لن أخفي عن الناس محبتي الكبيرة للأستاذ حقا المقرئ الإدريسي أبو زيد، وأنني ألتمس طريقه وطريقته في البيان والإيضاح. ومع ذلك كنت سأكون سعيدا برد الناس عليه، نقدا ونقضا لأقواله ومقولاته، وسأقول ساعتها وأنا في غاية الاطمئنان: لقد قال الرجل وقالوا، وبيَّن وفندوا، ووضَّح فزيفوا ولم يتفقوا معه. غير أنني حزين للوضع البئيس عندما أرى بلطجة وسوء أدب وتهور وتطرف وإرهاب فكري لا معنى له عند العقلاء من كل قبائل الفكر والأفكار والتصورات. إنني أرى أن القضية أكبر من قولٍ قاله، لا يفله عندي وعند الأحرار والفضلاء إلا قولا مسندا بحجة وبرهان. لقد التمس بعض القوم السفاهة والاعتداء، واستنجدوا بأدب الوقاحة لنجدة عجزهم عن الحجة والبرهان. ولن نخرس عن البوح بالحق حتى لا نعد في ديوان الشيطان الأخرس. لا ..لا .. للإرهاب الفكري والحجر على العقلاء إن أحق الناس بوصم الإرهاب والعنف الفكري والحجر على العقول هم هؤلاء الذين يدعون الدفاع عن عرق من الأعراق وكأننا نحن لسنا من هذا العرق أو ذاك. وكأن الغرض هو ضرب زيد ليزدجر عمرو. ولم أعرف وقاحة وسفاهة في الرأي مثل ما وقع مع نكتة أبي زيد التي أوردها في سياق الشرح والتحليل لموضوع من حق الناس أن يختلفوا معه في أطروحته ومحاضرته، ننتفع بها وإن كان الرجل حبيبا عندي، ولكن الحقيقة أحب إلينا من كل الأحبة. ووجه الوقاحة أن يكون برنامج عمل هؤلاء وملفهم المطلبي أن شخصا يدعى المقرئ الادريسي أبو زيد قال نكتة. وتصوروا معي درجة السفاهة أن لو توجهنا إلى المنظمات الحقوقية أو جاءتنابعد تسامعها للفضيحة تستطلع الخبر، فسألت عن مضمون المظلمة، فأجبناهم: إن كل ما في الأمر أن أبا زيد ذكر نكتة.. وقال نكتة خارج المغرب.. وشرح من خلال نكتة.. لا شك أن العقلاء بغض النظر عن اتفاقهم مع تحليل أبي زيد سيستصغرون عقل هؤلاء، ولعلهم سيصرفونهم بأدب إن لم يكن بازدراء وإعراض. النكتة عمق وتاريخ ووجدان والنكت بأنواعها وأصنافها منها المقبول بميزان الشريعة ومنها ما هو مرفوض من غير ارتياب. ولكنها أيضا من غير شك أنها عند العقلاء تعبير عن عمق الثقافة الشعبية، وعن تاريخ أمة من الأمم، وعن وجدانها وأحاسيسها لم تستطع التعبير عنه إلا من خلال هذا الفن الشعبي والخاص بكل عفوية وطلاقة. ولا زالت المعارف والعلوم كلها تعرف تسميات تحمل هذه الرسائل أو غيرها، فوجدنا النكتة الأدبية، والنكتة الاجتماعية، والنكتة اللغوية، والنكتة الفقهية... وغيرها من ألوان التعبير عن المستعصيات، أو إرسالها في قالب رقيق ينساب من غير استئذان للدخول في القلوب، ويفهم من غير صعوبة. وما عجزت عنه بيان الألسن وجدت ضالتها بأبلغ البيان وأصدقه في أنواع من النكت. ماذا يريدون؟ ولا أفهم من هذه القضية المفتعلة المسعورة إلا أنها توجه لتكميم الأفواه، والحجر على الحرية والرأي. ولكن هيهات هيهات، فإن أبا زيد ومن معه من الأحرار والأوفياء لخط الصدق ووضوح الفكر والرؤية أن يستفزهم لغط اللاغين، للحجر على الحرية والفكر والإبداع، إن حرية الأحرار دونها أنفسهم وأعز ما يملكون من أجلها، لن يثنيهم عن السير في الطريق الذي خطته لهم نعمة التكريم الإلهي للإنسان أن يعيش حرا في قولٍ يقوله وهو مسؤول عنه، أو رأيٍ يراه نافعا وهو مسؤول عنه أيضا. أبو زيد المفكر تقف أمامه وإن تكرر الجلوس متعلما مستفيدا، لأنه لا يرضى أن يحرث في الأراضي المحروثة، بل يتطلع دائما إلى الجديد الذي ينفع الناس، يحاول أن ينفعهم، يثور الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تثويرا يجعلك تحترمه وتشهد له بالكفاءة ونصاعة الفكر والضمير والبيان. أبو زيد العالم ثقافته الشرعية الواسعة مع ثقافته اللسانية والمعرفية والتاريخية قد أمكناه أن ينتفع بكل المعارف والعلوم، محللا مستشهدا معطيا ومربيا.. لا تجده يستنكف من المعرفة، ولا يتبرم من فكرة وإن لم ترقه، بل يدفعها برفق وقوة، ويتعامل معها بحكمة يحترم فيك إنسانيتك مهما اختلفت معه في الرأي. كنا في مدرجات الكلية وأقسامها بشعبة الدراسات الإسلامية أيام التتلمذ على يديه نزدحم للوصول إلى الصفوف المتقدمة، وكنا ونحن نستمتع ونستفيد من عالم عامل صادق كأن على رؤوسنا الطير، نطلب المزيد ولا يتوقف ساعتين كاملتين إلا على وصول أستاذ آخر يريد إنجاز حصته. أبو زيد المعتدل إن مساهمة أبي زيد في محاربة الغلو والتطرف، وترشيد التصرفات، وإنقاذ الآلاف والملايين من الشباب وغيرهم من براثن الغلو أحد سمات الرجل وكفاحه ونضاله. وهو إذ يفعل ذلك ينطلق من القاعدة الأساسية والعروة الوثقى، قاعدة الأمة الحضارية وهويتها الضاربة في جذور ما جاء به الأنبياء والرسل. كان ينشر الاعتدال فينا ونحن طلبة نندفع بحماسة، ويرشد اندفاعنا بتشكيل عقولنا من خلال المحاضرات واللقاءات والمنتديات. يتجول بنا من السنن الكونية إلى العبر التاريخية إلى سير الأنبياء والمرسلين..يصحح، ويثبت، ويبصر، ويصدع كأنه النذير العريان. أبو زيد ناصر المستضعفين لم يترك مسح الدموع عن الشيوخ والأرامل والنساء والعجزة في كل أرض الله، بمناسبة وبغير مناسبة، تراه يصول هنا وهناك، ويجول لسانا لهم، وهبه الله تعالى لسانا أوقفه على هؤلاء الذين لا يجدون الحيلة ولا يهتدون السبيل. عانق هموم المستضعفين المغاربة، وعانق المستضعفين في أفغانستان والبوسنة والهرسك وفلسطين التي تحتل من قلبه ودمه موقعا عظيما. يعرفه هؤلاء جميعا أنه حبيبهم وصديقهم. وكم مرة مرت السنة والرجل مستدينا من أجل المستضعفين مغربا ومشرقا، يندفع من غير حسابات نقوم بها جميعا، ويستنكف أبو زيد أن يدخلها، يترقب من نجدته إياهم عزتهم، وينتظر نصر الله لهم. وأما مثله في وضعه أو دونه في وظيفته أو نيابته فيتطاول في البنيان والأموال. أبو ز يد الوطني الغيور تعلمنا على يديه حب الوطن، وعلمنا من تاريخنا ما أصبحنا نعتز به، وأصبحنا بفضله قادرين على الاعتزاز بمغربيتنا التي يمرغها البعض في الأوحال، ويجتهد أبا زيد في بيان معادن المغاربة الأحرار من كل جهة ومنطقة. تعرفنا على رجالات المغرب ونسائه وفقهائه وعلمائه ومفكريه ومن كانت له يد طويلة في البر بهذا البلد الحبيب على يد الحبيب أبي زيد المقرئ الإدريسي. لا زلت أذكر منذ سنتين في ندوة دولية بالجزائر، سافرت معه ومع أستاذ من شمال المغرب وأستاذة من شرق المغرب. حدثنا في العاصمة الجزائر عن المغرب وعراقته وأصالته، وحدثنا طويلا عن قضية المغرب العادلة، ودافع دفاعا علميا عن جذور المسألة المغربية الصحراوية وأسبابها. ثم استقبلنا بعد ذلك من طرق بعض رجالات الجزائر على رأسهم وزير الأوقاف الجزائري فتكلم طويلا عن الأخوة وعن الشعبين العظيمين بأدبه البليغ وبلاغته الأخاذة، وقدم للوزير عند التوديع كتابا بالوثائق عن قضية الصحراء المغربية. كأنه يريد للعلم أن يجد طريقا إلى عقول القوم. أبو زيد طاهر اليد لقد ألف الرجل العطاء بسخاء وإنكار نفسه والاقتراض من أجل المستضعفين ومن أجل قضايا وطنه وأمته، يهب هبة قوية للنجدة، فمثلك كما قالت خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: واله لا يخزيك الله أبدا، إنك تكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر.. فهذه أحد خصال النبوة فيك. وإن العرب قد قالت عن هؤلاء المنجدين المغيثين خلق الله: صنائع المعروف تقي مصارع السوء. لم تمتد يده بارك الله فيه إلى درهم أو دينار، ولم يغريه لمعان برقهما للاغتناء والتمرغ في المال العام أو أموال المستحقين كما هو صنيع من نراهم اليوم. أبو زيد طاهر السريرة أن تجد طاهر الظاهر والباطن بين الناس اليوم فأنت باحث عن العنقاء، ووسط بحثك واجد بحمد الله تعالى أبا زيد الإدريسي يتربع على صفاء السر والعلانية، يتربع على طهر ظاهر، وسره أطهر من ظاهره. لن تجد تخالفا بين سريرته وعلانيتة أبدا ما عرفته وعرفه الناس. في الأخيرة كلمة لست وحدك أيها المفكر المثقف العالم المعتدل، فكلنا أبو زيد، وكلنا مع أبي زيد، وأنا واحد منهم مهما كلفتني هذا التضامن الشريف من الغالي والنفيس. حفظكم الله، وبارك فيكم، ووفقكم لخير البشرية في الغرب والشرق، وفي كل أرض الله. ولقد شهدت بما علمت وعلمه الآلاف غيري، وقد وجبت شهادة الفئام من الناس فيكم كما هو ثابت عندنا في الدين. وشهدت ثانية ونصرت رجلا تلكم بعض أوصافه وخلاله لأنني لم أرتض للكريم منا إذا قام يبدي رأيه، ويفكر علانية، أن نتفرج على نهش بعض الرهط عرضه وشرفه وعزته وكبرياءه، عزَّ علينا ذلك كله أو حتى الأقل منه، وتقدمنا بالصدق نفديه بالقلم وبالمهج وبأعز ما نملك في هذه الدنيا، كلمة صادقة صادحة حتى يقال يوما: لقد كان هناك وفاء، وكان هناك ود وحب، وكان هناك صدق وإيمان. فاللهم إنا نعوذ بك من أن نضل أن نضل، أو نزل أو نزل، أو نجهل أو يجهل علينا. واحفظ المقرئ الإدريسي أبو زيد من شر الأشرار المستترين والمغرر بهم، آمين، آمين. الدكتور احمد كافي أستاذ التعليم العالي للدراسات الاسلامية البيضاء