من غرفة نومه وبواسطة كاميرا هاتفه، انطلق الشاب المصري أحمد الغندور في تجربته الفريدة ل"تبسيط المعرفة" سنة 2014، محاولا مناقشة العديد من الظواهر والأفكار استنادا إلى مراجع علمية، فأنشأ على "اليوتوب" قناة "الدحيح"، التي لم تلبث طويلا حتى اكتسبت الآلاف من المعجبين الذين وجدوا فيها محتوى جديدا شكلا ومضمونا. لكن "الدحيح"، الذي أصبح الاسم الأشهر للغندور، والذي استطاع تطوير برنامجه بشكل كبير بعد تعاقده في 2017 مع منصة AJ+ التابعة لشبكة "الجزيرة" القطرية، سيجد نفسه، بعدما تحول إلى "ظاهرة"، في مرمى نيران مجموعة من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي من أنصار التيار السلفي، الذين لم يستسيغوا محتواه المستند فقط على مراجع علمية، لدرجة أن منهم من رماه مباشرة ب"الإلحاد". أسلوب جديد يُجمع كل المتابعين لبرنامج "الدحيح" على أمرين حول مُقدمه، الأول أنه "خفيف الدم"، والثاني أنه دائما ما ينسب كلامه ل"المصادر" التي يضع روابطها في وصف الفيديو على قناة AJ+ باليوتوب، وهما أمران استطاع بجمعهما تكوين محتوى متميز كسب جمهورا عريضا، حتى أضحى من النادر جدا أن تقل مشاهدات حلقة من حلقاته عن المليون. ولا يقتصر "الدحيح" على مناقشة مواضيع تتعلق بالعلوم الحقة، على غرار الطب والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وعلم الفلك والفضاء، بل أيضا يتناول مواضيع لها ارتباط بالفن والإعلام وثقافات الشعوب والجغرافيا والاقتصاد وعلم الإجرام وحتى التاريخ، على غرار حلقته الشهيرة حول الحرب العالمية الثانية، التي نشرها في فبراير الماضي والتي كانت الحلقة رقم 100 وحصدت ما يناهز مليونين و700 ألف مشاهدة. ويمكن لمن يتابع حلقات "الدحيح" أن يعلم أن الشاب أحمد الغندور، يحاول أن يُبقي على مسافة بين محتواه المستند على أوراق بحثية صادرة عن جامعات عريقة ومقالات علمية منشورة بمجلات معروفة، وبين الجدل الديني بخصوص العديد من القضايا التي يبدو أنها تتعارض مع بعض المعتقدات، وهو أمر يعبر عنه صراحة في بعض المرات، كما لا ينسى أبدا مخاطبة متابعيه في نهاية جميع الحلقات بعبارته الشهيرة "بُص بصة على المصادر". ووجد أسلوب "الدحيح" المرح والمحايد صدى إيجابيا لدى متابعيه وخاص الشباب، الذين يبدون إعجابهم من خلال التعليقات المشيدة بمضمون الحلقات التي استطاعت تقريب العديد من معارف إليهم، وأيضا بطريقة تصويرها و"الإنفوغرافيك" المعروض بها، وحتى الديكور الذي يمثل غرفة نوم طالب شاب مهووس بالمعرفة ويحلم يوما ما بالفوز بجائزة نوبل وأن تتصدر صورته غلاف مجلة "تايم". اتهامات بالإلحاد بتاريخ فاتح يوليوز 2019، نشر "الدحيح" حلقة بعنوان a href="https://www.youtube.com/watch?v=4SdJnp88M-I" target="_blank" rel="noreferrer noopener" aria-label=""يا محاسن الصدف" (يُفتح في علامة تبويب جديدة)""يا محاسن الصدف"، التي قارب عدد مشاهداتها حاليا مليوني مشاهدة، وهي حلقة تتحدث عن دور الصدف والاحتمالات والتغيرات البسيطة الطارئة عليها في تحديد مصير الكثير من الأمور في الحياة وفي الكون، وهو الأمر الذي لم يرق للداعية السلفي الأردني إياد القنيبي، الذي قاد حملة على البرنامج متهما صاحبه بنشر الإلحاد، ليس عبر هذه الحلقة فقط، بل عبر البرنامج ككل. والقنيبي الذي يوصف بأنه مقرب من تيار السلفية الجهادية، والذي حُكم عليه سنة 2015 بالسجن سنتين في الأردن بعد اتهامه ب"التحريض على مناضهة نظام الحكم"، لديه قناة في "اليوتوب" يتابعها أزيد من 300 ألف شخص، هدفها الأساس، حسب صاحبها "محاربة الإلحاد بطريقة علمية"، وعبرها نشر القنيبي حلقتين لم يتردد خلالهما في اتهام الغندور بنشر "محتوى إلحادي". ومما جاء في الحلقتين نصا، أن ما يقدمه الدحيح "ترويجٌ للإلحاد تحت ستار العلم والمادية"، وفي إحداهما يقول القنيبي، الذي أسهب في وصف المحتوى ب"الغباء" إن للدحيح "طريقته المختلفة في الترويج للإحاد، فهي غير مباشرة وتهدف لهدم القواعد التي يبنى عليها الإسلام". ورغم انتشار صورة للغندور مؤخرا وهو بلباس الإحرام في الحرم المكي أثناء تأديته مناسك العمرة، إلا أن هذا الأمر لم يكن رادعا للداعية الأردني لإخراج الشاب المصري من "الملة"، حيث قال مخاطبا الشباب الذين يتابعونه "أنت لا تحس أنه يهاجم دينك لكنك تبدأ بالتشكيك قليلا قليلا، فالمصادر التي يعتمد عليها هي كتب الملحدين المليئة بالعلم الزائف"، مضيفا أن مشاهدي تلك الحلقات يجدون أنفسهم قد انتقلوا من "التسلية والعبط إلى التشكيك في دينهم". هجوم متوقع رغم أن الهجوم على "الدحيح" والتشكيك في عقيدته وجد له صدى واسعا لدى الكثير من مناصري التيار السلفي، ورغم أنه انتشر عبر مختلف وسائط التواصل الاجتماعي عبر هذه الفئة، إلا أن أحمد الغندور وشبكة "الجزيرة"، لم يهتما بالرد على المهاجمين، تاركين هذه المهمة للعديد من المثقفين والباحثين والإعلاميين، ومنهم الباحث المغربي في الفكر الإسلامي محمد عبد الوهاب رفيقي، الذي لم يستغرب هذه القسوة تجاه البرنامج من لدن بعض الشيوخ السلفيين. وفي حديثه لموقع "الصحيفة" قال رفيقي إن "مثل هذا الهجوم متوقع، بحكم أن هذا الشباب الذي يقدم هذا المنتوج العلمي الجميل، يساهم في تفكيك الخطاب الديني التقليدي، ويُبين بشكل غير مباشر هراء النظريات التي بَنى عليها هذا الخطاب أُسسه، كما يُظهر الكثير من المقولات الفقهية الصادرة عن هؤلاء الشيوخ بشكل كاريكاتوري مضحك، وبالتالي كان من الطبيعي أن يهاجم ويرمى بالإلحاد". بين العلم والدين وأوضح رفيقي، الباحث الذي قام بمراجعات جذرية بعد سجنه 9 سنوات عقب اتهامه بالتورط في "التحريض على الإرهاب" سنة 2003، أن "الخلط بين العلم والتدين من أكبر الإشكاليات التي يعرفها الخطاب الديني المعاصر"، مضيفا "قد يكون هذا الأمر مقبولا في الماضي بحكم أنه لم يكن هناك تخصص، حيث إن الفقيه الذي يكتب كتابا فقهيا هو ذاته الطبيب الماهر الحاذق في مهنته الذي يجري عمليات التشريح وهو الذي يقوم بالعمليات المختبرية، وبالتالي قد تجد في حديثه خلطا بين هذا وذاك، لكن الآن، وقد تطورت العلوم وانفصلت عن كل ما هو عقدي، فإن هذا الأمر أصبح منافيا للعقل والمنطق". وأورد رفيقي أن الهجوم على العلوم وعلى برامج تبسيط المعرفة العلمية لن يساهم في خلق جيل جديد من المتدينين التقليديين، في عالم تسيطر عليه مواقع التواصل الاجتماعي وتنتقل فيه المعلومة بسلالسة، موردا "على العكس تماما، برأيي مثل هذا الهجوم والخطاب الذي يخلط بين العلم والدين، سيؤديان إلى نفور الكثير من الشباب من الدين، ما قد ينتج موجة جديدة من الإلحاد، التي أضحت واقعا في المجتمعات الإسلامية". وخلص المتحدث إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي "قلبت المعادلة رأسا على عقب، إذ إن وفرة وسرعة المعلومات والعولمة المعرفية والاحتكاك السريع بالعالم بكل أطيافه وألوانه وخطاباته، من شأنه أن يظهر أكثر ضعف الخطاب الديني التقليدي".