصوص تحتمل قراءات متعددة، وتقبل التأويل. أما النصوص القطعية الدلالة فهي لا تحتمل التأويل. إن أئمتنا رحمهم الله تعالى وهم قدوتنا عندما اختلفوا، واختلافهم اختلاف تنوع الاختلاف تضاد فهم اختلفوا في الفروع لا في الأصول، فما زعم أحدهم أنه أصاب الحق الذي يريده الله تعالى. بل كل منهم قال :رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. وبقى الخلاف، وبقى الود، وبقى التواضع في أن كل واحد منهم بذل جهده لمعرفة مراد الله. وحتى يكون كلامي واضحا أسوق مثالا واحدا، يمثل قمة أدب الاختلاف بين الأئمة الأعلام .وفي عبادة كالصلاة ،يرى أبو حنيفة أن قراءة المأموم للفاتحة حرام، ويرى الشافعي أنها واجبة. ومع هذا فإن الشافعي وأبا حنيفة من أئمة المسلمين، ويسأل الشافعي عن أبي حنيفة فيقول: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة. لذا على الواعظ الفقيه الحكيم الواسع الثقافة صاحب الفكر الثاقب: أن يتجنب القذف أو الهمز أو الغمز أو اللمز، بل عليه أن يتأدب بآداب العلماء المخلصين من هذه الأمة حتى يؤدي رسالته كما أمره الله تعالى، وكما أمره رسوله صلى الله عليه وسلم وينجح في مهمته التي وكلت إليه. المبحث الرابع: مراعاة مستويات المخاطبين. يطلب في الواعظ أن يكون خبيرا بالنفوس ، خبيرا بوظيفته، فعندما يجلس يحدث الناس ويعلمهم شؤون دينهم ودنياهم عليه مراعاة مستوى مخاطبيه، فلا شك أنه يحضر إليه العالم والمتوسط الثقافة والإنسان البسيط عليه أن يراعي هذا الأمر، فيتجنب المعارك النظرية والتفصيل في التعريفات اللغوية والاصطلاحية. بل عليه أن ينزل إلى واقع الناس العملي وحل مشاكلهم الحادثة إن هو أراد النجاح في عمله، وكلما أقحم نفسه في معارك نظرية ليس وراءها كبير عمل إلا وابتعد بوظيفته عن أهدافها المرجوة. المبحث الخامس:بناء الإنسان المسلم. الواعظ المخلص يسعى دائما إلى أن يصل إلى هدف أسمى وهو بناء الإنسان المسلم الذي ينفع نفسه وأهله وأمته، ينفع نفسه وذلك بأنه ينقذها من الكفر والضلال، ويقيها من النار التي وقودها الناس والحجارة، وينفع أهله وأمته لأنه يربيها على حب الخير لنفسه وغيره عملا بالحديث الشريف(( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم)). فهذا هو الهدف الأسمى الذي ينبغي للواعظ أن يركز عليه ويزرعه في نفوس مخاطبيه. لأن المسلم إذا تربى على هذه المبادئ فإنه يكون إن شاء الله تعالى عضوا صالحا سيقوي جسم الأمة ويشد عضدها. ولذلك لا يسأم الواعظ من الدعوة فنور الفطرة ما زال في قلوب الناس. لكنه يحتاج إلى جهد وعمل متواصل ممنهج. فنور الفطرة إذا انعكست عليه أشعة العلم فإنها تفعل فيه عجبا. لذا على الواعظ أن يعي هذه الحقيقة، ويبحث عن السبل التي تسهم في بناء هذا الإنسان. وقدوته في عمله هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والعلماء العاملون المخلصون من هذه الأمة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. 1 البقرة: 230. 2 البقرة: 274. 3 النساء: 57، 58، 59، 60، 61. 4 يونس: 57،النحل: 90، سبأ46، المجادلة:3، الطلاق:2. 5 يوسف: 108. 6 الزمر: 50. 7 البقرة: 178. إنجاز: أحمد الشافي