بعد أن كان سؤال «الجدوى من المشاركة في الانتخابات» هو السؤال الذي تواجه به الحركات الإسلامية التي آمنت بمنهج المشاركة الإيجابية، في كل مناسبة انتخابية، نلاحظ اليوم، في زمن الربيع الديمقراطي العربي، وبعد وصول بعض من هؤلاء الإسلاميين، عبر صناديق الاقتراع، لقيادة حكومات بلادهم أن هذا السؤال قد توارى، ليظهر سؤال جديد هو: «ما الجدوى من المشاركة في الحكومات؟ بل وما الجدوى من قيادتها أيضا؟». وينطلق أصحاب هذا السؤال الجديد من فرضية الفشل المرتقب لهذه التجربة، وسقوط هذه الحركات المشاركة في فخ الاحتواء، الذي يبدأ بالإشراك و»الإدماج»، ثم دفعها بعد ذلك نحو الانحراف و»الاعوجاج»، لينتهي بها المطاف إلى الإقصاء و»الإخراج»، وخاصة عندما يتم استحضار الوجود المؤثر للجهات التي إما فشلت انتخابيا أو فشلت مشاريعها التحكمية واستمرارها في حياكة الخطط وتدبير المكائد. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن السقوط في هذا الفخ لا يتوقف فقط على وجود الإرادة لدى الجهات المذكورة في احتواء الإسلاميين وإفشال تجربتهم وهو أمر موجود بدون شك، وإنما يتوقف أساسا، وقبل ذلك وبعده، على مدى قابلية هؤلاء الإسلاميين للاحتواء، وكذا مدى صمودهم في مواجهة خطط الخصوم التي تتركز في ثلاثة مداخل: الأول ويتمثل في الاستدراج : أي الاستدراج إلى المعارك الجانبية بقصد التشويش على تحقيق الإنجازات المطلوبة والمنتظرة، والإلهاء أو الإشغال عن المهمة الأصلية والمعركة الحقيقية المتمثلة في إسقاط منظومة الفساد والاستبداد، وتحريف الوجهة والبوصلة، حتى إذا جاء وقت الحساب كانت الحصيلة ضعيفة، والفساد مازال متحصنا. لذا، فالمطلوب من قوى الإصلاح هو عدم الوقوع ضحية الانفعالات والتصرفات المحكومة بردود الأفعال، والعمل بذهنية استراتيجية لتنزيل مشروع الإصلاح، بما يقتضيه ذلك من تحديد للأولويات، وترتيبها بناء على فقه الواقع وفقه الموازنات وفقه المآلات، وتحديد أيها أوجب بالتقديم وأيها يمكن تأجيله أو تأخيره. الثاني ويتمثل في الاتهام بالاعوجاج : أي استهداف مصداقية الإسلاميين وتشويه سمعتهم، التي تمثل الرصيد الأساسي والميزة التنافسية للحركات الإسلامية. فلا يدخر هؤلاء الخصوم أي جهد في نصب الفخاخ وتصيد الأخطاء، في سبيل تشويه تلك السمعة وتلطيخها، حتى وإن تطلب منهم ذلك اختلاق القصص وتلفيق الاتهامات وترويج الإشاعات والأكاذيب، إلا أن هذه الخطة غالبا ما ترجع على أصحابها بنتائج عكسية حين ينكشف كذبهم وتظهر حقيقة ما صنعوا. والمطلوب لمواجهة هذه الخطة اللاأخلاقية، هو أولا الحذر من حروب الإشاعات، حتى لا يكون الصف الداخلي أول ضحاياها، أو أول من يسقط في ترويج أكاذيبها، وأن يكون منهج تعامله معها قائما على التثبت والتبين، وثانيا التمسك بالنزاهة والشفافية والوضوح، والحرص على الاستقامة واتقاء الشبهات ما أمكن، إلى جانب تعزيز آليات الرقابة الذاتية والمحاسبة الجماعية الكفيلة بتحصين الأفراد والتنظيمات على حد سواء، وفوق ذلك كله التزود بالتقوى، فإن خير الزاد التقوى. - الثالث ويتمثل في الإزعاج: وذلك بالعمل على دفع هؤلاء الإسلاميين نحو الانزعاج من العراقيل والمضايقات، واليأس من أي إمكانية للإصلاح، بقصد دفعهم للاستسلام أمام لوبيات الفساد وجيوب المقاومة، وبالتالي التسليم بالأمر الواقع والخروج من هذه التجربة دون إنجاز أي إصلاح. ومواجهة هذه الخطة لا تكون بالنأي بالنفس عن هذه المشاركة والانسحاب منها كما تلمح لذلك بعض الأصوات وإن كانت قليلة، وإنما المطلوب هو التحلي بمستوى عال من الصبر والتحمل وطول النفس، والإصرار على الصمود والثبات، مع الإبداع والتنويع في آليات المدافعة والتدافع مع الفساد. والخلاصة، أن فرصة مشاركة الإسلاميين في الحكومات في ظل ربيع الحرية والكرامة تشكل فرصة تاريخية ومنعطفا حقيقيا في حياة الأمة ينبغي استثمارها أحسن استثمار، لإنجاز إقلاع حضاري جديد، تساهم فيه الحركات الإسلامية من موقع المسؤولية في الحكومات، بتلاحم مع الشعوب التي أعطتها ثقتها وعلقت عليها آمالها في الإصلاح وبناء الغد الأفضل، وذلك بتركيز الجهد الأكبر على الاشتغال بالإنجاز والحذر من الاستدراج والاعوجاج والانزعاج.