تعتبر الثقافة داخل أي قطر أو إقليم، قائدة التغيير ورائدة الإصلاح، كما تعتبر في الوقت ذاته حائلا وعائقا أمامهما ما لم تتحقق بشروطهما. والمقصود بالثقافة هنا طبعا، الكيان الكلي الشامل والناظم لكل مكونات القطر أو الإقليم، المعبر عن مستوى من النضج والتأهيل العلمي والعملي. فالثقافة – حسب فيلسوف الحضارة المعاصر مالك بن نبي رحمه الله- « نظرية في السلوك كما هي نظرية في المعرفة» تبني الكيان النظري كما تسدد وتُقَوِّم الممارسة والسلوك العملي. ومخطئ من يعتبرها ترفا نظريا لا علاقة له بالسلوك. ويعتبر المكون الديني(الاعتقادي / الإيماني) داخل الثقافة، في تقديرنا، أهم مكوناتها على الإطلاق. سواء وقع التصريح والوعي به أولم يقع. وسواء حددت وضبطت مجالات التأثير وكيفياته أم لم تحدد ولم تضبط، فكل ذلك ليس بمانع من وقوع هذا التأثير واضحا كان أم خفيا. ومع تسليمنا بأن الأفكار والنظريات يمكن أن تتحول إلى يقينيات وحتميات يتم الاعتقاد فيها كما يعتقد في الدين، فإن مرادنا بالدين –هنا – الدين الرسالي السماوي؛ الخطاب الإلهي الموجه إلى الإنسان عبر التاريخ، مٌسَدِّدا ومُقَوِّما، هاديا ومرشدا.. أي مغيرا ومصلحا من زوايا ومداخل متعددة ومختلفة. كما أن حديثنا في هذه الورقة سينصب على النص والرسالة الخاتمة؛ القرآن الكريم، من خلال محددات خاصة تجعلها أقدر على الإصلاح والتغيير بما في ذلك المجالات التي استبعد منها أو اعتبر خصما لها إلى عهد قريب. المدخل الديني ومشاريع التغيير والإصلاح من معظم التجارب التغييرية، الثورية أو الإصلاحية، التي استبعدته كفاعل مؤثر في الإصلاح والتغيير تسترجعه الآن بشكل أو بآخر.. بل إن بعضها بدأ يستغل هذا الدور بشكل بشع أكثر تطرفا وعدوانية؛ من مدخل سياسي يوظف الدين، أو من مدخل ديني منغلق مبني على فهم حرفي ونصي لا يواكب المتغيرات. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن المدارس اليسارية بما فيها الأكثر دوغمائية والعلمانية المتشددة والقوميات المختلفة كانت في بداياتها الأولى تبني نظرياتها التغييرية باستبعاد كلي للدين كفاعل أو مؤثر، بل وبمعاداته وخوض حروب إلغائية وإقصائية ضده. هذه الحروب الضروس التي ناهزت القرن من الزمان لم تُغَيِّر من واقع الدين ودوره في التأثير والتأطير شيئا، بل الذي تَغَير هو توجهات ومقاربات تلك المدارس والتيارات للمسألة الدينية خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أحداثا كبرى غيرت مسار التاريخ والتوازنات في العالم بأسره؛ كنجاح الثورة الإيرانية وانهيار القطب الاتحادي السوفياتي وسقوط حائط برلين..، إذا أضفنا إلى ذلك ما يحدث الآن من تغيرات نتيجة حراك «الربيع العربي» حيث لم تكن «إيديولوجيا» التعبئة - عموما – وشعارات النضال وعناوين الإصلاح.. شيئا آخر غير الدين نفسه. وكانت النتيجة واضحة أمام فشل الأطروحات الفكرية والنظم السياسية السابقة في إنجاح أي تغيير أو تقدم نحو ديمقراطية حقيقة تضمن الحقوق والحريات..أن يقع الاختيار على المكونات السياسية ذات الخلفية أو المرجعية الدينية؛ أي تلك التي كانت ترفع شعار الإصلاح انطلاقا من المدخل الديني. الإصلاح ما قبل الاستعمار إن الإصلاح في تاريخ الأمة قبل المرحلة الاستعمارية الحديثة، سواء كان علميا أو اجتماعيا أو سياسيا كان منطلقه ومرجعه الأساس الدين. كما أن بواكير الإصلاح في العصر الحديث منذ القرن التاسع عشر، كانت كذلك باسم الدين والرجوع إليه، قبل أن تبرز تيارات ذات مرجعيات أخرى - معظمها مستعار من التجارب الغربية - إلى ساحة التغيير والإصلاح، وبترسانة مفاهيمية أخرى كالنهضة والتنوير والتحديث والوحدة والتقدم.. وبعضها كان تنظيرا للثورة والانقلاب والطفرة.. وما إليها. لسنا هنا بصدد المفاضلة بين التيارات والمذاهب ولا بين المصطلحات والمفاهيم، فكل المفاهيم في اعتقادنا إجرائية إذا ما أُحْسِن بناؤها وتوظيفها، وكل التيارات لها جوانب من الصواب والخطإ. ولست متحمسا للخوض التفصيلي في أي نموذج. كما أن حديثنا عن القدرات التغييرية للدين لا يعطي شرعية ولا أفضلية ولا تميزا للذين انتدبوا أنفسهم للإصلاح والتغيير باسم الدين. ففرق بين التنظير القرآني للإصلاح والتغيير، وبين التجارب الإصلاحية عبر التاريخ قديمه وحديثه، إنه الفرق نفسه بين الوحي الإلهي وبين الفعل البشري، بين المطلق الحاكم (المعيار) وبين النسبي المحكوم ( المعير). حركات الأإصلاح والدين إن كثيرا من حركات الإصلاح والتغيير أخطأت موعدها مع الدين ومع سنن ومسالك التغيير التي ينص عليها، وإن تحدثت باسمه ورفعته شعارا وأفكارا. ولهذا كانت مقولة « العودة إلى الدين» دائما على رأس بنود الإصلاح، دون تحديد « كيف» تتم تلك العودة وما هي مداخلها ومراحلها، وأصولها وفروعها، وأولوياتها وارتباطاتها وامتداداتها..إلخ؛ إذ غالبا ما نجد مشروع «الإصلاح» ينتهي إلى نزال سياسي معين، أو مقاربة جزئية ضيقة، لا تكاد توحد وتؤطر أصحابها فكيف بغيرهم ممن حولهم أو أبعد منهم!. إن الذي نرومه من خلال التأكيد على المرجعية الدينية في التغيير والإصلاح: الإحالة على الأصول والمفاهيم الكلية والمستوعبة للزمان والمكان والمخاطبة للإنسان حيث كان، وعلى السنن النفسية والاجتماعية والثقافية والكونية، التي من أخطأها أخطأ طريقه إلى التغيير ولزمه العودة بعد مدة، الله أعلم بها، إلى نقطة الانطلاق الأولى. التجربة الغربية والدين إن التجربة الغربية نفسها، التي يحرص البعض على جعلها معيارا، منذ عصر النهضة والفصل بين المؤسسات وتضييق الخناق على الدين، نجدها تسترجعه في أشكال أكثر تطرفا وعدوانية وخرافية سواء من خلال الحركات التنصيرية الممهدة للاستعمار أو في الحركات اليمينية الإنجيلية المسيحية والصهيونية في صراعها السياسي أو في إيمانها بنبوءات العهد القديم والطقوس الملازمة لها. بل إن الدولة العبرية التي خرجت من رحم استعمارية علمانية عنصرية، بنت نفسها على « شرعية دينية « نفضت عنها غبار القرون وجعلتها فاعلة ومُؤَثرة في صوغ القرارات وتحديد المصائر.أي أن ثمة عملية استرجاعية سياسية نفعية صراعية للدين أكثر منها إيمانية قيمية بأبعاده وحقائقه الكبرى المتعلقة بصلاح الكون والإنسان. وهذه في منظورنا لا تختلف عن العملية الإقصائية الأولى، لأنه إقصاء وإلغاء لأهم مقاصد وغايات الدين وسننه في التغيير، ولا يمكنها أن تنتهي إلى شيء إذ ستصطدم بالحقائق الكبرى وتعود أدراجها إلى الوراء، بعد أن تخلف ضياعا في الوقت، وهدرا في الجهود والطاقات والموارد، وتشويشا على الأفكار والمعارف وحتى العلوم.. مما يحتاج بدوره إلى دورة إصلاحية تصحيحية إضافية. المسلمون والدين إن مشكلة المسلمين كانت في «انفصالهم» عن دين بنى لهم حضارة وصنع لهم أمجادا وجعل منهم ذاتا وكيانا. دين قائم على تمجيد العلم والفكر، والحرية والإبداع، والعدل والإنصاف، والكرامة والكينونة البشرية.. دين شامل مستوعب يعادل فيه عالم الغيب عالم الشهادة في جدلية متوازنة يتوسطها ويقودها الإنسان. فمنذ وقع الانفصال التدريجي عن قيم الإيمان والعمل وبينهما كذلك، بدأ مسلسل الانحدار والانهيار؛ حيث تدعو الضرورة الآن إلى «الاتصال» من جديد بتلك القيم قصد استئناف البناء والعطاء. أي الاتصال بقيم الإيمان والعلم والعمل والحرية والفكر والإبداع والكرامة والمسؤولية.. وكل ما ينشط ويرشد حركة وفعل الإنسان تجاه نفسه وتجاه محيطه. نحن إذا أمام تجربتين: إحداهما كانت اتصالا سيئا استوجب انفصالا، والأخرى كانت انفصالا سيئا استوجب اتصالا. ووضعنا الاتصال والانفصال بين حاصرتين حرصا على نسبيتهما وتجنبا للإطلاق. هذا مع اعتقادنا بأن ثمة تفصيلات مكملة قد يحتج بها البعض على ما نقول، نذكر من ذلك أمرين اثنين: الأمر الأول، قول القائل بأن ما حدث في التجربة المسيحية من تسلط واستبداد وخرافية وأسطورية وبدخ وترف.. حدث مثله أو ما يقاربه في تاريخ الإسلام؟ نقول: ثمة فارق كبير بين التجربتين وإن وقع تقارب أو تشابه في بعض العناصر. فمن جهة: لا عصمة لأحد في الإسلام بعد الأنبياء وإن جعلت في عموم الأمة لاستحالة تواطئها على كذب أو منكر، ولا طبقة كهنة أو أكليروس يحتكرون النظر في النص وتفسيره، ولا دولة دينية صرفة لا مكان فيها للعقل والفكر والجهد البشري. فليس لما سمي بأهل الحل والعقد أو الجماعة الشورية في تاريخ الإسلام شيء من ذلك على الإطلاق، وإنما ينحصر دورهم في النصح والإرشاد ومساعدة الإمام. ومن جهة أخرى، يبقى النص في التجربة الإسلامية هو الحاكم المصحح، باعتبار خاصية الحفظ التي تفرد بها، فهو النص الوحيد الذي يتلى كما أنزل لم يخالطه قول بشر، وباعتبار خاصية الختم والهيمنة والتصديق التي تجعله مستوعبا للإرث النبوي والرسالي السابق عليه. ومن ثم يكون مصدر ومعيار التقويم منفصلا عن التجربة، وكل أضرب الفساد والطغيان التي حدثت في تاريخ الإسلام شرقا وغربا، وتشبه من وجه أو من وجوه ما حدث في المسيحية على العهد الروماني أو في بلاد الفرس أو غيرها.. باعتبارها نزوعات بشرية مغالية، تُقوًم وتسدد من خلال النص المستوعِب(بكسر العين) للزمان والمكان وليس المستوعَب (بفتح العين) فيهما. فالنص هو الحجة الدائمة الشاهدة بالحق والعدل على الناس، وليس تقديرا بشريا نسبيا ينتحل صفة الإطلاق. فلما أراد عصر النهضة وعصر الأنوار من بعده، تجاوز الفكر اللاهوتي الوسيط وقعا في غلو مماثل لا تخفى مشكلاته وأزماته الآن التي هي محل نقد عنيف من مفكري وفلاسفة الغرب نفسه. مقولة الازدهار دون دين الأمر الثاني، قول القائل بأن الغرب تقدم وازدهر وتطور رغم استبعاده للدين وانفصاله عنه، ولم يشكل ذلك أي عائق أمام نزوعه التحديثي وذلك يمكن أن يحصل لأي مجتمع أو تجربة إذا ما تحققت بنفس الشروط.؟ نقول بأن في الأمر تفصيل نختصره فيما يلي: فمن جهة، إن سنن وقوانين النهوض المتعلقة بالجانب المادي والطبيعي واحدة ، فمن اشتغل بها وأخذ بها والتزم نظامها رفعته، ومن أخل بها وضعته. يتجلى ذلك في سنة العلم بمختلف فروعه وتخصصاته في محاورته واستكشافه للكون والكائنات .. وفي سنه العمل والجهد البشري المبذول في البناء .. وفي سنة الزمن في صيرورته التي لا تتخلف؛ ليس الزمن التاريخي الرتيب الذي يعد بالأيام والشهور والسنين، وإنما الزمن النفسي والثقافي والحضاري الذي يعد بالمنجز في اليوم بل وفي الساعة .. وفي قيم العدل والإنصاف والصدق والإخلاص .. وغيرها. فهذه السنن والقيم لا تحابي مسلما من كافر ولا مؤمنا من ملحد؛ وقديما نص العلماء على أن الله تعالى ينصر الأمم العادلة الكافرة على الأمم المؤمنة الظالمة، لعدل الأولى ولظلم الثانية طبعا؛ وهل يجتمع إيمان بظلم؟ فهذا الذي ميز عطاء الحضارة الإسلامية الأولى ويميز عطاء الحضارة الغربية اليوم ويمكنه أن يميز عطاء أي حضارة التزمت المنهجية السننية في البناء. ومن جهة أخرى، لا تكفي السنن الكونية والمادية وحدها في البناء الحضاري والازدهار العمراني، فلا بد من منظومة قيم مرجعية مؤطرة تسدد وترشد حركة الإنسان في فعله وإنجازه. ومادام الإنسان كائنا نسبيا عرضة لمختلف الآفات كان لازما أن تكون تلك المنظومة من غيره لا من عنده، وليس ثمة من يعلم العلم المطلق بالكون والكائنات إلا خالقها سبحانه وتعالى، ومن ههنا ضرورة لزوم قيم الفطرة والدين بالإضافة إلى قيم العلم والعمل، إذ كلاهما من مشكاة واحدة ولا تعارض بينهما إلا ذاك الذي يفترضه ويختلقه الانسان في هذه التجربة أو تلك. والذي عبر عنه كثير من العلماء بضرورة ملازمة السنن الدينية الشرعية، فمنزل الوحي ومرسل الرسل هو خالق الكون ومسويه ومرتب سننه ومقدر كل شيء فيه. فمهما بلغ الازدهار المادي والانجاز العلمي والحضاري ما لم يكن مستجيبا لكينونة وفطرة الإنسان متعددة الأبعاد، مادية ونفسية وروحية.. وملتزما بقيم العدل والإنصاف والحرية والكرامة.. فإنه سيبدأ بإفراز مشكلات إنسانية وطبيعية ستكون مؤذنة بخرابه عاجلا أم آجلا . وهل سقطت الحضارة الإسلامية إلا من هذا القبيل، وهل النخر الموشك على إسقاط الحضارة الغربية إلا من هذا القبيل كذلك. تنبأ بذلك من علمائنا العلامة ابن خلدون لما وضع عناوين هي بمثابة قواعد وسنن تاريخية وعمرانية وحضارية تؤكد أن علل الترف والبذخ والظلم والفساد .. والاحتماء بالجند والأسوار.. كلها مؤذنة بخراب العمران. كما تنبأ بذلك في الغرب مؤرخون كثر من مثل البريطاني أرنولد توينبي والألماني ازفالد شبنغلر..ونقاد معصرون كثيرون. الغائب الأكبر في معادلة الاسترجاع الديني تعددت أشكال التعامل مع الدين رؤى ومناهجا بتعدد المدارس والتيارات، إذ تراوحت من الخصومة الكلية المستبعدة له، جملة وتفصيلا، إلى الالتزام النصي والحرفي الظاهري بالأشكال والرسوم من غير إدراك للعلل والمقاصد والحكم. مرورا بالتصنيفات والمقاربات المختلفة، سواء تلك التي تجعله في دوائر ضيقة خاصة، أو تلك التي تُوَفِّق بينه وبين غيره، أو تلك التي تحاول الكشف عن بعض حكمه ومقاصده، أو بعض جوانبه الاجتماعية والنفسية. هذا فضلا عن المحاولات النفعية والتوظيف السياسي أو الأيديولوجي لأغراض مصلحية ضيقة أو فهوم قاصرة. لكن الغائب الأكبر في كل هذا هو البعد المعرفي الفلسفي للدين الباني للأنساق والمُشَكل للرؤى في الوعي والفكر والتربية والثقافة والعلوم المتعلقة بالنفس والمجتمع والكون المحيط. فهذه قراءة لم تنجز بعد أو أنجز فيها القليل، وما تزال بحاجة إلى المزيد. إن حاجتنا اليوم شديدة إلى نظريات في المعرفة والعلوم تضفي عليها الأبعاد الغائبة عنها. النظريات التي تعكس البعد الفلسفي والمعرفي للدين في تأطيره لفكر وسلوك الإنسان، وفي تأطيره للحياة والوجود ككل. ذلك أن التلاشي الذي بدأت تعرفه الفلسفات الكلية الكبرى ( العقلانية، العلمية، الطبيعية، الإنسية..) إنما هو لصالح توجهات جزئية هيمنت عليها النزعات الفردانية والحريات المطلقة التي لا تؤمن بسقف مطلق أو عقلي أو علمي أو اجتماعي إنساني... وإنما هَمُّها الإشباع وحسب، اللذة والمتعة وحسب. وإذا عِيبَ على تلك الفلسفات الكبرى خصومتها للدين ككل بدل رجاله في الكنيسة الذين استبدوا باسمه، ومن ثم فَوَّتوا فرصا للتزود ببعض القيم النافعة، فإن الذي يعاب على النزعات الفردانية المعاصرة إهمالها وتجاوزها للكل. ذلك ما عبر عنه بعض النقاد بعصر السيولة المتجاوز لكل محدد صلب. الأخطر من ذلك أن هذه النزعات الفردانية وإن أخذت لها شكل جماعات معينة، أو شركات إنتاجية عملاقة لا تؤمن إلا بالربح وإغراق الأسواق بالمتع الخادعة.. أضحت هي من يوظف العلوم والمعارف لصالحها، وهي من يعيد تعريف الإنسان وصوغ ثقافته الجديدة، وهي من يقود أو يؤثر – ضمن تحالفات معينة- في منظومة الحقوق والحريات تقنينا واعترافا بالوجود، ويكفي أن نذكر هنا مؤشرات مثل ( الشذوذ، الزواج المثلي، نماذج الأسر الجديدة، الحريات الجنسية، الإجهاض، العنصرية، العرقية، التطرف...). إلى أين تتجه البشرية وفق هذا المنظور وهذه الاختيارات؟ إلى المزيد من الإجهاز على الإنسان باسم الإنسان ! إلى المزيد من الإجهاز على الحقوق والحريات باسم الحقوق والحريات ! إلى المزيد من القهر والاستعباد للشعوب باسم الشرعية الدولية والمنتظم الدولي ! إلى المزيد من العبث بالعلوم والمعرفة والثقافة باسم العلم والمعرفة والثقافة ! إلى المزيد من الإجهاز على قيم الفطرة والكينونة البشرية، وإحلال القيم الصناعية المستبدة بالإنسان في فضاءات محكمة الإغلاق والإقناع وتشكيل الآراء والأذواق بل الأحلام ! كل ذلك.. وغيره يجعل الإنسان – أمام غياب تأطير نظري وسطي معتدل مُرَاعٍ للكينونة والفطرة وللعلائق والوظائف التكاملية- في صراع مع نفسه من جهة، ومع أخيه الإنسان من جهة ثانية، وهو يحاول الاستجابة لنزعاته الإشباعية وطموحاته التوسعية. مما يستدعي ضرورة تدخل ترشيدي تصويبي لفلسفات العلوم ونزوعات التحديث والتطور بما يعود بالنفع على الإنسانية كلها وليس على جزء منها فقط. في ترشيد العودة الدينية ونزوعات التطور والتحديث: إذا غضضنا الطرف عن مدى إمكان إنتاج خطاب فلسفي معرفي من النصوص الدينية للكتاب المقدس لاعتبارات عدة متعلقة بالنصوص وموضوعاتها وتطورها التاريخي تدوينا وتوثيقا وترجمة..، فإننا لا نستطيع فعل ذلك بالنسبة للنص الخاتم الذي خضع لمنهج اصطفائي جديد للرسول والرسالة، وتَمَيَّز بمحددات وخصائص منهاجية عدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: محدد الختم نفسه، ومحدد الحفظ، ومحدد الهيمنة والتصديق، ومحدد الإعجاز، ومحدد الشمول والاستيعاب، ومحدد العالمية والكونية، ومحدد العلمية أو الآياتية أو السننية... وغيرها من المحددات. نحن بحاجة إلى تحريك كل هذه المحددات باعتبارها إمكانات وقدرات اجتهادية وتجديدية وإبداعية كامنة، تجعل الإسلام قادرا على التأطير والتنظير من مداخل مختلفة ومتعددة؛ علمية ومعرفية واجتماعية... وأكبر من أن يُختزل في نزال ومعارك سياسية، أو أن يقوده تيار أو مذهب، وإن كان هو نفسه سياسة تدبيرية عامة وفق منهجه ومنظوره الكلي وليس التبعيضي. ولا يخفى أن الانتفاضات الأخيرة للشعوب العربية، واستنادها إلى الدين في ذلك، وتجاوزها لتنظيرات النخب الفكرية والسياسية، الدينية والعلمانية على حد سواء، هو تعبير عميق عن تجذر القيم الدينية الفطرية في النفس البشرية الرافضة للظلم والقمع والاستبداد. والباحثة عن الكينونة والعدل والحرية.. وسائر القيم المعبرة عن هوية الإنسان الحقة وعن ذاته المكتملة. إن هذا الوعي الشامل متعدد المداخل هو ما يجعل الدين حاضرا مع الإنسان حيث كان، يزوده بما يحتاجه من قيم وتصورات وتقديرات في حياته الخاصة والعامة، ويحجزه عن أشكال الغلو والزلل التي تكون المقاربات الجزئية في الغالب سببا من أسبابها. كما أنه يسهم في إيجاد قاعدة مشتركة في التغيير تتكامل فيها جهود الأطراف المختلفة المؤمنة بالتغيير والإصلاح. وفي هذا السياق نظن أن العناصر التالية يمكنها أن تكون أوراش عمل ونظر في الترشيد المطلوب: 1-ضرورة التعامل مع الوحي ( قرآنا كريما وبيانه السنة النبوية)كحاضن لأصول نظريات كبرى في الوجود والنفس والعلوم والمجتمع والمعرفة.. من منظور الوحدة البنائية النسقية للنص ككل. وفي الأفق الإنساني الكوني تبعا لأفق الخطاب نفسه، استجابة لتحديات العصر ذات الطابع الإنساني الكوني واقتراحا لحلول بصددها أمام انسداد النموذج المادي الواحدي الغربي وعجزه عن الإقناع وإيجاد الحلول والهروب بدل ذلك إلى تقنين ما لا يقنن، أي حل المشكل بمشكل، والأزمة بأزمة. لأن الحل الحقيقي يتطلب تجاوز النسق ككل والفلسفة المؤطرة ككل، باعتبارها الأصل المنتج للأعراض والعلل المرضية في النفس والأسرة والمجتمع .. بل وفي العلم والمعرفة... 2-ضرورة التعامل في إنتاج الأفكار والمعارف وتأطير العلوم مع مصادر المعرفة في تكاملها وليس في تقابلها، مع الاحتراز من الوقوع في النزعات؛ نصية كانت أم عقلية أم واقعية. فذلك أخطر ما يهدد هذه الأصول نفسها ويجعلها غير فاعلة ومؤثرة، أو فاعلة في اتجاه دون آخر. إن الوحي يسدد ويصوب ويهدي ويرشد دائما للتي هي أقوم، ويضفي الغايات والمقاصد ويعطي المعاني والدلالات العامة. ثم إن العقل يبدع ويجدد ويجتهد ويبتكر من العلوم والمعارف والنظم المدنية والعمرانية ما يشيد به الصرح الحضاري والعلمي للأمة. ثم إن الواقع مجال حركة واستخلاف الإنسان، وكيان سنني مطرد الحركية والتغير والحوادث والنوازل في مختلف المجالات والميادين مما ينبغي مراعاته في الحركة البنائية. فهذه أصول ومصادر متكاملة متعاضدة من شأنها إذا روعيت جميعها أن تنتج معرفة وعلوما، وفكرا وسلوكا تنتفي معه معظم-إن لم يكن كل- الصور السلبية، من جمود وتقليد وصورية وتجريد وعدمية ولاغائية..تلك التي تطفو على سطح كثير من الأفكار والسلوكات الآن. 3-اعتماد النظر التكاملي المنفتح في مشاريع الإصلاح والنهوض تجنبا للمقاربات الجزئية.. وتقوية للمشترك الإصلاحي والنهضوي منهجا وتصورا وموضوعات. فلا يمكن للنسق الفكري الأحادي أن يستفرد بزمام القيادة. لا بد من عملية تركيب نسقي اجتهادي تسمح بتدشين حقبة جديدة من الإصلاح تنطلق من الذات في اتجاه الأفق الإنساني والكوني، علما بأن الذات تختزل كل المقومات والهموم والمشكلات التاريخية والراهنة في عمقها الاجتماعي والسياسي والثقافي.. وأن العالمية تختزل كل إمكانات التلاقح والاندماج الإيجابي المؤثث للمشهد الكوني. فالأول يجعل شرط العالمية والانفتاح ذاتيا، والثاني يجعل من شرط الذاتية عالميا وكونيا. أي تلك الموازنة المهمة والضرورية في الهوية بين الخصوصي والعالمي أو المحلي والكوني. 4-الإيمان بأن حركة النهوض والتطور والإصلاح والتحديث.. جهد ذاتي أولا في بناء النموذج الخاص المستجيب للمشكلات والتطلعات الذاتية، ويستعان في ذلك « بالماضي» و « الآخر» على حد سواء. ولكن قطعا لا يستعار ناجزا مكتملا لا من الماضي ولا من الآخر. ومن هنا ضرورة القطع مع كل أشكال الاغتراب، في الماضي، وإن كان ماضي الذات، وفي الزمن الحاضر؛ حاضر الآخر. فجزء كبير من عناصر الاختلال في حركات الإصلاح الديني يكمن في كونها ارتحلت إلى التاريخ فأقامت فيه بدل عودتها إلى حاضرها. كما أن جزءا كبيرا من عناصر الاختلال في حركات النهضة والتحديث أنها ارتحلت كذلك إلى واقع آخر تستعير منه حلولا لمشكلاتها وإن لم تكن مطابقة أو ناجعة كحل. الطريقتان في الاستعارة أو النقل، والتقليد أو التبعية.. من منظور معرفي طريقة واحدة، قائمة على الهروب من الواقع والراهن والحاضر هموما ومشكلات وتحديات، مستريحة أو مستقيلة في بحثها عن الحلول بدل بنائها. خلاصة: إن العودة إلى الدين تعبير عن نزوع فطري كينوني في الإنسان، لكنه قد يتخذ أشكالا تخرجه من حالة الفطرة والسواء والرشد والقصد؛ ولا عاصم من ذلك إلا مدخل العلم و الوعي والمعرفة الحقيقية بالدين في علاقته بالنفس والإنسان والمحيط. والعودة الراشدة هي تلك التي تراهن على هذه المداخل وتجعلها في مقدمة وطليعة الإصلاح والنهضة والتغيير. طبعا هذا لا يقلل من أهمية المداخل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. وغيرها، فهي ذاتها أنساق فكرية وثقافية بمرجعيات معينة. فالتأهيل الفكري والثقافي تأهيل سياسي واقتصادي واجتماعي بالضرورة، ولست أظن العكس صحيحا. وكما بدأنا بمالك بن نبي فيلسوف الحضارة نختم به؛ فالثقافة عنده إما أن تكون طريقا إلى الحضارة، حيث قيم العدل والحرية والبناء المشترك.. إذا تحققت بمدلولاتها ومكوناتها العميقة، أو تكون طريقا إلى الإمبراطورية حيث قيم الاستعباد والقهر والهيمنة، إذا تخلت عن تلك المقومات والمكونات وانتحلت غيرها. ولا يخفى أن مطالب الشعوب وثوراتها العفوية والتلقائية هي من أجل النموذج الحضاري وليس « الإمبراطوري» الذي كانت الثورة ضده وعليه، ويبقى دور النخب في ركوب الموجة التي عَلَت تنظيراتها وتجاوزتها في اللحاق التنظيري لإنشاء وضع ووعي ثقافي جديد مستوعب للإشكالات والتحديات في إطار الموازنة والمعادلات الصعبة التي تحقق الذات والانفتاح معا. لاحظنا للأسف أن ثمة قراءات «حداثية» و»تقدمية» تعتبر نتائج هذا التغيير ليست لصالحها، وتنظر إليها نظرة اختزالية ذاتوية ضيقة؛ وبدل أن تساهم في تقويم وترشيد المسار والتعامل معه كواقع تأهيلا لما هو أحسن وأفضل، نجدها تسرف في انتقاده وتبخيسه ومن ثم انتقاد مطالب الحرية والديموقراطية والعدالة والكرامة.. لأنها لم تأت عن طريقها، وتعتبرها صور شائهة وزائفة وليست حقيقية؛ وكأنه مكتوب على ناصية الديمقراطية والحرية والحداثة.. أن تكون «علمانية»، وبالمعنى الإقصائي الاختزالي السيئ الذي يفهمه البعض منها، أو لا تكون. وهذه معضلة أخرى، معضلة تحرير المفاهيم من أشكال المصادرة المختلفة والتخندق تحتها. وذلك بجعلها أنساقا منفتحة على كل الاجتهادات المقدرة للعلم والعقل وحركية الواقع. فالنقد السلبي لا يزيد في الأمر شيئا غير تكريس واقع الحال، واقع الرتابة والسكون والدوران المحلي حول نفس الظواهر والآفات. وهذا ما نجد كتابات أخرى أكثر رصانة تحاول تجاوزه وتدعو إلى التكتل من مختلف المشارب في أوراش الإصلاح المفتوحة تحقيقا لمكاسب اليوم التي يمكن تجاوزها غدا.