يتطلب تدبير مرحلة ما بعد اعتماد الدستور الجديد الذي أنصف الأمازيغية، وما يتطلبه ورش تنزيل ما جاء فيه حول تفعيل الطابع الرسمي لها و كيفيات إدماجها في الحياة العامة، وكذا المجلس الوطني للغات و الثقافة المغربية الذي من بين مهامه حماية وتنمية اللغة العربية و الأمازيغية، يتطلب كل هذا من الحركة الأمازيغية ونشطائها اعتماد مقاربة تضع الأمازيغية فوق كل الاعتبارات السياسية والأيديولوجية. ولعل أحد شروط النجاح في هذا التمرين التاريخي الانتباه إلى كمائن بعض وسائل الإعلام وتجنب التسرع في ردود فعل قد تسيء إلى القضية الأمازيغية من حيث يعتقد الإحسان إليها. لكن أهم ما يحقق شروط نجاح استحقاقات ما بعد الدستور هو استثمار جهود كل الفاعلين لما يخدم القضية الأمازيغية مهما كانت مواقفهم السابقة ومهما كانت توجهاتهم الايديلوجية والسياسية. إن النجاح في استحقاقات ما بعد الدستور يجد مؤشراته الحقيقية ليس في القوانين أو على واجهات المؤسسات الرسمية ولكن النجاح الحقيقي في ذلك هو مدى اندماج المواطن المغربي، كيفما كانت خلفيته الاجتماعية والثقافية، في ورش تنزيل دسترة الأمازيغية بصفتها لكل المغاربة. فالمواطن الواعي والمعبأ هو الضمانة الحقيقية لتحقيق النجاح في إدماج الأمازيغية في الحياة العامة. والمدخل إلى هذه الغاية يتطلب انخراط وتعبئة جميع الفاعلين في مجال التأطير والتنشئة الاجتماعية. وهو ما يضع على عاتق الحركة الأمازيغية اليوم عبئا جديدا ينضاف إلى أعبائها التاريخية والتقليدية، وهو عبء التدبير الإيجابي للتعدد الغني الذي تعرفه ساحة هؤلاء الفاعلين في مجال تأطير المواطنين. وهو عبء يتطلب وضع مصلحة الأمازيغية بصفتها قضية وطنية فوق كل الاعتبارات بما فيها ما يتعلق بمصلحة الحركة الأمازيغية نفسها، وهو ما يتطلب من جهة أخرى تجردا كبيرا من الاعتبارات الاديلوجية و السياسية الضيقة. وهي مهمة تتطلب النظر إلى ما يخدم الأمازيغية أكثر من النظر إلى ما يخدم الحركة الأمازيغية، و النظر إلى الجزء المملوء في كأس هؤلاء الفاعلين في مجال التأطير العام فيما له علاقة بالأمازيغية، وليس إلى الجزء الفارغ منه. قد يكون لبعض الفاعلين في مجال التأطير العام للمواطنين انتقادات قاسية للحركة الأمازيغية، ولكن قد تكون لهم مواقف جد متقدمة بالمقارنة مع متطلبات وش الأمازيغية اليوم. ومن غير المقبول أن تغطي الردود على انتقادات الحركة الأمازيغية لدى هؤلاء عن مواقف تخدم الأمازيغية بشكل حيوي، و تخاض معارك سياسية وإديلوجية مع هؤلاء تكون على حساب القضية الأصل. ومناسبة إثارة هذه الملاحظة هو «الفخ الإعلامي» الذي نصبته «الأحداث المغربية» للناشط الأمازيغي أحمد عصيد، فتسرع قبل التتبث، كما فعل أيضا قبل شهور في ما عرف بأكذوبة تحطيم صخرة الشمس، في مهاجمة أحد أكبر المؤثرين في الرأي في أوساط مغربية مهمة بل وفي أوساط واسعة في العالم الإسلامي، ويتعلق الأمر بالفقيه المقاصدي الدكتور أحمد الريسوني. و لا يتعلق الأمر هنا بدفاع أعمى عن رجل هو «فران قاد بحومتو» كما يقول المثل المغربي، بل يتعلق بأحد المعبرين عن مواقف تفيد القضية الأمازيغية بشكل أكثر فاعلية من كثير من التنظيرات والمقالات والخصومات وما إلى ذلك. على اعتبار حضوره الفاعل ليس فقط في الساحة الوطنية ولكن أيضا في الساحة الإسلامية بشكل عام. وعملا بحسن الظن نقول إن أحمد عصيد تسرع في الرد قبل أن يتسمع إلى شريط الفيديو الذي نقل جزءا من محاضرة الريسوني في الدوحة انتقد فيها الحركة الأمازيغية. ومن الراجح أنه اكتفى بأسئلة الصحافي التي استخرج منها عنوان مقالته في «الأحداث المغربية» التي جعلته المادة الرئيسية في عددها ليوم الاثنين الماضي. وهذا إن وقع، فنتيجته منطقية، وهو أن عصيد فاته أن يستمع إلى أحد أكبر المنظرين في الشأن السياسي الديني في العالم الإسلامي اليوم وأحد أكبر المؤثرين في الرأي العام داخل أوساط واسعة، وهو يتحدث عن قضايا تهم الأمازيغية وتهم الأكراد وغيرهم، ويقدم خدمة جليلة للأمازيغية في الأوساط التي يعتبر الريسوني من أكثر المؤثرين داخلها بدون منازع. لو استمع عصيد إذن إلى الشريط الذي بث على «اليوتوب» لعلم أن عالم المقاصد لم يتهجم على الحركة الأمازيغية بإطلاقها كما زعمت «الأحداث» بل انتقد جزء منها اعتبره توجها معاديا للدين وللغة العربية و غير بناء، وقال بالحرف الواحد أن هذا التوجه لا يمثل سوى واحدا في المائة (1 %). والريسوني في الواقع يتحدث عن «نزعة» تصاحب ذلك الجزء من الحركة الأمازيغية، تعاي الدين واللغة العربية، وليس الحركة الأمازيغية نفسها. وأورد أمثلة لمقولات أصحاب تلك «النزعة». لو استمع عصيد، لعلم أن الريسوني لم يشبه الحركة الأمازيغية ب»الهوتو والتوتسي» كما زعمت «الأحداث»، بل قال بالحرف في سياق انتقاده لبعض التصريحات والكتابات:»بعض الناس الذين تقرأ لهم أو تسمع لهم، لو ذهبت الأمور وفق فكرهم لوصلنا في قرن أو سبعين سنة إلى سيناريو الهوتو والتوتسي». بعد أن تساءل هل يريد هؤلاء أن يوصلونا إلى سيناريو الهوتو والتوتسي؟ لو استمع عصيد، لسمع أحد صناع الرأي وسط أوسع الشرائح في المغرب وخارجه اليوم يقارب القضية بواقعية حيث قال « إذا كان التاريخ قد قضى بأن هناك عربا وأمازيغ وأكرادا وأتراكا وفرسا، فلابد من التعامل مع هذا الواقع وليس هناك ما ينفيه وما يمنعه «. وهذا البعد الواقعي هو أكبر النقص الذي يمكن تسجيله في مقاربات كثيرة في أوساط، الريسوني وأمثاله وحدهم يستطيعون بعث روح التجديد داخلها. لو استمع عصيد، لسمع الريسوني الذي لم يكن يخاطب المغاربة فقط يقول «ليس هناك أدنى حرج ولا إشكال في تنمية الثقافة الأمازيغية واللسان الأمازيغي، والتاريخ الأمازيغي». وهذا رأي مفيد بشكل حيوي في بلدان يتهيب الناس فيها من فتح ملف الأمازيغية أو ملفات أخرى مثل ملف الأكراد في تركيا. لو استمع عصيد، لسمع الريسوني يقول: «الاحتفال بالسنة الأمازيغية مرحبا به. و الاحتفال بالتاريخ الأمازيغي مرحبا به وبالانجازات وبكل شيء مجيد وجميل وبناء، سواء كان قبل الإسلام أو بعده مرحبا به». وهذا موقف متقدم جدا بالنسبة لأوساط داخل وخارج المغرب يعلم عصيد لو استمع إلى المحاضرة فعلا، أن الريسوني يخدم القضية الأمازيغية داخل تلك الأوساط ويحتفظ بحقه بانتقاد الحركة الأمازيغية. لو استمع عصيد، لوجد في الريسوني عونا معتبرا يمكن لآرائه أن تساهم في حل معضلات إثنية كبيرة لعل أهمها مشكلة الأكراد. ولعلم أن الريسوني قال في هذا الشأن بأنه شخصيا مع إعطاء الأكراد أقصى ما يمكن من حقوقهم التي لا تهدم. بل أكد بأن إعطاء الأكراد حكما ذاتيا هو أمر بسيط ، موضحا أن استعمال اللغة الكردية في أي مؤسسة بغرض التخاطب الشفوي يعاقب عليه في تركيا، معتبرا ذلك ظلما شديدا جدا. وأضاف الريسوني بأن للأكراد وغيرهم حقوقا ثقافية وسياسية واجتماعية ولغوية وغيرها «يجب الذهاب في تحقيقها بعيدا». لو استمع عصيد إلى الشريط لما هاجم الريسوني لأنه انتقد الحركة الأمازيغية ولأشاد بمواقفه التي تدعم الأمازيغية، وتساهم في رفع العقبات النفسية والفكرية في أوساط واسعة لصالحها. هذه الواقعة المفارقة تقدم نموذجين، ألأول يمثله الريسوني وما له من ثقل تأطيري مهم له آراؤه الخاصة ولكن والمؤثرة فيما يتعلق بالأمازيغية في بعدها الشعبي وداخل شرائح واسعة. والثاني يمثله عصيد، بصفته أحد أكبر الفاعلين في الساحة الأمازيغية اليوم، و الذي لم يكن مع الأسف في الموقع المطلوب اليوم في التعامل مع المخالفين فيما له علاقة بالأمازيغية. والسؤال الحيوي هل ستتكرر مثل أخطاء عصيد في التعامل مع المخالفين حتى وهم يخدمون القضية الأمازيغية؟ وهل تتحول الحركة الأمازيغية إلى مقدس يعمينا الدفاع العاطفي غير الموازن عنها عن مصلحة الأمازيغية نفسها؟ أليس الأولى التركيز على ما يخدم الأمازيغية وإبرازه وتوظيفه وترويجه، من التركيز على ما لا يخدم سوى أغراض إيديولوجية وأجندات سياسية أغلبها مفلس؟ إن الحركة الأمازيغية اليوم مطلوب منها درجة عالية من تمثل قيم الانفتاح على المخالفين وقيم الاستيعاب الإيجابي الذي يغلب مصلحة الأمازيغية عن غيرها.