(الجزء الأول) أصل هذ المقال الذي ننشره على جزأين بحث للأستاذ "عبد الله روحمات"، باحث بكلية الشريعة بفاس، وتتناول حلقة اليوم التعريف ببعض المصطلحات، وتحديد الهدف من وكالة الصلح بين الزوجين، وغيرها من الآراء القانونية والفقهية. أثير نقاش حاد على المستوى العملي حول ما إذا كان من حق الزوجين توكيل غيرهما لحضور إجراءات الصلح قبل تقرير الطلاق بينهما أولا، وسبب هذا النقاش هو اختلاف العمل القضائي في هذا الخصوص، ويتجاذب هذا الموضوع اتجاهان مختلفان، يدعو الأول منهما إلى مشروعية الوكالة في إجراء الصلح بين الزوجين قبل الطلاق، بينما يرى الاتجاه الثاني الذي يجد تطبيقا واسعا على المستوى العملي أن الصلح بين الزوجين مسألة شخصية غير قابل لإجرائه بطريق الوكالة، ولكل من الاتجاهين مناصرون ومناهضون، يتمثلون في رجال القانون ومهتمين وباحثين، ومازال النقاش إلى يومنا يشق طريقه بين أخذ ورد حتى أن البعض ممن ذكرنا لم يستطع الاقتناع بإباحة الوكالة في صلح الزوجين أو منعها فيه، وهذا ناتج بطبيعة الحال عن غياب نصوص واضحة تعالج هذا الموضوع. وسنعمل في هذه الدراسة على إزالة الغموض الذي يلف الموضوع، محاولين تسليط الضوء على بعض النقط التي اعتبرناها أساسية لتوضيح الموقف. يمكننا في البداية التعرف على عقد الطلاق وعقد الصلح ثم الوكالة، لأن هذه العقود هي محور هذه الإشكالية. وليس غريبا أن تثير هذه الإشكالية جدلا في الأوساط القضائية، لأن استعمال هذه العقود الثلاثة في قضية واحدة، هو من قبيل التباس العقود ببعضها، ولا شك أن اعتماد أحكام هذه العقود الثلاثة في قضية واحدة يطرح بعض الصعوبة في التطبيق، ويبعث الحيرة في النفس بين أحكام كل عقد والمدى الذي يمكن استخدامه من كل عقد منها للحصول على النتيجة التي يجب أن تكون مشروعة وسليمة. فالطلاق لا يمكن أن يتم إلا عن طريق سلوك مسطرة الصلح، التي أوجبها المشرع بمتقضى الفصل 971من قانون المسطرة المدنية، الذي ينص على أنه "يجب على القاضي قبل الإذن بالطلاق القيام بمحاولة إصلاح ذات البين بين الزوجين بكل الوسائل التي يراها ملائمة"، وبهذا يتبين أنه لا يمكن إيقاع الطلاق مجردا عن مسيرة الصلح، لأنه من الإجراءات الواجبة التطبيق قبل الإذن بالطلاق. والطلاق هو حل عقدة النكاح بإيقاع الزوج أو نائبه، أو بإيقاع الزوجة أو نائبها، أو بإيقاع القاضي. وإيقاع الزوج للطلاق هو من قبيل الحقوق التي أسندت له بمقتضى النصوص القرآنية التي تعالج الموضوع. وإيقاع الزوجة للطلاق على نفسها أسند لها بمقتضى ما أباحه الشرع لها طبق أحكام التمليك والتخيير. ولكل من الزوجين الحق في توكيل من ينوب عنهما في إيقاع الطلاق وفقا للقاعدة المقررة " من يملك حقا ملك التوكيل فيه". ولعل هذه المقتضيات لا تلاقي معارضة في الواقع العملي بحكم الوضوح الذي يميز الفصل 44 من مدونة الأحوال الشخصية بشأن الوكالة في الطلاق، سواء من الزوج أو الزوجة. ونشير إلى أن إيقاع الطلاق بالنيابة يحتاج إلى توكيل خاص ولا يمكن أن يستفاد من بنود الوكالة العامة. أما الصلح فهو حسم النزاع الواقع أو المتوقع بين طرفين، بتبادل التنازلات المادية أو المعنوية، وهو في قانون الالتزامات والعقود "عقد بمقتضاه يحسم الطرفان نزاعا قائما أو يتوقعان قيامه، وذلك بتنازل كل منهما للآخر عن جزء مما يدعيه لنفسه، أو بإعطائه مالا معينا أو حقا". فهو إذن عقد من العقود المسماة في القانون المغربي، وقواعده منظمة في القسم التاسع من الكتاب الثاني من قانون الالتزامات والعقود. ويجري الصلح في جميع القضايا التي لها طابع مالي، سواء تعلق الأمر بالأحوال الشخصية أو غيرها، إلا أنه لا يسري في حقوق النفقة، ويمكن إجراؤه في طريقة أدائها فقط. وهكذا يتبين أن الصلح يجب إثباته كتابة شأنه شأن باقي العقود، ليكون حجة على أطرافه في ما وقع عليه. والوكالة هي "إقامة الغير مقام نفسه في تصرف جائز معلوم ممن يملكه"، وقد عرفها قانون الالتزامات والعقود بأنها "عقد بمقتضاه يكلف شخص شخصا آخر بإجراء عمل مشروع لحسابه...". والوكالة من العقود التي شرعت في إطار الإحسان الاختياري، الأمر الذي جعلها تصنف ضمن عقود التبرعات، ما لم يتفق الأطراف على جعلها عقدا عوضيا. نص الفصل 888 من قانون الالتزامات والعقود على أن "الوكالة بلا أجر ما لم يتفق على غير ذلك، غير أن مجانية الوكالة لا تفترض : أولا : إذا كلف الوكيل بإجراء عمل داخل في حرفته أو مهمته، ثانيا : بين التجار في ما يتعلق بالمعاملات التجارية، ثالثا: إذا قضى العرف بإعطاء أجر عن القيام بالأعمال التي هي محل الوكالة". الهدف من سن عقد الوكالة تم تنظيم عقد الوكالة كباقي العقود المشروعة له أهدافه ودوافعه التي شرع من أجلها، وله فوائده التي تحقق به. فمن مبدأ التكافل الاجتماعي والتعاضد الإنساني الذي جاءت أحكام الشريعة ترغب فيه، جاءت الوكالة لتساهم في إكمال حلقات هذا التكافل الاجتماعي والإنساني. فالوكالة إذن ليست أكثر من وسيلة نعاضدية تكافلية يسد بها الشخص حاجته عندما يقف عليها. ذلك أن الإنسان لا يستطيع دائما أن يقوم بجميع مصالحه وقضاء حاجياته، ولا يقدر على مباشرة كل أعماله أو بعضها بنفسه، كما لا يهدي دائما إلى ما يناط به من أشغال خاصة التي تحتاج إلى نباهة وفطنة، أو على الأقل إلى خبرة وتجربة سابقة. فالمجتمع فيه الضعيف والهزيل، والشيخ المسن، والمرأة والمعطوب والغائب وغيرهم من شرائح مختلفة في المجمع، ممن يحتاجون من المساعدة والمساندة ما لا يخفى على أحد، وغالبا ما يحتاج هؤلاء إلى مد يد المساعدة في جانب من جوانب الحياة كلما تعذر عليهم مباشرة ذلك شخصيا، بل إن الحاجة إلى اعتماد الوكالة في إجراء التصرفات قد تدعو لها الظروف بالنسبة لكل شخص عاد ليس إلا. وفي الوكالة معنى التعاون الذي حث الله تعالى عليه في قوله عز وجل: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا عل الإثم والعدوان" فالمشرع سهل على كل ذي عذر، وأجاز له أن يوكل غيره في مباشرة بعض أعماله، حتى يتم النظام في شؤون العيش، وترفع المشقة والحرج، وبالتالي تتحقق المصالح فالحكمة إذن من تشريع الوكالة باعتبارها مظهرا من مظاهر التعاون، هي خلق نوع من الترابط بين أفراد المجتمع، والتآخي بينهم على وجع التآزر والتعاضد، وذلك في إطار جلب المصالح ودفع المفاسد. وهذا بدون شك مرغوب فيه في الشريعة الإسلامية. ويمكن القول إجمالا إن الوكالة تطبيق دقيق لقاعدة "المشقة تجلب التيسير" الأعمال التي تقبل أو لا تقبل الوكالة بما أن الوكالة جاءت لتحقيق هذه المعاني، خاصة وأنها في الأصل عمل تطوعي، فإنها تعمل في جميع مجالات الحياة المشروعة، التي تتحقق منها المصلحة سواء باشرها الشخص المعني بها أو شخص آخر بالنيابة عنه، مع العلم أن الأعمال والتصرفات باعتبار الوكالة تنقسم إلى نوعين: ما تجوز فيه النيابة. وما لا تجوز فيه، ولمعرفة ذلك فإننا سنعرض لأنواع التصرفات التي تجوز فيها النيابة بحسب المقاييس التي وضعها فقهاء المالكية لهذا التفريق: النوع الأول: ما كان تحقيق المصلحة التي شرع من أجلها يتوقف على فعل الشخص نفسه، ولا تتحقق المصلحة إلا بفعله هولا غير، فهذا النوع من التصرفات لا تصح فيه النيابة إطلاقا باتفاق علماء المذهب، لأن المصلحة التي يشملها منظور فيها لذات الفاعل نفسه، أي يجب أن يقوم به المعني باللأمر شخصيا ولا يتصور أن يصد لفائدته من غيره، وذلك مثل الأيمان في الحقوق وغيرها والشهادة والاعتقاد بالله ورسوله والصلاة والصيام وكذا النكاح بمعنى الوطء. النوع الثاني: ما كان تحقيق المصلحة التي شرع من أجلها يتوقف على الفعل ذاته، سواء ارتكبه صاحبه أو غيره. فالمصلحة متأتية لا محالة، لأنها منظور فيها لذات الفعل، فهذا النوع اتفق العلماء على أنه تجوز فيه النيابة إطلاقا. ومثاله جميع العقود المتجلية في المعاوضات والتبرعات وعقد التفويض وعقود التقييد وعقود الشركات والتوثيقات وحيازة المباحات والحقوق المختلفة كالخصومة وطلب الشفعة والصلح وقضاء الأمانات والودائع وغير ذلك. النوع الثالث: وهو ما كان تحقيق المصلحةالتي شرع من أجلها متوقفا على كل من الفعل والفاعل معا، أي منظور لمصلحته إلى الفعل وإلى الفاعل، فهو يتردد بين الأمرين كالحج. (يتبع) روحمات باحث بكلية الشريعة بفاس،