تذييلا على مبحث تضعيف الصحيح، الذي عقدنا له الحلقتين السالفتين، نقف اليوم على منهجية علماء المسلمين في النظر إلى الأحاديث الثابتة، التي توحي ظواهرها بإشكالات عند الناظر فيها، ونقارن عملهم هذا بمسلك آخرين .. فأما مسلك هؤلاء الآخرين فتتراوح بين الطعن والحكم بالشذوذ، فتجدهم إذا ما أشكل عليهم المعنى، يحكمون بوضع الحديث أو شذوذه، وبعضهم يدعي أنه يخالف القرءان أو الحديث المتواتر أو قواعد الشريعة، ومنهم من لا يستدعي هذه المخالفة، وإنما يدعي مناقضته للعقل أو للعلم.وأما مسلك علمائنا فيتراوح بين إمكان الجمع أو التوقف عند تعذره عند الناظر، ومعنى الجمع أن يزال إشكال التعارض الظاهر مع نص شرعي آخر أو قاعدة شرعية أو عقلية أو علمية، فإن صعب على الناظر فيه الجمع، رَجّح الوقف، ولم يتجاسر على الرد، وأوكل علمه لمن يفتح الله عليه في أمره. وهذا المسلك هو الأسلم والأوفق شرعا وعقلا؛ فأما شرعا فلا يجوز تكذيب صاحب الشريعة فيما ثبت عنه. وأما عقلا، فإن هذا العقل قد سلم بصحة المنهج المعتمد في إثبات ما ينقل عن صاحب الشريعة، فلا يعود فيناقض نفسَه فيبطله. فإن قيل: إن التسليم بانطباق شروط الصحيح على الحديث، لا يمنع عقلا إمكانَ وقوع الخطأ فيه. قلنا: إن المعول في الافتراض هنا على الإمكان الواقعي لا على العقلي، فإن مجاراة الإمكان العقلي قد يبطل العلوم كلَّها نظريا، لأنه سهل، أما الواقعي فصعب على من يدعيه، لأنه يستلزم إحاطة بجميع المعاني الممكنة واستقراء تاما لنتائج العقول والعلوم، من أجل إمكان افتراض إشكال صحيح، وهذا متعذر على فرد واحد، بل على جيل أو أكثر.ونمثل للتسرع في الرد، بحديث أشكل على بعض الناس حتى إنهم سخروا منه، وهو المشهور بحديث الذباب، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالأُخْرَى شِفَاءً» رواه البخاري رقم 3320، فقالوا إن هذا الحديث يناقض العلم والذوق، فكيف يغمس ذباب قذر في شراب طاهر ؟ ثم ما لبثوا أن نُكِسوا على رؤوسهم، حين أثبت علمُهم الإعجازَ العلمي في هذا الحديث، كما نطق به المعصوم صلى الله عليه وسلم. ولعل هذا الموضوع في حاجة إلى استيفاء أكثر، ولكن المقام ضاق، فانتظرنا أيها القارئ الكريم.