يغضب النظام المصري وابواقه الاعلامية من اي كاتب عربي ينتقد السياسات المصرية تجاه القضايا العربية، والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، ويصنفون هذا الكاتب عادة في خانة ' اعداء مصر'، ولا يشاطرهم في هذه القاعدة الا بعض نظرائهم في المملكة العربية السعودية، وهذه مسألة اخرى ليس هذا مكان بحثها.نحن لا ننتقد الا نهجا سياسيا خاطئا ادى الى تقزيم دور مصر وتصغير حجمها ومكانتها، وتغييب دورها، ومنطلقنا دائما هو الغيرة والحرص، والرغبة الجامحة في ان تظل كبيرة، تقود ولا تقاد. لقد كان غياب الرئيس مبارك عن قمة الدوحة العربية الاخيرة، ولاسباب بدت للكثيرين غامضة وملتبسة وغير مبررة، امعانا في تغييب هذا الدور وتلك المكانة لبلد عظيم يستحق قيادات وسياسات افضل كثيراً من هذه. ويجيء اختيار الرئيس الامريكي باراك حسين اوباما انقرة، وليس القاهرة لكي تكون محطته الاسلامية والشرق اوسطية الاولى التي يزورها في اول رحلة خارجية له بعد توليه مهام الرئاسة في البيت الابيض، تأكيدا جديدا على هذا التراجع في الدور والمكانة. لقد كان النظام المصري الحليف الاوثق للولايات المتحدة في المنطقة بعد اسرائيل على مدى الثلاثين عاماً الماضية، حيث خاض جميع حروبها في الشرق الاوسط وخارجه، وانحاز بالكامل الى معسكرها، ابتداء من الحرب على العراق عام 1991 تحت عنوان تحرير الكويت، ومروراً بالحرب على 'الارهاب' بعد احداث الحادي عشرمن ايلول (سبتمبر) وانتهاء باحتلال بغداد وتغيير النظام فيها.وفي المقابل حصل على ثاني اكبر مساعدات امريكية بعد اسرائيل فاق مجموعها الستين مليار دولار. الا ان هذا كله لم يشفع له عند السيد الجديد في البيت الأبيض. وليت التجاهل لمصر ومكانتها اقتصر على هذه اللفتة المميزة تجاه تركيا، فقد استبعدت الادارة الامريكية الاولى مصر من قمة الدول العشرين الكبرى، التي انعقدت في واشنطن قبل اسابيع من انتهاء ولايتها، وتجاهلتها الادارة الجديدة في دورتها الثانية التي انعقدت في لندن قبل ايام معدودة، حيث منحت شرف التمثيل هذا الى المملكة العربية السعودية نيابة عن العرب، وجنوب افريقيا نيابة عن القارة السمراء، وحتى اثيوبيا الاضعف اقتصادياً وسياسياً وجدوا لها مكاناً، بينما لم تسفر احتجاجات الحكومة المصرية التي عبر عنها وزير ماليتها عن تغيير هذا الموقف.لقد اصبح النظام المصري عبئاً حتى على عرّابه الامريكي الذي ساعده في البقاء في الحكم طوال العقود الماضية. ولم يعد يتصدى للدفاع عنه في واشنطن الا رموز اللوبي الصهيوني لأسباب غنية عن الذكر. ولم يتراجع الدور المصري الى الصورة المؤسفة التي نراها حالياً الا بعد ان اصبحت البلاد في خندق الهيمنة الامريكية الاسرائيلية، وإحدى ابرز ادواتها في المنطقة العربية والعالم.وبالرغم من الخدمات الجليلة التي لا تقدر بثمن، كانت المكافأة سلسلة من الاهانات من قبل الرئيس الامريكي الجديد الذي التقى عاهل السعودية ويزور تركيا، بينما يتقاعس عن تحديد موعد لاستقبال رئيس مصر في البيت الابيض، ومن قبله توقيع ادارة بوش على اتفاقات لمراقبة حدود مصر مع تسيبي ليفني زعيمة حزب كاديما، ودون التشاور معها.الحكومة المصرية تصر على احترام جميع اتفاقات السلام الموقعة مع الدولة العبرية، وتؤكد على تمسكها بمصداقيتها كدولة تلتزم بالمعاهدات والمواثيق، ولكن الطرف الآخر الذي يتمتع بدعم الحلفاء 'الحضاريين' في اوروبا وامريكا يتصرف على العكس من ذلك تماماً، وينتهك هذه المعاهدات ليل نهار، وآخرها العدوان الاخير على قطاع غزة، والغارة الجوية الاخيرة التي استهدفت ما قيل انها قوافل لتهريب اسلحة كانت على وشك عبور الحدود المصرية السودانية، بل ان القاهرة اعلنت استعدادها للتعاون مع المتطرف ليبرمان رغم اهانته العلنية للرئيس مبارك عندما قال عنه 'ليذهب للجحيم' رغم ان كرامة الرئيس حسب السفير المصري في اسرائيل تعتبر واحدة من ثلاثة رموز لشرف مصر مع الاهرامات والسد العالي (..).لم نسمع احتجاجاً واحداً قوي اللهجة او ضعيفها، من قبل الحكومة المصرية على هذه الاختراقات والاهانات، فهل يليق هذا بمصر صاحبة الحضارة التي تمتد لأكثر من سبعة آلاف عام؟ اليوم تعيش مصر يوما خاصا هو اضراب السادس من ابريل. وكان الآلاف من ابناء مصر البررة خرجوا الى الشوارع في اليوم نفسه من العام الماضي، احتجاجا على تدهور اوضاعهم وبلادهم، ونهب خيراتها، وتزوير ارادتهم الوطنية والقومية.مشهد العصيان المدني الذي شهدته مدينة المحلة الكبرى، قد يتكرر اليوم بصورة اكبر، اذا سارت الامور بالطريقة المخطط لها، ما يبعث رسالة واضحة ان الاوضاع الحالية غير قابلة للاستمرار. كيل الشعب المصري قد طفح فيما يبدو، وقدرته على الصبر والتحمل اقتربت من نهايتها، ان لم تكن قد انتهت فعلاً. ويعود هذا الغليان الداخلي في مصر اساسا الى فجوة واسعة بين الطبقة الحاكمة، والقاعدة العريضة من المحكومين، فالطبقة الحاكمة احتكرت كل شيء، وتحالفت مع مجموعة فاسدة من رجال الاعمال الجشعين، اعتمدت عليهم لتكريس هيمنتها وضمان استمرارها. هؤلاء غيّروا وجه مصر ولكن للأسوأ، وتاجروا بعرق المحرومين لأن كل همهم هو الاثراء بكل الطرق والوسائل، حتى لو جاء ذلك عبر سحق عظام الفقراء.والشعب المصري العظيم مشهور بقدرته على الصبر والتحمل باعتبار انه ابقى من جلاديه، إلا انه لا يصبر للابد، على اهدار كرامته الوطنية بالطريقة التي نراها حالياً في الداخل والخارج، وخاصة عندما يرى دور حكومته، ودور قوات أمنه قد اختزلا في مصادرة علب الحليب، واكياس الاسمنت، وقوارير الغاز، وصناديق الدواء، بل ورؤوس الاغنام (وليس الرؤوس النووية) الى المحاصرين من اشقائه ابناء عقيدته ودينه في قطاع غزة. لعلها تكون لحظة تاريخية فارقة في تاريخ مصر... لعلها بداية دوران عجلة عملية التغيير، التي يتطلع اليها ابناء الشعب المصري، وكل المحبين له، ونحن قطعاً من بينهم ان لم نكن على رأسهم.صحيفة القدس العربي اللندنية الإثنين 06/04/2009