يمكن القول بأن أعظم البرامج التي أذيعت في شهر رمضان على المستوى العربي، هذه السنة، هو برنامج “فكر” الذي يذاع على قناة نماء الإعلامية وهو من إخراج إبراهيم المصري وإعداد وتقديم المفكر الإسلامي المغربي الأستاذ المقرئ الإدريسي أبو زيد. يتناول الأستاذ المقرئ أبو زيد في هذا البرنامج الهام والمتميز حديثا مفصلا عن كل ما له علاقة بالإلحاد المعاصر، وهو حديث حقق طفرة نوعية إيجابية، وتحولا من الموضوعات المألوفة، عادة لدى الرأي العام العربي، إلى موضوع غير مألوف، أو لم يعطى حقه من الدراسات والتأمل والاستنتاجات وبالتالي انتشار الردود على جميع أطروحاته ونظرياته. إن التطرق لهذا الموضوع الخطير الذي يعد رأس الضلال ومنبعه بهذه الكيفية وهذا العمق ليعد نوعا من الإبداع والخلق والتجديد في الخطاب. وربما جاز لنا أن نقول: ليس غريبا على مفكر إسلامي مثل الأستاذ المقرئ الإدريسي أبو زيد أن يجدد ويبدع في مطارحاته العلمية والفكرية، وذلك لما ألفناه منه عن كونه لا يتناول الكلام المكرور ولا يجتر ما لاكته الألسن، وإنما عهدناه دائما مجددا ومبدعا، وهاتان السمتان أي سمتا التجديد والإبداع هما اللتان أعطتا لخطابه تميزا وقبولا لدى المثقفين العرب والمثقفين داخل الجاليات العربية المسلمة في كل أنحاء العالم. كما يصطبغ خطابه دائما بصبغة العلم والمنطق والتحليل النسقي ومقارعة الحجة بالحجة، كما لا يعدو في كل محاضرة من محاضراته أو حلقة من حلقات البرامج التي يؤطرها أن يذكر للمستمعين والقراء والمتتبعين عشرات الكتب للمزيد من الاطلاع وتحصيل المعرفة وتوسيع الفكر. إن هذه المعطيات والصفات، رغم اختزالها وتضييقها، عن شخص المقرئ الإدريسي أبو زيد نجدها شاخصة ماثلة في حلقات برنامج فكر وهو يناقش الإلحاد وأكبر دهاقنته من فلاسفة وعباقرة في مختلف العلوم المعاصرة. إن الحلقات العشرين من حلقات هذا البرنامج تستحق من كل مسلم معاصر أن يشاهدها، إذا كان يريد أن يواجه العلمانيين والملاحدة بعلم وحجة وبرهان، ويريد أن يفند كل الأطروحات التي يأتون بها حتى ولو كانت هذه الأطروحات تضرب في عمق علم الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا واللسانيات والكوسمولوجيا والكوسموكونيا…وعلوم أخرى يعتمدونها لنفي وجود خالق لهذا الكون. إن الرجل قد اعتكف على دراسة الإلحاد من وجهات نظر مختلفة وعميقة، وقد رجع في ذلك لأهم ما كتبه أكبر ملاحدة القرن العشرين ودرس كتبهم وتتبع مسارهم سواء منهم الذين وصلوا إلى الإيمان بوجود الله، فتجده يذكر أسباب تحولهم من الإلحاد إلى الإيمان، أو الذين لازالوا على إلحادهم وهؤلاء يرد عليهم بحجج دامغة تفند نظرياتهم القائمة إما على طرح أسئلة مغلوطة غير صحيحة، أو التهرب من مواجهة الحقائق التي هي مركونة في أعماقهم. إن المتتبع لكل هذه الحلقات سيجد نفسه مسافرا في رحلة ممتعة مشحونة بالمعطيات والمعلومات والدراسات ومشبعة بالتحليل النسقي العلمي الذي يعتمد على المنطق والاستقراء والمقارنة مما يدل على أننا نستمع لمفكر ذي قدرة فائقة على ربط الأشياء ببعضها، وقدرة على استخلاص إشارات دقيقة قل من ينتبه إليها. كما له قدرة على طرح الأسئلة وإعادة صياغة بعض المفاهيم تقريبا لها للأفهام والعقول. ليس سهلا أن يجيب الإنسان عن معادلة كون الغرب متطورا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا رغم إلحاده، في الشرق متخلفا إلى درجة التردي رغم إسلامه، كما يقول الأستاذ أبو زيد، ولعل هذا السؤال من الأسئلة التي يعتمدها الملاحدة العرب بكثرة خصوصا في غرف الحوار والدردشة الفكرية، والتي يجد المسلمون مشقة في الإجابة عنها. وجوابا عن هذا الإشكال يرى الأستاذ أبو زيد أن ربط تقدم الغرب بإلحاده أو ربط تخلف الشرق بإسلامه هو استهانة بذكاء الإنسان وسخرية من العقول، أي إن التقدم في الغرب سببه العلم والعمل والعقلانية والديموقراطية، كما يرى أن الإلحاد يعد أحد أهم أساب انتشار الشذوذ الجنسي والانتحار والمخدرات والخمور والتفكك الأسري والإقبال على الشهوات، أي إن الغرب ليس متقدما بفضل الإلحاد بل هو متقدم رغم وجود الإلحاد وإلا لكان تقدمه أكبر لو كان مؤمنا. أما التخلف في المشرق فسببه الاستبداد والكسل والغش وغياب الديموقراطية وتغييب العقل والعمالة للمستعمر، إذ يقوم العملاء بتدمير متعمد للنهضة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، فضلا عن التفكك الأسري والانحلال الخلقي الذي يتفشى في المشرق. ويخلص الأستاذ أبو زيد إلى أن الإيمان يعمل على التخفيف من حدة التخلف في المشرق، والإلحاد يحد ولو جزئيا من تقدم الغرب. إن هذا البرنامج من صنع قناة عربية أجنبية، أي ليست مغربية، عملت على الاستفادة من مفكر مغربي، وقد وصلت حلقاته إلى المغاربة عن طريق الشبكة العنكبوتية، العالم الذي يتجاوز الحدود، وقد لقي في أيامه الأولى إقبالا منقطع النظير، حيث شاهده الآلاف من الشباب العربي، في الوقت الذي لازالت قنواتنا المغربية قنواتنا التي يحلو للشباب المغربي بأن يسميها “قنوات الصرف الصحي” وذلك لما تذيعه من برامج تافهة أقل ما يقال عنها أنها تحلق في الاتجاه المعاكس لدين وأخلاق وقيم وهوية هذا الشعب، غارقة في صناعة الغباء والتجهيل وذلك بتهميشها للعلماء والمفكرين المحليين صانعي الأفكار وبنائي العقول، وجلبها لكل تافهة كاسية عارية لمزيد من إفساد المجتمع واغتيال أخلاقه.